ديـر عـلا.. حديـث التـل! 1و 2 و 3

ديـر عـلا.. حديـث التـل! (1-3)


بصمت، وبمهابة، يكون الصعود إلى قمة تل دير علا..
بصمت.. وكأن المرتقى إلى هناك محفوفا بهالة مهابة المكان، الذي يجعل من صفحات التاريخ تتفتح زهورا معبرة عن نفسها، كما بساط الدحنون الذي تمازج مع تراب التل عند مدخله، وكما تلك الطريق الملتوية التي تتبعنا مسارها، أنا والصديق الفنان خلدون الداود، من السلط مسافة 30 كيلومترا حتى الوصول إلى هنا، حيث دير علا، وحيث جيرة نهر الأردن الذي يتهادى غرب القرية على بعد 5 كيلومترات منها، وأيضا هنا عبق من ذاكرة الغور، وقريبا مني ملامح جسر داميا، وليس بعيدا عني هناك نهر الزرقاء.. ورغم أنني على انخفاض حوالي 224 مترا تحت سطح البحر، إلا أنني من هنا أكاد أسمع رجع صدى مرور الطيبين الصالحين من الصحابة والأنبياء الذين مروا من هذا المكان.
بصمت أمشي، فأصل حتى قمة تل دير علا.. وأسرح بعيني، فأرى حولي هدوءا صامتا، ومفعما بالحياة، وأينما يممت وجهي أرى لونا أخضر يحاكي سمرة الناس، ونبض التراب، وذاكرة الماء والزراعة في تلك المساحة من الغور التي كنا نمر بها سريعا في الرحلات، ولا نتوقف إلا قليلا بهدف الشراء، أو البحث عن شجرة للجلوس تحتها ما تيسر من الوقت قبل المضي إلى أماكن أخرى في الغور، لكن هذه المرة سيكون البحث في داخل دير علا، حيث التل يجاوره تلالا أخرى، وحيث قناة الغور، والسوق، والشجر، وتجاعيد وجوه الكبار الذين يحفظون جزءا من تاريخ المكان، لكنهم لا يعطون ما عندهم، كأنهم يتكيفون مع الصمت، أو يتهيبون من الكلام.

قمة التل

أصل قمة تل دير علا، وكأن هذا المكان هو فاتحة القراءة لتاريخ القرية، ومنه يمكن تأمل واقعها الذي آلت إليه الآن، بعد أن كان عمقها التاريخي والأثري يصل إلى فترات متقدمة تعود أقدمها إلى العصر البرونزي، وهنا أستعيد بعض ما قيل عن تسمية دير علا، حيث يشير البعض إلى أن الاسم جاء نسبة إلى الدير العالي الذي تم اكتشافه داخل تل أثري يتوسط دير علا، ويرى الراسخون في معاني الكلمات القديمة بأن ”علا” قد تكون تحريفا للكلمة الآرامية علالا بمعنى الغلال والمحاصيل، بينما جذر علل في اللغة الآرامية القديمة يعني الحصاد وجمع الغلال.

متحف أثري

ما زلت غائبا في قمة التل..
ها أنا أريد أن أكشف ما أعرف من تاريخ هذا المكان، ويستلبني توق لأن أقلب الكتب هناك، وأستمع رغم كل هذا الصمت إلى حديث التل الذي يشي به، عبر تاريخه، وما كتب عنه، فأعرف أن الآثار التي تم اكتشافها في الدير الموجود في التل، قد أودعت في متحف أثري بني بجانب التل، ويحتوي على قطع أثرية نادرة تم العثور عليها داخل التل وفي مواقع أخرى داخل دير علا التي يوجد فيها مواقع أثرية قديمة، وهنا أعود إلى كتاب (المعالم الأثرية في المملكة الأردنية الهاشمية)، من إعداد منى أحمد الطائي، وفيه إشارة إلى أن دير علا قرية ”سُكنت من العصر البرونزي 1800 ق.م، في الفترة الفارسية حوالي 330ق.م، عُثر فيها على هيكل يعود للقرن السادس عشر قبل الميلاد، فيه وعاء من الخزف المطلي، وأوانٍ فخارية، كما عثر فيها على تمثال رأس حصان وأساور ومخطوطات مكتوبة بحروف أبجدية، تشبه الحروف الفينيقية السامية، ومخطوطات مكتوبة بالسامية”.
وهناك إشارات أخرى تشي بقدم، وعراقة هذه المنطقة، حيث أن بعض الكتابات القديمة تشير إلى أن قرية سكوت التي تعني المظلات كانت من أعمال مملكة سيحون الأموري، وكانت تقوم على تل دير علا، كما أنه إلى الشرق من تل دير علا هناك بقعة أثرية أخرى معروفة هي تلول الذهب، والتي يرجح الباحثون بأنها مدينة فانوئيل القديمة والتي معناها ”وجه الله”، وفي كل هذا إشارة إلى عراقة دير علا، بكل مناطقها، والأماكن المحيطة بها.

دفاتر الطابو

لا أتوقف عند هذا الحد، بل يستلبني تاريخ القرية، فأغيب بين الكلمات، والمخطوطات، والوثائق، رغم أني ما زلت على قمة التل، أتأمل عمق هذا التاريخ وأنا أعيد ترديد ما جمعه الباحث المهدي عيد الرواضية حول دير علا في الجزء الأول من كتابه المهم (مدونة النصوص الجغرافية لمدن الأردن وقراه)، حيث قال: ”ولعل أول من ذكرها(وهنا يقصد بلدة دير علا) مجير الدين الحنبلي، الذي قال في ترجمة أبي عبيدة عامر ابن الجراح: وقبره في قرية يقال لها عثما (تصحيف وصوابه عمتا) تحت جبل عجلون بين فقارس والعادلية بزاوية دير علا من الغور الغربي.
وقيّدت في دفتر الطابو رقم (970) باسم دير علي، وفيه: قرية دير علي مع تل نصر تابع للغور، تيمار مقصود كاتب الدفتر، فيها خمس وثلاثون خانة، وإمام واحد، وخمسة مجردين، حاصل عشر فدادين، يؤخذ من كل فدان غرارتان ونصف من القمح، وغرارتان ونصف من الشعير، وغرارتان ونصف من الذرة، وفيها يتعلق بالقطن والسمسم فهما قسم من الربع كما جرت العادة منذ القديم، وللقرية المذكورة بخشان(حصتان) من كل أربع حصص من ماء عين الزرقا؛ من الحنطة: خمس وعشرون غرارة قيمتها ألف وسبعمائة وخمسون آقجة. من الذرة خمس وعشرون غرارة قيمتها ألف وسبعمائة وخمسون آقجة. من السمسم: غرارتان قيمتهما سبعمائة وعشرون آقجة، وقيمة الحطب مائة آقجة. ورسم الجاموس: ستمائة وأربعون آقجة. ورسم المعزة: مائة وعشرون آقجة. ورسم ا لنحل: ثلاثون آقجة. ورسم الطاحون ستون آقجة، فيكون مجموع ذلك تسعة آلاف وأربعمائة آقجة”.
وفي ذات المدونة هناك استرسال في تصفح دفتر آخر من دفاتر الطابو العثمانية، وهو دفتر الطابو رقم (185)، حيث يورد فيه أن: قرية دير علا من خواص أمير لواء عجلون تابع ناحية الغور، فيها ست وأربعون خانة وأربعة مجردين، وحاصل قرية دير علا بموجب العادة القديمة عن كل فدان عامر غرارتان ونصف حنطة وغرارتان ونصف من الشعير وغرارتان من الذرة؛ من الحنطة: عشرون غرارة قيمتها ألفان وثمانمائة آقجة. من الشعير ثلاثون غرارة قيمتها ألفان وأربعمائة آقجة. من السمسم: غرارة واحدة قيمتها ثلاثمائة وستون آقجة، وثمن القطن مائة وثمانون آقجة. ورسم الجاموس: أربعمائة آقجة. ورسم المعز والنحل: مائتان وستون آقجة. ورسم المعصرة لحجرين معطل، وخراج الأشجار: ثلاثة آلاف آقجة. ومن النيلة رطل واحد تسعمائة آقجة. وبادهو ورسم عروس: مائتا آقجة، فيكون عشرة آلاف وخمسمائة آقجة.”.

وقف الصحابي

كما تشير الدكتورة هند أبو الشعر في كتاب (تاريخ شرقي الأردن في العهد العثماني 1516-1918م)، إلى دير علا كجزء من وقف الصحابي أبي عبيدة عامر بن الجراح، حيث ترد هذه الإشارة في كتابها عند حديثها عن أراضي الأوقاف في الدولة العثمانية، وفيها تقول:” أخذ التعامل مع الأراضي الموقوفة اهتماما خاصا في فترة التنظيمات، وذلك بسبب محاولة الدولة ضبط التعامل مع هذا الصنف من الأراضي، وأبرزها وقف الصحابي أبي عبيدة عامر بن الجراح، الذي يدار من قرية المزار الشمالي. وتقع أراضي هذا الوقف في منطقة واسعة(يحده قبلة أراضي كبد، وشرقا أسفل جبال السلط المتسلسلة مع قسم من جبال عجلون، وشمالا مقام سيدنا أبو عبيدة، وغربا نهر الشريعة وضمنها دير علا والطوال، عدا الأراضي التي ضمن هذه الحدود) وهي أراض تابعة للشرع الشريف”.
ويؤكد على هذا الوقف، وفي ذات السياق الدكتور عليان عبد الفتاح الجالوي في كتابه (قضاء عجلون/1864-1018م)، حيث يعود إلى سجل الحجج الشرعية، فيشير إلى أنه ” في الغور يشار لوقف أبي عبيدة الذي ضم _جميع الأراضي المعروفة بدير علا-أرض سهل- المحدودة من الجهة القبلية نهر الزرقاء، وشرقا الجبل الفاصل بين أرض الغور وجبل عجلون، وتلول الذهب ومن الجهة الشمالية أراضي فقارس وأراضي البويب، وغربا نهر الأردن(الشريعة) الكائنين على حافتي نهر الزرقاء بأراضي غور سيدنا أبو عبيدة، وتحت نظارة النظار، جميع سهلة وعامرة وغامرة مع حق شرب الأراضي المذكورة من الماء من نهر الزرقاء”.

سيرة قرية

تقع قرية دير علا في محافظة البلقاء، على خط الطول 35 دقيقة و37 ثانية شرقا، والعرض 32 دقيقة و12 ثانية شمالا، وهي مركز لواء دير علا، وتتبع إداريا إلى بلدية دير علا في غور الأردن.
تبعد حوالي 30 كيلو مترا شمال غرب مدينة السلط.
الديموغرافيا: يبلغ عدد سكان دير علا حوالي 4553 نسمة (2309 ذكور و 2244 إناث) يشكلون 817 أسرة، تقيم في 973 مسكنا.
التربية والتعليم: توجد في دير علا سبع مدارس هي: مدرسة دير علا الثانوية للبنات، ومدرسة دير علا الأساسية للإناث، ومدرسة دير علا الأساسية المختلطة، ومدرسة دير علا الأساسية للذكور، ومدرسة دير علا الثانوية للذكور، ومدرسة الصوالحة الأساسية المختلطة، ومدرسة تل دير علا المختلطة، وهذه الآن تحت الصيانة.
الصحة: يوجد في القرية مركز صحي شامل.
المجتمع المدني: يوجد في القرية جمعية الرؤى للمكفوفين، وجمعية الوادي الخصيب التعاونية، وجمعية سيدات دير علا، وجمعية الصخرة المشرفة الخيرية، وجمعية تل الفخار الخيرية، وجمعية تحفيظ القرآن الكريم، ولجنة زكاة الصوالحة، ونادي دير علا الرياضي(كان قد الغي، وهو الآن تحت التأسيس مرة أخرى)، ومكتب صندوق المعونة الوطنية.
* البنية التحتية متوفرة في دير علا، كما توجد فيها معظم الدوائر الحكومية، لكونها مركز اللواء.


نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

ديــر عــلا.. حديـــث التـــل! (2-3)



سعيد هو الذي يمرّ على بيوت دير علا ثم يمشي في طرقات القرية..
وتزداد تلك الغبطة حين يكون الصعود في درب التل، والجلوس هناك مع تلك الاستعادة المشرّبة بتلك التفاصيل التي تستحضر ما كان القادم إلى دير علا قد رآه، أو سمعه عند مداخل البيوت، وعلى عتبات الدور، وفي الشوارع والأرصفة، وتحت ظلال أشجار القرية.
وصلت التل.. كنت مغتبطا بما سمعت وما رأيت؛ حيث كانت استراحتي هذه بعد أن مررت قريبا من السوق، ودخلت دربا جانبيا، وجدت فيه شابا سألته عن منزل الحاج سليمان عبد الله سليمان الغراغير، حيث دلني على باب منزله، والتقيته، جليلا بمظهره، يحمل عكازته بيده، غير أن ذاكرته كانت متعبة قليلا، فتحدثنا ما تيسر من قصص معه، وكان يرافقه ابنه في جلسته معنا، ثم خرجنا من عنده، وانتقلنا إلى منزل الحاج محمد عبد الله فضيل الغراغير(أبو عبد الله)، وفي الطريق إلى بيت أبي عبد الله مررنا قرب الباصات العمومية المصطفة هناك، كانت ملامح الوجوه السمراء تظهر من الحافلات وهي تريد ارتحالا من هنا إلى قرى وأماكن أخرى، وبعضها كان قادما، عائدا إلى دير علا، وحين أبطأنا المشي كان محل تسجيلات في زاوية الكراج يصدح من داخله صوت يتغنى بدير علا، وهو ذات الصوت الذي كانت تصدح به أجهزة تسجيل الحافلات العمومية أيضا.

الأغنية.. ذاكرة الموسيقى توقفت قليلا..

تنبهت إلى أن هذا الصوت هو جزء من تراب القرية، والكلمات، واللحن أيضا، هذا بوح آخر أتلمسه في المكان، وكذا فقد كانت الأغنية تتغني بدير علا، وتصفها بطيب الكلام المأخوذ من تراث المنطقة، وذاكرة الأغاني القديمة، كما أن اللحن لم يكن غريبا عن غور الأردن، كان تراثيا، يعبر عن جزء منه صوت الشبابة وسمرة المغني وبحّة الحنجرة وإيقاع التصفيق، كانت كلها توصل رسائل عميقة مبنية على موسيقى وأغنيات ولدت من رحم تلك الأرض.. تأنيت قليلا حيث التقطت بعض كلمات تلك الأغنية التي يقول فيها المغني: (يا دير علا.. يا دير علا يا دير علا.. الغور جنه وانت أجمل حورها من الماس أغلى.. يا دار اهلنا عطرها وبخورها يا دير علا.. يا دير علا يا دير علا بهار ودله دار الكرم دارها) وتستمر الأغنية، وأهل دير علا يترنمون بها، ويتابعون أعمالهم بكل عطاء، بينما صاحب الأغنية التي حين صورها كانت تظهر معه لقطات مختارة في معظمها من قرية دير علا، احتفاء بالمكان والإنسان فيها، فجاءت الأغنية بصوت علاء مشاهرة(أبو شادي)، وهي من كلمات عبد الرحمن الحجيلة.

الحدود والتلال

دخلت بيت الحاج محمد الغراغير، كان حوله أبناءه، ثم بعد قليل من الوقت التحقت بنا هناك النائبة آمنة الغراغير، وتم بعد ذلك تقديم ''كاسات الشاي بالنعنع''، تلك الضيافة المشربة بحلاوة الأرواح، ورائحة التراب، وعبق التاريخ.
بدأنا حديثا وديا، دافئا حول دير علا، وأسترسلنا في من خلال التفاصيل المتاحة والتي استطعنا رصدا لها، حيث كان المرور على حدود دير علا التي يتتبعها الكبار بقولهم أنه ''يحدها من الشرق أبو الزيغان، ومن الغرب نهر الأردن، ومن الشمال بلدية ضرار، ومن الجنوب بلدية معدي''.
ثم مع تلك الإطلالة الجغرافية كان المرور على التلال الموجودة في دير علا، وقد عرفت القرية بشكل رئيسي من خلال تل دير علا المعروف فيها، والذي مررنا على بعض تاريخه، وسيكون هناك استكمالا لتلك المعلومات حول التل خلال ما سيكون من بوح في هذه المرة، ولكن قبل ذلك هناك ذكر لتل أبو صربوط، وتل سعد العلي/أو تل الجعدان، وتل الفخار الواقع غربا وهو أقرب إلى طمي نهر الأردن وفيه كان يوجد مصنع فخار في الأزمنة القديمة.

المعبد

وحتى يمكن الإحاطة بالذاكرة المرتبطة بالتل، هنا لا بد من استكمال كل ما تم رصده من تاريخ متعلق بالتل، وأقصد تل دير علا، لعدة أسباب، أهمها سبب متعلق بالتاريخ، وبتصحيح مغالطات كانت قد وردت في الكتب القديمة، وخاصة في التوراة حول نبي أو كاهن أو عراف مؤابي قديم كان حاضرا في شرق الأردن(تختلف صياغة التسمية له بين مرجع وآخر)، وقد جد نقش مهم له في تل دير علا.
مرورا إلى البدء مرة أخرى، حيث كانت بداية الاستيطان في تل دير علا يعود إلى العصر البرونزي المتوسط 1700 قبل الميلاد، واستمر هذا الاستيطان حتى القرن الرابع قبل الميلاد، وأبرز المكتشفات في التل اكتشاف معبد يعود إلى العصر البرونزي المتأخر 1200 قبل الميلاد، واستمر استخدام المعبد حتى 1600 قبل الميلاد، وقد تم اكتشاف كثير من اللقى الأثرية داخل المعبد. كما أنه قد استخدم سطح التل الحالي في الفترة الواقعة ما بين القرنين السادس عشر الميلادي، والثامن عشر الميلادي كمقبرة لسكان المناطق المجاورة، وتبلغ مساحة التل الأثري ما يقرب 29 دونما.

بلعام بن باعور

أهل دير علا يقولون بأن ''التل كان دير كنسي، مكان للعبادة، يطل على فيضان نهر الأردن''، وهم يتوقفون قليلا، وبعد ذلك يشيرون إلى الحفريات الهولندية في التل، ويذكرون اسم العالم الهولندي فرانكلين، ولكن دون أن يعطوا معلومات كافية وتفصيلية، ولذا فقد كان لا بد من العودة إلى المراجع، والدراسات التي وثقت تلك الحفريات في التل، حيث تشير تلك الكتابات إلى أنه قد تمت مجموعة من الحفريات الآثارية من قبل الهولنديين في تل دير علا وكانت قد بدأت عام 1960م واستمرت في المنطقة حتى كانت المحصلة في عام 1967م، حين عُثر على نقش مكتوب بالحبر على جدران الدير وهو مرتبط بنبوءة النبي بلعام بن باعور، وتشير الدراسات إلى أن هذا النقش يعتبر من الوثائق التاريخية النادرة التي يحدد فيها اسم نبي بنقش أثري.
ولكن لا بد من الإطلالة أكثر على هذا النقش، لأهميته، فهو مكتوب باللغة الآرامية القديمة على جدار مغطى بالبلاستر (مادة طبشورية)، وقد اعتقد أن هذا الجدار هو أحد الجدران لغرفة مدرسية، وكتب هذا النقش باللونين؛ الأحمر المستخرج من أكسيد النحاس، والأسود المستخرج من سنا الأسرجة، وهن مقاربة يمكن توصيفها بالنقوش على الجدران التاريخية للدير حيث كتبت النقوش بالحبر الأسود، بينما العنوان والإطار وبعض المقاطع فيه بالحبر الأحمر.

نقش آرامي

ما وجد في هذا النقش من نصوص يرجح أنها بلهجة آرامية قديمة، حيث تتضمن أحاديث عن رؤيا تلقاها في الليل كاهن متنبئ يدعى بلعام بن باعورا، وفيها خبر سىء بينما في اليوم التالي ينقل الكاهن هذه الرؤيا إلى الناس المحيطين به.
هنا لا بد من تتبع المعلومات بعناية، وتحليلها بدقة، ولكن لأن النقش غير مكتمل فقد تم تجميع النص، التعبير عنه على النحو التالي:''جاءت الآلهة في الليل وكلمته حسب هذه الكلمات وقالوا هكذا لبلعام بن باعورا؛ ظهرت الشعلة الأخيرة، ظهرت نار للعقاب، فنهض بلعام في الغد.. أياما.. وما كان يقدر أن يأكل وبكى بكاء كثيراً، فدخل إليه الناس وقالوا لبلعام بن باعورا لماذا تصوم ولماذا تبكي؟ فقال لهم اجلسوا فأريكم كم هو عظيم الشر، وتعالوا انظروا أعمال الآلهة. لقد اجتمع الآلهة، والمقتدرون التأموا وقالوا لشمش: أخِط، أقفل السماء بغيمك ولتكن ظلمة لا بهاء، ليكن ظل لا شعاع، لأنك تثير الرعب بغيمة مظلمة ولا تضجّ بعد..''.
هذا النقش رُتب في قوالب عمودية، حيث أن العمود الأول تضمن 37 سطرا، وارتفاعه 84 سم، ولكن سطوره غير مكتملة، أما العمود الثاني فتقرأ منه عشرة سطور كاملة، وتظهر وكأنها مقتطفة من كتاب خاص بالنبي أو الكاهن بلعام بن باعورا الذي عُرف في القرن الثامن قبل الميلاد في وادي الأردن، ولعل هذا جزء من كتابه، كما أن البحوث تشير إلى أن هذا الموقع قد دمر في زلزال في حوالي عام 750 قبل الميلاد.

سطو على التاريخ

وهنا نشير إلى مدونة ''هنا دير علا، عروس وادي الأردن''، على شبكة الانترنت، وفيها معلومات حول آثار دير علا يكتبها المحامي رأفت خليل البهادلة، حيث أنه بعد أن يمر على ما كنا ذكرنا جزء منه، ثم يعزز هذه المعلومات بما ذكره توماس وطسون حول تلك الآثار، ودلالتها، ونقضها لكثير من الروايات التاريخية للتوراة.
وبذلك يكون تل دير علا شاهدا تاريخيا آثاريا له أهميته وعمقه حيث ترد دلالة نقوش تل دير علا في كتاب توماس وطسن حيث يقارن وطسن ما ورد في القصة التوراتية مع الشواهد المادية العلمية الآثارية لنقوش دير علا التي وردت في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، ويدلل على وجود تعارضا زمنيا يقدر بأربعة قرون بين ما ورد في النص التوراتي وبين نقش دير علا، وبمقارنة مستفيضة اعتمادا على نقش دير علا يصل وطسن إلى نتيجة أن هذا الأمر يدل على أن بعض قصص العهد القديم تنتمي إلى التراث الأدبي العريق لمؤاب القديمة، لكنها كتبت بعدها بقرون عديدة، ولكن بروح أخرى وأهداف مغايرة.
ولعل هذا السطو على النقوش القديمة، وعلى التراث العربي، ومحاولة مصادرته، هو قديم، وهذا دليل علمي عليه، ولذا فربما يحمل نقش دير علا رسالة لإعادة قراءة كثير من الكتب والمسلمات القديمة بعين علمية معتمدة على تلك البحوث والتنقيبات الآثارية، مثلما حدث في دير علا.


دير علا.. حديث التل! (3-3)



كتابة وتصوير مفلح العدوان - تتهيأ الآن دير علا لتنقل أحاديث الناس فيها عن فسيفساء حضورهم فيها، وهي التي تنبض بحراكهم النشيط فيها، إذ أنها تشكل سوقا للمنطقة حولها، وهي مركز للواء دير علا، ولها عمق تاريخي ترك بصماته على الأمكنة فيها، فصارت وحدة الحال بين المكان والإنسان فيها.
الجلسة استمرت مع الحاج سليمان عبد الله الفضيل الغراغير(أبو خليل)، والحاج محمد عبد الله الفضيل الغراغير(أبو عبد الله)، والنائبة آمنه الغراغير، وغيرهم ممن استطعنا لقاءهم من أهل القرية، وكانت الأمنية أن نلتقي بعدد أكبر خلال هذه الزيارة لكننا نترك أية إضافة على ما اجتهدنا في توثيقه الآن لتأتي على هيئة رسالة تضيف على ما استطعنا رصده من بوح في هذه الزيارة إلى دير علا.

الخريطة الاجتماعية

بحسب إحصاءات السكان في عام 1961م كان يقطن دير علا 1190 نسمة، 609 من الذكور و 581 من الإناث، كلهم من المسلمين، وبينهم تسعة من المسيحيين، وكان بها مدرسة ابتدائية وإعدادية للبنين بلغ عدد طلابها في العام الدراسي 1966/1967م 167 طالبا، كما أنه كان في دير علا مدرسة ابتدائية لوكالة الغوث، وكان عدد طلابها للعام الدراسي 66/1967م 53 طالبا و128 طالبة.
ومن هذا المدخل للسكان والتعليم تكون الإطلالة على الذاكرة الاجتماعية للقرية، حيث يقول كبار القرية أنه في عام 1832م جاء رحالة ألماني وقام برسم تل دير علا، ولا يعطون تفصيلات عن زيارته إلى هذا المكان، لكنهم يكملون بوحهم عن قريتهم بالدخول مباشرة إلى الخريطة الاجتماعية للناس في دير علا القرية، وليس اللواء، مشيرين إلى أنها تتشكل اجتماعيا من عائلات متعددة بلورت هذا المزيج الطيب فيها، حيث أن العائلات المقيمة في قرية دير علا هي الغراغير، والفاعور، والعلاقمة، والمشاهرة، والديّات، والربيع، والشطّي، والنعيم، والصوالحة، والجبارات، والفالوجي، والنشّاش، وغيرهم من العائلات الأخرى.

استقرار بعد ترحال

هنا سيكون الوقوف قليلا عند تفاصيل تاريخ تلك العائلات التي شكلت باستقرارها جزءا من تاريخ دير علا، ولذا فسيكون تصفح سيرتها من خلال ما ذكره فريدريك ج بيك في كتابه (تاريخ شرقي الأردن وقبائلها)، حيث يكون البدء تتبع سيرة العائلات التي يتبعها الكتاب الى عشيرة المشالخة وهي كل من الديّات والربيع والعلاقمة والغراغير والفاعور والمشاهرة، ثم يذكر أسطرا عن كل فرع منها، حيث يشير الى أن الديّات هم بطن من عشيرة الحوارات من عباد، ومنازلهم بغور دامية . أما الربيع فيقول بأنه يغلب الظن بأنهم من بني عقبة لأن نخوتهم (بني عقبة)، ومنازلهم بجوار جسر دامية في الغور . وعن العلاقمة يذكر بأنهم يزعمون أنهم من أعقاب الشقيري التركماني الذي كان نازلا في مرج ابن عامر منذ 500 سنة تقريبا، ومنازلهم بغور دامية . بينما يشير الى الغراغير بأنه يقال أن أصلهم من مصر. سكنوا أولا في قرية برير بجوار غزة، ثم رحلوا الى الغور، ومنازلهم بغور دامية . والفاعور هم بطن من آل الفضل من عرب الشام، وآل الفضل بطن من ربيعة من طي القحطانية، ومنازلهم بغور دامية . والمشاهرة فرع من المشاهرة، احدى عشائر الرولة، والرولة بطن من وائل من ربيعة من العدنانية، ومنازلهم بغور دامية .
وبالنسبة للشطي، ففي الكتاب يشير اليهم فريدريك بيك باسم الشطيه، ويذكر في الكتاب عنهم بأنه يقال أنهم قدموا من غور المزرعة بالكرك. ومنازلهم بجوار مقام أبي عبيدة في غور دامية. لربما أنهم سموا بذلك لأنهم كانوا يعيشون أولا على شاطىء البحر الميت واليوم على شاطىء الأردن .

أكثر من مكان

أما عن الصوالحة فهذه التسمية ترد في كتاب فريدريك بيك في أكثر من موقع ومكان في الأردن، حيث يشير في واحدة من تسمياتها بأن الصوالحة فرع من العمرية القاطنين في قريتي دير يوسف وحبكا من أعمال الكورة، ويفارقون عنهم من محمد الغزالي. نزح جدهم اسماعيل بن خلف الى سمخ، وبعد وفاته هاجر ابنه حسين الى سما، ولم يطل السكنى فيها، بل رحل الى أم قيس، فكان له أعقاب فيها يعرفون اليوم بالصوالحة .
وفي موقع آخر في الكتاب يشار الى الصلاحات كحمولة من عشيرة الشراب من الزيود من بني عباد. ويذكر اسم العائلة أيضا في الشوبك، وكنت هذه العشيرة من العشائر التي كانت تحرس قلعة الشوبك.
ولكن على شبكة الانترنت يرد اسم هذه العائلة تحت اسم عائلة الصلاحات في دير علا، وهنا يشار الى أن للعشيرة جذور من الحجاز، وقد جاءت الى معان وسكنت هناك، والجد الأكبر للعائلة وهو علي الصلاح مدفون في معان،وتستمر السيرة بأنه قد خرج بعض أفراد العائلة الى فلسطين، وتمركزوا في نابلس والخليل، وعاد جزء منهم وسكن في غور الأردن، ثم انه عندما مرّ الملك عبد الله الأول في معان، خرج معه جد الصلاحات حسين، وجاء معه، واستقر بعد ذلك في دير علا، حيث أنه يتم تقسيم عائلة الصلاحات في دير علا الى حسين، وحسن، وعقلة، والحمود ، كما أن هناك اشارة أخرى الى أن أصل العائلة من سهول بيسان شمال فلسطين، ويمكن التوفيق مع هذا الاحتمال اذا ما عرفنا حجم انتشار العائلة التي تحمل الاسم في معان، وصويلح، والشام، وفي أكثر من مكان، حيث تم عمل نوع من التآلف أوالجمعية بين صلاحات دير علا، وصلاحات التعامرة، وصلاحات معان، وصلاحات طلوزة .

حمامات فاطمة

كما أن أهل القرية، يرجعون إلى ذاكرة الكبار فيها ليرصدوا التقسيمات الجغرافية في دير علا بحسب الأحواض فيها، حيث يرصدون من الأحواض كلا من حوض الحمة، وحوض الدباب، وحوض البراك، وحوض اليهودية.
ويوثقون أوائل البيوت فيها بأن أول بيت حجر في القرية هو مدرسة دير علا للذكور، والتي أصبحت الآن هي مدرسة دير علا الأساسية للبنين، كما أنه كانت توجد في القرية عدة طواحين حبوب، وتلك بقيت راسخة في الذاكرة، وهي طاحونة أحمد النعيم، وطاحونة سليمان الفزاع الحوارات، وطاحونة محمد الفاعور، وطاحونة أبو سليم الدرباشي، وهذه الأخيرة هي الأحدث من بين كل تلك الطواحين.
ولكن عند تصفح كتاب الدكتور محمد عدنان البخيت دراسات في تاريخ بلاد الشام/الأردن ، فنلاحظ أن يشير إلى طواحين دير علا في جدول الطواحين في لواء عجلون، وحصة الدولة أو من يمثلها من الرسوم المجباة عنها، وهو يعتمد في جدوله هذا على دفتر مفصل لواء عجلون، طابو دفتري رقم 185، ص81-88، وهنا يقول الدكتور البخيت بأن دير علا كان بها في تلك الفترة طاحونتان، وتحت قيمة الرسوم المجباة بالآقجة كتب كلمة (خراب). وفي جدول آخر في ذات الكتاب للدكتور البخيت يشير المعاصر في لواء عجلون، ويمر على دير علا على أساس أن قيمة الرسوم المستحقة على معصرة الزيتون في دير علا/ الغور هي 80 آقجة، بحسب دفتر مفصل عجلون رقم 185.
أما المغائر فتشي الذاكرة باسم مغارة سعيد، ثم بعدها تتم الإشارة إلى حمامات فاطمة النبية، وهنا يستدرك الكبار بأن هذا الإسم مرتبط بتسمية تطلق على حشرة طائرة في المنطقة يطلق عليها أهل القرى تسمية فاطمة بنت النبي، وهذه كانت منتشرة بكثرة عند تلك الحمامات فتم إطلاق اسمها على تلك الحمامات.

الدكاكين

يقف كبار القرية قليلا عند الجانب الاقتصادي في دير علا، وهنا يتحدثون بأن سوق الخضار في دير علا هو من أقدم أسواق الأغوار، ويكملون بوحهم بإشارتهم أن الحسبة القديمة للقرية هي حسبة الفالوجي، بينما الكازية الموجودة في دير علا والقريبة من التل فكانت قديمة بالنسبة للمنطقة وهي لفؤاد سبانخ، ولكن أقدم دكان في القرية هو دكان سلمان الفضيل الغراغير، وكذلك دكان عبد الشهاب الغراغير . وحول تسمية الصوالحة الذي أطلق على واحدة من مناطق القرية فله قصة يرويها الكبار بأنه كان لعائلة الصوالحة بيوت في تلك المنطقة التي صار عندها مجمع سيارات، وانتشر الاسم على مجمع السيارات كوصف لمكانه، ثم أطلق على المنطقة، وهو اسم مأخوذ من اسم عائلة الصوالحة.

قبل ال(67)

الذاكرة البعيدة تعيد أهل دير علا إلى ما قبل ال(67)، حيث يوصلهم البوح إلى الإشارة بأنه كانت فيما مضى حركة الشراء الأكثر هي مع مدينة نابلس في فلسطين، ذلك أن المسافة بينها وبين دير علا أقرب منها باتجاه السلط.
ويتحدث الحاج سليمان عبد الله الفضيل الغراغير (أبو خليل) وهو من مواليد عام 1936م قائلا بأنه خدم منذ فترة طويلة في الأمن العام، وكان قائدا للمخفر في عدة مناطق في الأردن وفلسطين، وجزء من خدمته تلك قضاها في القدس والخليل، وقد تزوج في بداية الستينات من الخليل أثناء تأديته الخدمة هناك، وكان قائدا لمخفر فيها، وزوجته من عائلة قزاعر، وهو يتذكر تفاصيل الأماكن والشوارع هناك في الخليل والقدس.



سيرة قرية


تقع قرية دير علا في محافظة البلقاء، على خط الطول 35 دقيقة و37 ثانية شرقا، والعرض 32 دقيقة و12 ثانية شمالا، وهي مركز لواء دير علا، وتتبع إداريا إلى بلدية دير علا في غور الأردن.
تبعد حوالي 30 كيلو مترا شمال غرب مدينة السلط.
الديموغرافيا: يبلغ عدد سكان دير علا حوالي 4553 نسمة (2309 ذكور و 2244 إناث) يشكلون 817 أسرة، تقيم في 973 مسكنا.
التربية والتعليم: توجد في دير علا سبع مدارس هي: مدرسة دير علا الثانوية للبنات، ومدرسة دير علا الأساسية للإناث، ومدرسة دير علا الأساسية المختلطة، ومدرسة دير علا الأساسية للذكور، ومدرسة دير علا الثانوية للذكور، ومدرسة الصوالحة الأساسية المختلطة، ومدرسة تل دير علا المختلطة، وهذه الآن تحت الصيانة.
الصحة: يوجد في القرية مركز صحي شامل.
المجتمع المدني: يوجد في القرية جمعية الرؤى للمكفوفين، وجمعية الوادي الخصيب التعاونية، وجمعية سيدات دير علا، وجمعية الصخرة المشرفة الخيرية، وجمعية تل الفخار الخيرية، وجمعية تحفيظ القرآن الكريم، ولجنة زكاة الصوالحة، ونادي دير علا الرياضي(كان قد الغي، وهو الآن تحت التأسيس مرة أخرى)، ومكتب صندوق المعونة الوطنية.
* البنية التحتية متوفرة في دير علا، كما توجد فيها معظم الدوائر الحكومية، لكونها مركز اللواء.



دعوة للمشاركة

هذه الصفحة تؤسس لكتابة متكاملة حول القرى الأردنية، وتطمح لتأسيس موسوعة جادة شاملة. ولن يتأتى هذا بجهد من طرف واحد، فما يكتب قد يحتاج إلى معلومات للإكتمال، أو قصص أخرى لم يلتقطها الكاتب في زيارة واحدة، وهي مفتوحة للإضافة والتعديل قبل أن ترتسم بشكلها النهائي لتكون وثيقة لكل قرية، والأمل بأن تأتي أية إضافات أو تصويبات أو معلومات أخرى من أهل القرى والمهتمين مع اقتراحاتهم، وعلى هذا العنوان:
بوح القرى
ص. ب - 6710 - عمان -11118
فاكس- 5600814
بريد الكتروني
alqora@jpf.com.jo

تعليقات