أسد الاردن / قصة ملك 14-20

أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة الرابعة عشرة) بعد حرب الخليج بدأت العوارض الصحية .. وتغير مزاج الملك حسين

العاهل الاردني الراحل وافق على شروط بيكر وذهب الى مدريد خشية ان يجد نفسه واقفا بمفرده على الرصيف

العاهل الأردني مع اسحاق رابين وبيل كلينتون
لندن: «الشرق الأوسط»
ظهرت فكرة الوفد الأردني ـ الفلسطيني المشترك خلال شراكة السلام بين العاهل الأردني وياسر عرفات خلال عامي 1985 و1986، إلا انها لم تعد قائمة عقب فض الأردن ارتباطه بالضفة الغربية وتطبيق النظام الديمقراطي لاحقا في الأردن. وفي لقائه معه في 14 مايو (أيار) ابلغ الملك حسين جيمس بيكر وزير خارجية الولايات المتحدة وقتها بأنه على استعداد لتشكيل وفد مشترك ولكن فقط في حال طلب الجانب الفلسطيني ذلك. وللمزيد من التحفيز أبلغ بيكر الملك حسين بأن الولايات المتحدة ستقدم للأردن قريبا مساعدات غذائية بقيمة 27 مليون دولار رغم اعتراضات الكونغرس. ترى، لماذا وافق العاهل الأردني على لعب دوره وفق الشروط الأميركية؟ ببساطة، لأنه صدّق بيكر عندما قال له ان «حافلة السلام ستأتي مرة واحدة، وان كل من يفشل في الركوب على متنها سيجد نفسه واقفا بمفرده على الرصيف». وكان انتهاء الحرب الباردة 1990-1991 والانتصار في حرب الخليج بمثابة دافع قوي لمشاركة الولايات المتحدة مجددا في عملية السلام في الشرق الأوسط، وكانت الشخصية الرئيسية في ذلك المشروع جيمس بيكر، الذي عرف في أوساط الساسة الأميركيين بميزة نادرة تتمثل في تعامله الجدي والصارم مع الجانبين الإسرائيلي والعربي على حد سواء.

وتكشف حلقة اليوم من كتاب أسد الاردن الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر بنغوين ومؤلفه آفي شليم المؤرخ والبروفسور في جامعة اكسفورد اجواء ما بعد حرب الخليج والعوارض الصحية التي بدأت تظهر على العاهل الاردني الراحل وتغير مزاجه النفسي وقصة المشاركة في مؤتمر مدريد وما لحقها من تطورات.

أزمة الخليج كانت لها آثارها النفسية والعاطفية والصحية أيضا على الملك حسين، فقد عانى من سلسلة من العوارض الصحية خضع إثر احداها للعلاج لبضعة أيام في المستشفى لتنظيم ضربات القلب. وفي العام التالي أشارت تشخيصات طبية لأول مرة إلى إصابته بالسرطان. وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي برزت خلال فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، لم يشهد مزاجه تحسنا يذكر. وتصف الملكة نور حالة الملك حسين في تلك الأيام في كتابها بعنوان Leap of Faith: Memories of an Unexpected Life، الذي صدر عام 2003: «كان قد بدأ ينعزل أكثر في عالمه الخاص وكأنه يحاول قطع صلته بأي شيء يذكّره آلام أزمة الخليج. وعلى غير المألوف بدأ يتجنب التعامل مع المشاكل المعقدة. كان يقول باستمرار انه يشعر بتعب بالغ، حتى إذا تعلق الأمر بحل مسائل أبوية. لم يقلص من مسؤولياته، لكنه أصبح أكثر انعزالا وابتعادا مما يحدث في العمل وفي المنزل، وهذا تطور غير مألوف لرجل درج على المشاركة بنشاط أكثر من المعتاد في كل شيء يفعله». خرج الأردن من حرب الخليج موحدا على الصعيد الداخلي ولكن معزولا على الصعيد السياسي ومنهارا اقتصاديا. فقد أشارت تقديرات جاءت في تقرير صدر عن الأمم المتحدة إلى أن خسارة الأردن نتيجة أزمة الخليج كانت 1.5 مليار دولار أميركي عام 1990 وصلت إلى 3.6 مليار دولار عام 1991. الحجم الحقيقي لخسارة الأردن يمكن قياسه بالأخذ في الاعتبار ان إجمالي الناتج المحلي في عام 1990 كان 4.2 مليار دولار أميركي و4.7 مليار دولار عام 1991. وعلاوة على كل مشاكله الأخرى، كان على الأردن استقبال حوالي 300000 من اللاجئين الفلسطينيين ـ الأردنيين بالإضافة إلى عرب آخرين طرودا من الكويت عقب الغزو العراقي. وواصل ولي العهد الأردني الأمير حسن باسلوب قيادي نشط التعامل مع التبعات المترتبة على أزمة الخليج على الصعيدين المالي والإنساني، إلا ان المشكلة كانت سياسية بقدر ما كانت اقتصادية، وتمثل التحدي الرئيسي في كيفية إخراج الأردن من المستنقع السياسي حتى يتم استئناف تدفق المساعدات الخارجية. اما الملك حسين، فقد واصل في مواجهة التحدي من خلال إبداء موقف أردني تعتبره الولايات المتحدة ايجابيا، إذ أيد عملية السلام برعاية الولايات المتحدة وصياغة مواقفه على أساس التفاهم الاستراتيجي الذي توصل إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق شامير عشية حرب الخليج. وبدا شامير مؤيدا لمساعي الملك حسين الرامية إلى إصلاح علاقته بالولايات المتحدة، لكنه كان محجما عن المشاركة في عملية السلام. انتهاء الحرب الباردة 1990-1991 والانتصار في حرب الخليج كانا بمثابة دافع قوي لمشاركة الولايات المتحدة مجددا في عملية السلام في الشرق الأوسط، وكانت الشخصية الرئيسية في ذلك المشروع وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر، الذي عرف في أوساط الساسة الأميركيين بميزة نادرة تتمثل في تعامله الجدي والصارم مع الجانبين الإسرائيلي والعربي على حد سواء. وكان الهدف الذي يطمح بيكر إلى تحقيقه هو جمع أطراف النزاع حول طاولة المؤتمر بغرض معالجة كل جوانب الصراع العربي الإسرائيلي. وكان بيكر قد زار منطقة الشرق الأوسط عدة مرات عقب إسدال الستار على حرب الخليج الثانية، لكنه تجنب متعمدا زيارة الأردن في أول رحلتين له إلى المنطقة وكان يهدف من ذلك إلى توجيه رسالة إلى عمان مفادها انه غير راض عن موقف الأردن الأخير. فلقاؤه الأول مع وزير الخارجية الأردني طاهر المصري جرى في جنيف وليس في عمان، لكنه زار الملك حسين في العقبة خلال رحلته الثالثة إلى المنطقة في ابريل (نيسان) 1991. جورج بوش الأب كان لا يزال يشعر بغضب بالغ تجاه الملك حسين إلى حد انه رفض عدة طلبات للعاهل الأردني للالتقاء به. غضب بيكر لم يكن اقل من غضب بوش الأب في هذا الشأن، لكنهما كانا يدركان جيدا انه لن تكون هناك عملية سلام بدون المشاركة النشطة للأردن. فدور الأردن كان مهما للغاية في إقناع الفلسطينيين بالمشاركة في المؤتمر المقترح. كان هناك عدم رضا أيضا تجاه منظمة التحرير الفلسطينية بسبب موقفها المؤيد للعراق عقب غزوه للكويت في أغسطس (آب) 1990، وبدا بيكر مصمما على استبعاد منظمة التحرير الفلسطينية والسماح لشخصيات معتدلة من الأراضي المحتلة بتمثيل الفلسطينيين في المؤتمر. وكان الحل الأمثل في نظره هو مشاركة وفد أردني ـ فلسطيني، إلا ان هذا الخيار يعني حاجته إلى تعاون الأردن. غير ان بيكر كان يدرك جيدا ان الملك حسين كان على استعداد كامل لفعل أي شيء في سبيل إنهاء عزلته السياسية واستعادة ثقة الولايات المتحدة فيه. وأبلغ بيكر الملك حسين خلال لقائهما في العقبة ان واشنطن راغبة في التحرك خطوة خطوة لتنسى ما حدث ولكن فقط في حال مشاركة الأردن بصورة نشطة في المبادرة الأميركية للسلام. كان بيكر يريد أيضا ان يدرك الملك حسين جيدا ان إصلاح العلاقات بين الأردن والولايات المتحدة ستكون عملية لا تخلو من مصاعب، كما ابلغه أيضا بأنه على الرغم من الخلافات بين عمان وواشنطن فإن الولايات المتحدة «ستفعل ما تستطيع للمساعدة في إصلاح علاقات الأردن مع المملكة العربية السعودية». وشرح الملك حسين مطولا لبيكر خلال الغداء الذي جمع بينهما مبررات موقف الأردن خلال حرب الخليج، غير ان بيكر اعتبرها جميعا غير مقنعة. رغم كل ذلك اعتبر بيكر اللقاء مشجعا لأنه العاهل الأردني أدرك تماما ان مساعدة الولايات المتحدة له تتطلب بالضرورة لعب دوره وفق الشروط الأميركية. الأردن فضل عقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة يهدف إلى معالجة النزاع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية في نفس الوقت وعلى أساس قراري مجلس الأمن 242 و338 ومبدأ «الأرض مقابل السلام»، فيما كان يرى بيكر ان الحل الأمثل هو عقد مؤتمر دولي ترعاه قوة عظمى تعقبه عملية قائمة على التفاوض في مسارين احدهما بين إسرائيل والدول العربية والثاني بين إسرائيل والفلسطينيين. إلا ان الملك حسين لم يبد ارتياحا لهذا الخيار خشية ضياع القضية الفلسطينية، وهي القضية الرئيسية، والخوف من انهيار عملية السلام برمتها. وبعد وقت قصير وافق الملك حسين على المقترح الأميركي وأعلن ان الأردن سيشارك في المؤتمر حتى إذا لم تشارك سورية، كما وافق أيضا على فكرة اسحق شامير بمشاركة وفد أردني ـ فلسطيني ومقترح بيكر بأن تشارك الأمم المتحدة بصفة مراقب. فكرة الوفد الأردني ـ الفلسطيني المشترك كانت قد ظهرت خلال شراكة السلام بين العاهل الأردني وياسر عرفات خلال عامي 1985 و1986، إلا انها لم تعد قائمة عقب فض الأردن ارتباطه بالضفة الغربية وتطبيق النظام الديمقراطي لاحقا في الأردن. وفي لقائه معه في 14 مايو (أيار) ابلغ الملك حسين بيكر بأنه على استعداد لتشكيل وفد مشترك ولكن فقط في حال طلب الجانب الفلسطيني ذلك. وللمزيد من التحفيز أبلغ بيكر الملك حسين بأن الولايات المتحدة ستقدم للأردن قريبا مساعدات غذائية بقيمة 27 مليون دولار رغم اعتراضات الكونغرس. ترى، لماذا وافق العاهل الأردني على لعب دوره وفق الشروط الأميركية؟ ببساطة، لأنه صدّق بيكر عندما قال له ان «حافلة السلام ستأتي مرة واحدة، وان كل من يفشل في الركوب على متنها سيجد نفسه واقفا بمفرده على الرصيف». في واقع الأمر، ظل الملك حسين في انتظار حافلة السلام منذ عام 1967، وظل مصمما منذ ذلك الوقت على ألا تفوته، إلا ان شامير هو الذي لم يكف عن الاعتراض على أجرة الحافلة وسائقها وحقوق ركابها الآخرين وسرعتها وخط سيرها ووجهتها النهائية. الزعيم العربي الوحيد الذي كان شامير يثق فيه هو الملك حسين، إلى الحد الذي دفعه إلى المواجهة مع إدارة بوش الأب. فقد أصر شامير على ضرورة مساعدة الإدارة الأميركية للعاهل الأردني على الرغم من موقفه المؤيد لصدام حسين خلال حرب الخليج الثانية. وطبقا لوجهة نظر شامير، فإن استقرار الأردن كان عاملا حاسما وحيويا لآفاق السلام على المدى الطويل. وخلال واحدة من زيارات بيكر إلى القدس ابلغه شامير بأنه التقى سرا بالملك حسين وان إقامة نوع من الكونفيدرالية مع الأردن في المستقبل البعيد هي الحل الأرجح لمشكلة الضفة الغربية. يضاف إلى ذلك ان شامير استخدم نفوذ إسرائيل في كل من مجلسي النواب والشيوخ لتخفيف حدة الموقف التأديبي تجاه العاهل الأردني بسبب موقف بلده من حرب الخليج. بعض الأميركيين لم يكن على استعداد للنسيان أو الصفح، إلا ان إسرائيل وأصدقاءها في واشنطن لم يعطوا هؤلاء فرصة. ذلك الموقف الغريب من جانب شامير كان استمرارا منطقيا للقائه مع العاهل الأردني في آسكوت خلال عطلة نهاية أول أسبوع في يناير (كانون الثاني) 1990، وعلى وجه التحديد يومي 4 و5 يناير. فقد أصر شامير خلال محادثاته مع الأميركيين على ان موقف الملك حسين خلال حرب الخليج كان مبررا وان ذلك الموقف كان مقبولا من جانب إسرائيل. ويقول المحامي والقيادي في حزب الليكود دان ميريدور انه خلال لقاء له مع بيكر وفريق عملية السلام بعد وقت قصير من نهاية حرب الخليج حثهم على زيارة العاهل الأردني والعمل على إصلاح العلاقات، إلا ان الأميركيين ردوا عليه بصورة حادة: «من أنت؟ محامي الملك حسين؟». على الصعيد الداخلي في الأردن آنذاك، لم يكن الملك حسين في حاجة إلى مؤيدين لأن سياسة تطبيق النظام الديمقراطي أكسبته تأييدا واسع النطاق من كل ألوان الطيف السياسي في الاردن، إلا ان المشاركة في عملية السلام مع العدو لم تجد تأييدا مماثلا. ولإعطاء السلام فرصة، اتخذ العاهل الأردني في يناير (كانون الثاني) قرارا بتعيين طاهر المصري، وهو أردني من أصل فلسطيني، رئيسا للحكومة الأردنية بديلا لمضر بدران الذي أبدى وبعض وزرائه عدم رغبتهم في تفاوض الأردن مع إسرائيل. وكان تعيين رئيس للوزراء من أصل فلسطيني يهدف فيما يبدو إلى إشاعة مناخ من الثقة والوحدة الوطنية، وركز الملك حسين في خطاب التعيين الذي وجهه إلى طاهر المصري على التزام الأردن بالتوصل إلى تسوية سلام عبر التفاوض وبدعم المساعي الدولية الرامية إلى حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي سلميا. إلا ان تنظيم «الإخوان المسلمين» استمر في موقفه المعارض لسياسة الملك حسين للسلام وطرح داخل البرلمان مقترحا بسحب الثقة من الحكومة الجديدة، كما رفض أيضا المشاركة في «المؤتمر الوطني» الذي عقده العاهل الأردني لحشد التأييد الشعبي اللازم لدعم سياسته للسلام.

سورية شكلت عقبة أخرى كان يجب إزالتها من طريق مؤتمر السلام، وقرر الملك حسين من جانبه إجراء محادثات مباشرة مع حافظ الأسد، علما بأن العلاقة بين الطرفين كانت في واقع الأمر جيدة في الظاهر فقط. بيكر كان يشعر بالارتياب تجاه الأسد، وكان يرى ان ثمة فرصة لاحتمال مشاركة الملك حسين من جانب واحد، وكان أيضا يرغب في الحصول على التزام من الأردن للمشاركة في المؤتمر بصرف النظر عن مشاركة سورية. الملك حسين طمأن بيكر وأكد له ان زيارته إلى سورية ولقاء الأسد لأسباب شكلية فقط، على الرغم من ان بيكر كان حذرا، فإنه رأى أن ذلك كان سببا كافيا لإنهاء عزلة الملك حسين السياسية والاقتصادية. توجه الملك حسين إلى اللاذقية في 19 أغسطس (آب) برفقة رئيس وزرائه، طاهر المصري، وأبلغا الأسد بأن بيكر أصر على تشكيل وفد أردني ـ فلسطيني مشترك وانهم وافقوا على ذلك. وأبلغوه أيضا بأن الأردن يفضل ان يكون هناك وفدان منفصلان إلا ان ذلك غير مقبول للولايات المتحدة وإسرائيل، وفي نهاية اللقاء طلبا من الأسد تفهم موقف الأردن، ووافق الأسد على مضض. بموافقة الأسد، بدأت المهمة الشاقة المتمثلة في تشكيل الوفد المشترك ووقع الحكومة الأردنية ومنظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق بشأن أوجه التنسيق والتعاون. تقرر تعيين الدكتور كامل أبوجبر رئيسا للوفد المشترك الذي تشكل من 28 عضوا نصفهم من الفلسطينيين ونصفهم الآخر من الأردنيين، وترأس الوفد الأردني الدكتور عبد السلام المجالي، فيما ترأس الوفد الفلسطيني الدكتور حيدر عبد الشافي وكان ضمن قيادة الوفد أيضا الدكتور فيصل الحسيني والدكتورة حنان عشراوي متحدثة باسم الوفد. خطاب الدعوة الرسمي للمشاركة في مؤتمر مدريد طمأن الأردن على ان المفاوضات ستكون قائمة على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338 وان هدف المؤتمر هو التوصل إلى سلام شامل. وفي خطابه إلى المؤتمر الوطني الأردني في 12 اكتوبر (تشرين الأول) قال الملك حسن مخاطبا الحضور ان السلام يتطلب شجاعة لا تقل عن الشجاعة اللازمة لخوض الحرب وشجاعة لقاء الخصم ومواجهة الصعاب ودفن الأوهام والتغلب على العقبات والدخول في حوار بغرض هدم جدران الخوف والشكوك. وأكد في معرض كلمته ان المفاوضات هي الوسيلة الوحيدة لدفع إسرائيل لقبول مبدأ الأرض مقابل السلام. وإلى جانب السعي إلى التوصل إلى حل للمشكلة الفلسطينية كان لدى الأردن عدة مصالح في ضمان سلامة المفاوضات، وعلى وجه التحديد في الجوانب المتعلقة بالأمن والبيئة والمياه والتنمية الاقتصادية. افتتح مؤتمر مدريد للسلام في 30 اكتوبر (تشرين الأول) 1991 برعاية كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والأمم المتحدة كمراقب، وشاركت وفود من كل أطراف النزاع. كان للأردن هدفان أساسيان في المؤتمر، أولا بدء التفاوض بغرض التوصل إلى حل بشأن نزاعه مع إسرائيل، وثانيا تمكين الفلسطينيين من إجراء مفاوضات منفصلة مع إسرائيل بشأن مستقبل الأراضي المحتلة، بمعنى آخر، كان الأردن يريد ان يتوصل الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي إلى تسوية النزاع بينهما ولكن ليس على حسابه. وجاء واضحا في كلمة كامل أبوجبر أمام المؤتمر ان الأردن يهدف من المشاركة في المؤتمر إلى التفاوض بغرض التوصل إلى سلام دائم قائم على أساس الشرعية الدولية، وركز أبوجبر على قرارات مجلس الأمن التي تجسد مبدأ عدم الاستيلاء على الأراضي بالقوة. اما اسحق شامير فقد ألقى كلمة عكست نظرته الضيقة والمحدودة للنزاع العربي ـ الإسرائيلي وصوّر إسرائيل كضحية لعدوان العرب رافضا الاعتراف بحدوث أي تطور في موقف الفلسطينيين تجاه إسرائيل. قال شامير في كلمته أيضا ان كل العرب يريدون دمار إسرائيل وأن الفارق الوحيد بينهم يكمن في الطرق التي تؤدي إلى هذا الدمار. وبإصراره في كلمته أمام المؤتمر على ان الأرض ليست هي السبب الأساسي للنزاع بين العرب وإسرائيل، اقترب شامير من نسف أساس المؤتمر المتمثل في قرارات الأمم المتحدة ومبدأ الأرض مقابل السلام. كلمة الدكتور حيدر عبد الشافي أمام المؤتمر تضمنت هدفا رئيسيا صادق عليه قادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس وهو إقناع الرأي العام الإسرائيلي بجدية التزام الفلسطينيين بالتعايش السلمي، وتركزت الرسالة الأساسية في كلمته في إنهاء الاحتلال وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، مؤكدا انهم سيسعون بدأب إلى تحقيق هذا الهدف إلى ان تقوم الدولة الفلسطينية. يمكن القول ان الأردن نجح في مؤتمر مدريد في التمييز بوضوح بين الهوية الوطنية الأردنية والهوية الوطنية الفلسطينية ونجح أيضا في إضعاف فكرة الأردن كـ«وطن بديل» للفلسطينيين. تبعا لذلك، بات الأردن حرا في صياغة دبلوماسية السلام الخاصة به تمشيا مع الإجماع العربي العام بدلا عن تحديه، مثلما فعل السادات قبل حوالي عشر سنوات، إلا ان أداء الملك حسين في مجال صنع وصياغة السياسات بات يتأثر بصورة متزايدة بحالة الأرق وبعض المشاكل الصحية الأخرى في أغسطس (آب) 1992، ونصحه أطباؤه بالتوجه إلى «مايو كيلنيك» في مينيسوتا، حيث خضع للعلاج وأجريت له جراحة وعاد إلى الأردن أواخر سبتمبر (أيلول).

لم يحدث أي تقدم يُذكر في عملية السلام سواء على المسار الإسرائيلي ـ الفلسطيني أو الإسرائيلي ـ العربي خلال وجود حزب الليكود في السلطة في ذلك الوقت، إلا ان الموقف الإسرائيلي بدأ يتغير فعليا، على صعيد المسار الإسرائيلي ـ العربي على الأقل، عقب وصول حزب العمل إلى السلطة غداة انتخابات يونيو (حزيران) 1992. على المسار الفلسطيني ـ الإسرائيلي اتسم موقف الجانب الإسرائيلي بالاستمرارية ولم يبدأ تغيير ملموس عقب صعود حكومة حزب العمل إلى السلطة بقيادة رابين، وتبعا لذلك اتسمت المحادثات الرسمية في واشنطن بالبطء، الأمر الذي قاد كل من إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى البحث عن قناة خلفية، وهو قرار كان بمثابة ثورة في السياسة الخارجية الإسرائيلية مهدت الطريق إلى اتفاق أوسلو. جرت المحادثات بين ممثلي الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية خلف جدار سميك من السرية في العاصمة النرويجية، وسارت المحادثات في مسار مواز لمحادثات واشنطن ولكن بدون علم المفاوضين الرسميين عن الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وفي واقع الأمر أصدر عرفات تعليماته للوفد الفلسطيني الرسمي في واشنطن بتبني مواقف لا مساومة حولها بغرض إنجاح الاتفاق السري في أوسلو. اتفاق أوسلو الأول جرى توقيعه في البيت الأبيض في 13 سبتمبر (أيلول) 1993 بمصافحة بين عرفات وإسحق رابين، وتكون الاتفاق من جزئين الأول يتعلق بتبادل الاعتراف بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية والثاني أطلق عليه «إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي في غزة وأريحا». اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا للشعب الفلسطيني، واعترفت منظمة التحرير الفلسطينية من جانبها بحق إسرائيل في العيش في سلام وأمن، كما اتفق الطرفان على حل كل مشكلاتهما المعلقة بالطرق السلمية. ألجمت الدهشة والمفاجأة الملك حسين وحكومته والوفد الأردني في محادثات واشنطن على حد سواء، وقال محمود عباس (أبومازن)، نائب عرفات، انه حاول ثلاث مرات التحدث مع الملك حسين على صعيد خاص لكنه فشل، الأمر الذي اضطره للتوجه إلى عمان في 17 اكتوبر 1992 لتوضيح الأمر للملك حسين من الألف إلى الياء. وأورد أبومازن في مذكراته حول لقائه مع العاهل الأردني لتوضيح ما جرى: «لا أعرف إذا كان الملك حسين قد قبل الأعذار التي سقتها أم لا، ولكن كان له كل الحق في لهجة اللوم والمعاتبة التي أبداها». عرفات أيضا كان قد طلب لقاء عاجلا مع الملك حسين في أواخر أغسطس (آب) لإبلاغه بأن منظمة التحرير الفلسطينية توصلت إلى اتفاق سلام مؤقت مع إسرائيل، وهو خبر أثار قلقا وإحباطا لدى العاهل الأردني، فهو لم يكن أصلا يثق في عرفات، إلا ان أسوأ الشكوك لديه قد تأكدت اثر علمه بأمر الاتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلي. لم يكن لدى الملك حسين بديل آخر سوى القبول بالاتفاق، فقد سبق ان قبل منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا وحيدا وشرعيا للشعب الفلسطيني ولم يعد بإمكانه بعد ذلك الاعتراض على الاتفاق الذي توصلت إليه مع الحكومة الإسرائيلية. الجانب الايجابي للاتفاق بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل تمثل في تمهيد الطريق لتحقيق تقدم على المسار الأردني ـ الإسرائيلي، فعرفات كان قد كسر مسبقا حاجز التوصل إلى سلام مع الدولة اليهودية، وهو واحد من المحرّمات العربية، وبات الآن بوسع الملك حسين المضي قدما في هذا الطريق بصورة علنية.


أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة الخامسة عشرة) ـ الملك حسين أصر على السرية في المفاوضات واستبعاد وزراء الخارجية

العاهل الأردني اعتبر اتفاقية السلام مع إسرائيل «تاج إنجازات» حياته السياسية

الملك حسين يلقي كلمة بعد إتفاق وادي عربة
لندن: «الشرق الأوسط»
كان الملك حسين يشعر بأن هناك حاجة لاتفاقية سلام مع إسرائيل لمواجهة التحدي الذي يمثله المتشددون الفلسطينيون والمتطرفون الإسرائيليون الذين يريدون تحويل الأردن إلى وطن بديل للفلسطينيين. وكان يأمل أن يحقق، من خلال توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، أهدافا أخرى لتأمين وضع العائلة الهاشمية كحامية للمناطق الإسلامية في القدس وإيجاد صلة اقتصادية بالضفة الغربية وحل مشكلة اللاجئين والعون الاقتصادي الأميركي، لكن فوق كل ذلك كان يرى فيها ضرورة لحماية الأردن.

وتروي حلقة اليوم من كتاب أسد الاردن الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر بنغوين ومؤلفه آفي شليم جوانب من العلاقة بين الملك حسين واسحق رابين والثقة التي نشأت بينهما، وتفاصيل عن الاتصالات التي سبقت توقيع اتفاقية السلام في وادي عربة وقادت إليها، وعن تحركات العاهل الأردني لتهيئة شعبه للاتفاقية.

يمثل التوقيع على اتفاقية السلام مع إسرائيل، على حد قول الملك حسين نفسه، «تاج إنجازات» حياته السياسية، كما يمثل أيضا قمة جهود الهاشميين في تأمين المملكة وفي أن يصنعوا لأنفسهم دورا إقليميا ثابتا من خلال تسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وفي هذا المضمار فإن الملك حسين يعتبر وريثا حقيقيا لجده الملك عبد الله بن الحسين. كان الملك عبد الله الأول هو الذي بادر عام 1950 بتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل لكن التسوية الكاملة كانت أبعد مما يستطيعه، وفي العام التالي اغتيل على يد أحد الفلسطينيين. واصل الملك حسين السير على خطى جده لأنه يؤمن ويشارك جده في تصوره للمصالح الحيوية لعائلتهما ولبلادهما. ومن أهم هذه المصالح حماية المملكة الهاشمية الأردنية ضد التهديدات الخارجية. وقد تقلصت هذه المصلحة الحيوية عشية التوقيع على اتفاقية أوسلو إلى حماية الضفة الشرقية ضد التهديدات أيا كان مصدرها سواء كان إسرائيليا أو فلسطينيّاً أو سوريا.

كانت هناك حاجة لاتفاقية سلام مع إسرائيل لمواجهة التحدي الذي يمثله المتشددون الفلسطينيون والمتطرفون الإسرائيليون الذين يريدون تحويل الأردن إلى وطن بديل للفلسطينيين. وكان الملك حسين يأمل أن يحقق، من خلال توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، أهدافا أخرى لتأمين وضع العائلة الهاشمية كحامية للمناطق الإسلامية المقدسة في القدس وإيجاد صلة اقتصادية بالضفة الغربية وحل مشكلة اللاجئين والعون الاقتصادي الأميركي. لكن الدفاع عن المملكة كان يفوق أي اعتبارات أخرى. كانت النية من الاتفاقية هي التجديد والتقنين للتفاهم الاستراتيجي مع إسرائيل حتى لا يتضرر الأردن حينما تتقدم إسرائيل والفلسطينيون إلى التسوية النهائية.

كان حسين كجده عبد الله يعتمد بشكل كبير على الدبلوماسية ذات الطابع الشخصي للعمل من أجل التفاهم مع إسرائيل. كانت الثقة بينه وبين اسحق رابين حاسمة في التقدم على طريق السلام. لكن كان هناك مسؤول إسرائيلي آخر لعب دورا هاما لأنه كان شخصا تنطبق عليه المواصفات المناسبة لدبلوماسية الملك حسين ذات الطابع الشخصي، وهو ايفريم هاليفي نائب رئيس الموساد. شكل هاليفي علاقة وثيقة بالملك تطورت مع الزمن إلى صداقة شخصية. ووثق الملك حسين في هاليفي وكثيرا ما سعى لمشورته حول موضوعات داخلية حساسة لا تهم إسرائيل بشكل مباشر. وكانت المهمة الأساسية لهاليفي هي أن يخدم كقناة اتصال خلفية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي والملك حسين وأن يتدخل عندما تصل المفاوضات إلى طريق مسدود. وقد قام هاليفي بعدد لا يحصى من الزيارات السرية للملك ولأخيه وكانت وتيرة هذه الزيارات السرية منتظمة.

في الشهور الأخيرة من عام 1993 والشهور الأولى من عام 1994 كانت إسرائيل مشغولة البال بانفاذ إعلان المبادئ للحكم الذاتي الانتقالي وبمفاوضات المسار السوري. وكان الملك حسين يشعر بالقلق من أن الأردن سيهمل. وكان لقلقه ما يبرره بسبب رفض الفلسطينيين أن يأخذوا مصالح الأردن في الاعتبار خلال مفاوضاتهم مع إسرائيل. وفي 4 مايو 1994 توصلت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى اتفاقية يمتد الحكم الذاتي بمقتضاها من غزة وأريحا إلى بقية الضفة الغربية. وقد هددت هذه الاتفاقية إمكانية وصول الأردن إلى أسواق الضفة الغربية ووضع الدينار هناك. لكن التهديد الذي مثلته الاتفاقية للاقتصاد الأردني أدى إلى تنشيط المحادثات بين الأردن وإسرائيل التي كانت تتسم بالبطء. في 19 مايو عقد الملك حسين اجتماعا بمنزله في لندن مع اسحق رابين، وكان المشاركون الآخرون في الاجتماع هم الأمير حسن والياكيم روبنشتاين وايفريم هاليفي . سأل الملك حسين رابين عما إذا كان مستعدا للتقدم فيما يتعلق بمسار المفاوضات الأردني، وحصل على رد ايجابي. وفي هذا الاجتماع سمع الملك لأول مرة أن إسرائيل مستعدة لإعطاء الأردن موقعا متميزا في رعاية الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس في أي تسوية سلام مستقبلية. وكانت هذه بمثابة نقطة تحول في المحادثات. وافق الملك حسين على البدء في إعداد مسودة لاتفاقية سلام وان تنقل المفاوضات التفصيلية من واشنطن إلى المنطقة ثم يمكن، من حيث المبدأ، أن يتم عقد اجتماع علني مع رابين في البيت الأبيض. ووعد رابين، في المقابل، بأن يوصي لدى الرئيس الأميركي والكونغرس بإعفاء الأردن من ديونه الأميركية. وقد أعلن الملك حسين نفسه عن القرار بوصفه قرارا مشتركا نشأ بشكل طبيعي عن التقدم في المحادثات.

في يونيو ذهب الملك حسين إلى واشنطن لتنسيق تحركات السلام مع إدارة كلينتون ولعرض قضية تجديد العون الاقتصادي والعسكري الأميركي الذي كان قد قطع إبان أزمة الخليج. وفي الكونغرس وفي أوساط الرأي العام كان ما يزال هناك استياء تجاه الملك والمملكة الأردنية بشأن المواقف في حرب الخليج. وبطلب من الملك حسين أُرسل هاليفي إلى واشنطن ليساعد في الترتيبات من خلف الكواليس. وكان السفير الإسرائيلي في واشنطن حينذاك، البروفيسور ايتامار رابينوفيتش، صديقا وشريكا سابقاً في لعبة التنس لرئيس الوزراء رابين، وكان، هو الآخر، نشطا خلف الكواليس في إطار الضغط لصالح قضية الأردن. لكن إذا كان للملك حسين توقعات بأن يكافأ على خطوته الشجاعة بإجراء محادثات مباشرة مع إسرائيل فلا شك انه كان سيصدم. لقد ابلغه المسؤولون الأميركيون الذين التقى بهم بأنه لكي ينال أي شيء يجب أن يقدم على تحرك أكثر وضوحا نحو السلام مع إسرائيل. وكانت العودة إلى بلاده خالي الوفاض لها مخاطرها. وفي محنته هذه تحوّل الملك حسين إلى أصدقائه الإسرائيليين. أمر رابين نفسه كلا من هاليفي ورابينوفيتش أن يهرعا للإنقاذ. وأثناء اجتماع مع دينيس روس، منسق عملية السلام، جادل هاليفي بشدة لصالح موضوع الأردن، بما في ذلك طلب سرب طائرات من طراز إف – 16 لتطوير قواته الجوية. التفت روس ناحية هاليفي وقال له «قل لي يا ايفريم من الذي تقوم بتمثيله هنا؟ إسرائيل أم الأردن؟» فرد هاليفي من دون أي تردد «الاثنين».

نصح هاليفي الملك حسين بإعداد خطاب مفصّل بمطالب الأردن قبل اجتماعه بالرئيس الأميركي. عقد الاجتماع في البيت الأبيض في 22 يونيو. أدار كلينتون الاجتماع من دون الركون لأي ملاحظات مكتوبة أمامه لكنه كان قد درس بعمق مطالب الأردن. وقد أقنعت مداخلة كلينتون الملك حسين ومساعديه بان كلينتون يبحث بشكل أكيد عن طرق للاستجابة لمطالبهم. بعد أن تحدث كلينتون عما يمكن أن يفعله وما لا يمكن، انتقل إلى عبء ديون الأردن الأميركية والتي تبلغ 700 مليون دولار. قال كلينتون إن إعفاء الأردن من ديونه يعتبر أهم المطالب الاقتصادية الأردنية، لكن الواقع السياسي هو أن الكونغرس سيرفض إعفاء الديون ما لم تتوفر حجة قوية لاستخدامها لصالح الأردن. عرض كلينتون أن يستضيف اجتماعا وطلب من الملك أن يفكر في ذلك. ومن ناحية سياسية فإن المحصلة الرئيسية لهذه الزيارة كانت في المشاركة الشخصية للرئيس الأميركي. وكان ذلك عنصرا مشجعا للغاية بالنسبة للملك حسين لأنه يضع وزنا كبيرا للعلاقات الشخصية. في 4 يوليو بعث الملك حسين برسالة يقترح فيها اجتماعا ثلاثيا على مستوى الوزراء على البحر الميت يسبقه اجتماع بين المفاوضين الأردنيين والإسرائيليين. وفهم الأميركيون أن هذا الترتيب هو طريقة الملك في تطبيع جمهوره وقبل الإسرائيليون ذلك بنشاط وهمة.

ذكر الملك حسين في خطابه للبرلمان في 9 يوليو أن الوقت قد حان بالنسبة للأردن للتقدم بأجندة سلامه الخاص مع إسرائيل وان اجتماعا علنيا مع القيادة الإسرائيلية سيمثل خطوة هامة نحو ذلك الهدف. وبعد ثلاثة أيام من ذلك أرسل الملك رسالة إلى كلينتون يقترح فيها عقد اجتماع علني مع رابين يتم في المنطقة وليس في البيت الأبيض وكان ذلك ردا إعلاميا على اجتماع عرفات مع رابين. لكن الأميركيين يتلاعبون بكل أنواع الحوافز المالية، بما في ذلك إعفاء ديون الأردن. وفي النهاية شعر الملك حسين بأنه مضطر وليس لديه خيار، وقال «هذه هي المرة الوحيدة على الإطلاق التي ساومت فيها مقابل الكسب المادي لبلادي»، وفي اليوم التالي أخطر بأن كلينتون سيقدم على إماطة سر المفاوضات ويعلن عن الاجتماع المقبل في واشنطن. لم يعلم الملك حسين والملكة نور، إلا بعد إعلان الأخبار، أن الرحلة الرسمية ستتضمن مأدبة واحتفالا في البيت الأبيض ودعوة للملك حسين ورابين لمخاطبة جلسة مشتركة للكونغرس الأميركي. وقد منح هذا البرنامج الحافل الملك حسين الفرصة التي كان يبحث عنها لعرض رؤيته عن السلام لصانعي القرار الأميركي مباشرة.

منذ هذه اللحظة تحركت الأحداث بشكل سريع. وفي 18 يوليو ظهر رئيسا وفدي المفاوضات الأردني والإسرائيلي في وادي عربة للإعلان عن بدء مفاوضات السلام بين البلدين. عقد الاجتماع في خيمة أقيمت على الحدود على بعد 17 ميلا شمال العقبة. وقال روبنشتاين في خطابه الافتتاحي إن «الخيمة مؤقتة ولكن السلام دائم». وبعد يومين عقد المجالي وكريستوفر وبيريس اجتماعا علنيا في فندق سبأ على البحر الميت في الأردن. وناقش المجتمعون خططا لقنال على البحر الميت وضم شبكتيهما الكهربائيتين وتحويل صحراء وادي عربة الجرداء إلى «قرية للسلام بزراعة مزدهرة ومراكز صناعية وسياحية» وكان للاجتماع مغزى رمزي عظيم وساعد في تهيئة الجمهور الأردني للقاء أكثر دراماتيكية بين ملكه ورئيس الوزراء الإسرائيلي في البيت الأبيض.

كانت المفاوضات وصياغة ما صار معروفا باسم إعلان واشنطن تجري مباشرة بين الملك حسين ورابين بقناة خلفية بمساعدة أكثر مساعديهم ثقة وهما علي شكري وايفريم هاليفي. أصر الملك حسين على فرض سرية مطلقة وعلى استبعاد وزيري الخارجية، الأردني والإسرائيلي، ووزارة الخارجية الأميركية. ومضت المفاوضات كما أريد لها حرفيا حتى آخر دقيقة. وكما خطط من قبل فإن نص الإعلان لم يكشف للأميركيين حتى الليلة السابقة للاحتفال. وأقيم الاحتفال في حديقة البيت الأبيض في 25 يوليو 1994، وقرأ كلينتون النص ثم وقّعه ضيفاه. وقد أنهى إعلان واشنطن حالة الحرب بين الأردن وإسرائيل وألزم البلدين بالسعي لتحقيق تسوية سلمية عادلة ودائمة استنادا إلى قراري الأمم المتحدة 242 و 338. وتعهدت إسرائيل رسميا باحترام الدور الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية في القدس وأعطت أولوية لهذا الدور في مفاوضات الطور النهائي مع الفلسطينيين. وكانت هذه ضربة قوية لعرفات الذي اعتبر أن السيطرة على الأماكن المقدسة هو امتياز يتمتع به الفلسطينيون وطالب بان تكون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية.

قدم الرؤساء الثلاثة خطبا بليغة في حديقة البيت الأبيض لكن خطبة الملك حسين كانت الأكثر تأثيرا فقد ارتجل خطابا عن السلام بوصفه تحقيقا لحلم. وتحدث بعمق خاص عن الحاجة للتأقلم الذهني اللازم لبلوغ سلام حقيقي. وقد قوبل خطاب الملك حسين الواضح والقاطع بان حالة الحرب قد انتهت بتصفيق تلقائي عاصف ونال قسطا هاما من التغطية الإعلامية في التقارير التي تناولت الاحتفال.

بعد الحفل عبر كلينتون عن دهشته لدرجة التعارف العالية بين الملك حسين ورابين، وسأل «أخبروني، منذ متى يعرف أحدكما الآخر؟» فأجاب رابين «منذ 21 عاما يا سيادة الرئيس»، لكن الملك حسين صححه وهو يبتسم ابتسامة عذبة: عشرون عاما فقط. ثم شدّد الملك حسين على القول بان الشعب الأردني يرغب في التمتع بالثمار المادية للسلام. شرح كلينتون لرابين أن الكونغرس وحده هو الذي يملك سلطة إعفاء ديون الأردن وطلب منه المساعدة في إقناع الكونغرس بذلك فأجابه رابين ببطء «نعم يا سيادة الرئيس سنقوم بأفضل ما نستطيعه». كان هذا الحديث المختصر والمتبادل، يقدم للأردنيين الحاضرين في تلك اللحظة تعبيرا واضحا ومتميزا لمدى النفوذ الذي تتمتع به إسرائيل وأصدقاؤها في أروقة السلطة الأميركية. وفي مأدبة العشاء التي أقيمت ذلك المساء أثنى كلينتون على الملك حسين لشجاعته والتزامه، وشبَّهه بجده الملك عبد الله الأول مما نال ارتياح الملك حسين».

في اليوم التالي، يوم 26 يوليو، خاطب الملك حسين ورابين جلسة مشتركة للكونغرس الأميركي. وقد طرح الملك حسين في خطابه أمام الكونغرس رؤيته للسلام. وتحدث عن جده الملك عبد الله فوصفه بأنه «رجل سلام قدم حياته من أجل مثل أعلى». وقرب ختام خطابه تناول الملك حسين دور أميركا في تسهيل ودعم تحرك البلدين من حالة الحرب إلى أن يصلا إلى حالة السلام. وقد حيّا أعضاء الكونغرس الملك حسين في نهاية خطابه بالتصفيق بحماس والوقوف له وها هو الآن قد وجد في اسحق رابين صديقا حقيقيا وحليفا يتفهم مخاوفه أفضل من أي حاكم عربي ويرغب في مساعدته.

كان لبعض مساعدي الملك حسين تحفظاتهم حول السرعة التي تحرك بها نحو إبرام اتفاقية سلام رسمية مع إسرائيل. وقد حذّر طاهر المصري، الذي صار رئيس البرلمان، الملك حسين بان الاستعجال للتطبيع قد يكون مضرا. واعترض عدنان أبو عودة على المادة الخاصة بالقدس في إعلان واشنطن لأنها تتضمن أن لإسرائيل حقا قانونيا في ملكية القدس. لكن الملك حسين لم يكن سعيدا بسماع مثل هذه الانتقادات.

بعد أسبوعين من التوقيع على إعلان واشنطن ذهبت الأسرة الملكية إلى العقبة للترتيب للاحتفال بافتتاح أول نقطة عبور بين الأردن وإسرائيل. طار كريستوفر بصحبة عدد من مسؤوليه لحضور الحدث التاريخي. وأرسلت إسرائيل وفدا كبيرا ضم رابين وبيريس وقادة عسكريين وصحافيين، وافتتحت خطوط الهاتف التي دعا إعلان واشنطن لإقامتها بين البلدين، ودشَّنها الملك حسين بمحادثة هاتفية مع الرئيس الإسرائيلي عزرا وايزمان.

شرعت فرق خبراء من الجانبين في العمل في الموضوعات الحساسة حول توزيع حصص المياه وترسيم الحدود ومسائل الأمن المتبادل. وقد عقدت معظم هذه الاجتماعات في منزل الأمير حسن في العقبة. في البداية لم يرغب الإسرائيليون في أن ترد أي إشارة لموضوع اللاجئين، بينما كان من المستحيل بالنسبة للأردن أن يدخل في اتفاقية سلام من دون ذكر لموضوع اللاجئين. وبعد حوار شاق تم التوصل أخيرا إلى تسوية، ورغم أنها لم تكن مرضية بصورة كاملة للأردنيين إلا أنها سمحت بإيراد الموضوع في الاتفاقية. وكان النقاش حول الموضوع مكثفا وعندما تم تضييق الخلافات لأقصى حد ابلغ المفاوضون رؤساءهم بأن الوقت قد حان تماما لعقد اجتماع على أعلى مستوى. عقد الاجتماع رفيع المستوى في العقبة يوم 29 سبتمبر وكانت أكثر الموضوعات صعوبة هي الأرض والمياه. كانت إسرائيل قد استولت عقب نزاع عام 1967 على أراض أردنية جنوب البحر الميت وشيّدت سلسلة من المستوطنات الزراعية تخصصت في زراعة الزهور. ولتزويد هذه المزارع بالمياه حفرت إسرائيل آبارا داخل الأراضي الأردنية. وقد سطت إسرائيل على ما يزيد عن 380 ميلا مربعا، أي ما تصل مساحته إلى مساحة قطاع غزة تقريبا. وطالب الأردن باسترجاع هذه الأراضي وإنهاء استغلال ثرواته من المياه، بينما اقترح رابين في الاجتماع أن تعترف إسرائيل بالسيادة الأردنية على كل المنطقة مقابل استئجارها للمستوطنات الزراعية. لم يرفض حسين المقترح مباشرة وبدا وكأنه يود المساومة لكن علي شكري وصل في اليوم التالي إلى القدس بطائرة مروحية وسلّم رئيس الوزراء رسالة من الملك تحمل رفضا مطلقا لمقترحه. وقال الملك حسين انه إذا لم يتسلم كامل مساحة المنطقة البالغة 380 كيلومترا مربعا فانه لن يستطيع التوقيع على اتفاقية سلام. في البداية بدا وكأن كل شيء قد انهار، لكن روبنشتاين وهاليفي أُرسلا لإجراء جولة محادثات مكثفة وأخيرا توصلا إلى معادلة أنقذت الوضع.

أيد الملك حسين ورابين التسوية التي تم التوصل إليها وذلك في اجتماعهما بقصر الملك في غرب عمان في 12 أكتوبر.

أكد رابين لمضيفه انه لا ينوي الاحتفاظ بشبر واحد من الأراضي الأردنية أو بقطرة ماء أردنية واحدة. واتفق الزعيمان بأنه يمكن إجراء تعديلات حدودية طفيفة في وادي عربة بتبادل أراض لها نفس الحجم. عاد الطرفان للمفاوضات من جديد لكنهما لم يتوصلا إلى اتفاق بشأن مياه وادي عربة.

تم استدعاء رابين والملك حسين لمعالجة المشاكل العالقة للمرة الأخيرة، والتقيا مرة أخرى في قصر الملك بصحبة عدد كبير من مساعديهم مساء 16 أكتوبر. أجرى الزعيمان مفاوضات مضنية راجعا فيها القضايا العالقة حول الأراضي والمياه واستمرا في التفاوض حتى الرابعة صباحا ثم خلدا للراحة بينما قام المسؤولون بإكمال ما تبقى من تفاصيل وأنجزوا المسودة الختامية للاتفاقية.

تم توقيع اتفاقية السلام بين المملكة الأردنية الهاشمية ودولة إسرائيل في 26 أكتوبر 1994 على الحدود في وادي عربة. وقّع على الاتفاقية رئيس الوزراء الأردني عبد السلام المجالي ورئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين بالإضافة إلى الرئيس الأميركي كلينتون كشاهد. وحضر حفل التوقيع عدد كبير من الشخصيات الأجنبية المرموقة، بما في ذلك وزراء خارجية الولايات المتحدة وروسيا ومصر وممثلون عن العديد من الدول العربية الأخرى. وقد نقل احتفال التوقيع عبر القنوات التلفزيونية إلى أعداد هائلة من المشاهدين عبر أنحاء العالم.

رأى الملك حسين السلام بوصفه قمة إنجازات عهده الطويل في الحكم وكان يأمل أن يرى ثماره خلال حياته. وأينما ذكر له أن الإسراع في عملية السلام يجب ضبطه أجاب بأن العكس هو الصحيح، وان التعاون يجب أن يتصاعد ويتوسع للتنسيق من أجل السلام. وقد أدرك أن اتفاقية السلام جاءت مفاجئة لشعبه وان العديد من رعاياه الفلسطينيين واجهوا صعوبة في قبولها وان المعارضة الراديكالية والإسلامية ستفعل كل ما في وسعها لتحطيمها. لكنه، أيضا، كان يأمل، في التحليل النهائي، بأن يأتي الحكم الصحيح على التسوية السلمية من تقييم نتائجها العملية.

حققت اتفاقية السلام فوائد عدة للأردن فقد استرجع أراضيه وموارده المائية واعترفت إسرائيل بسيادة الأردن ووحدة أراضيه واستقلاله السياسي. والتزمت إسرائيل بوقف التحويل القسري للسكان من الأراضي التي تسيطر عليها إلى الأردن. ومع التحرك السريع في تحقيق السلام مع إسرائيل قبل التقدم في المسار الإسرائيلي ـ الفلسطيني استعاد الملك حسين العلاقات الأردنية – الأميركية للمستوى الذي كانت عليه قبل حرب الخليج. وكانت الفوائد المادية التي عادت للأردن على شكل إعفاء ديون ومساعدات اقتصادية وعسكرية فوائد كبيرة للغاية. كما أن شراكة السلام مع إسرائيل ارتقت بأهمية الأردن في نظر الأميركيين.

* غدا: رسالة إحباط من الملك حسين إلى نتنياهو


أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة السادسة عشرة) ـ الملك حسين لنتانياهو: حزني عميق بسبب أفعالك التي جعلت السلام سرابا مخادعا

في قمة واشنطن ذهب نتانياهو للعاهل الأردني قائلا: «أنا مصر أن آتيك بمفاجأة»

لندن: «الشرق الأوسط»
في اقل من عام على توليه بنيامين رئاسة الوزراء في اسرائيل فقد نتانياهو ثقة العاهل الاردني الراحل الملك حسين، ودفع غروره الذي لا يضع اعتبارا للاتفاقيات المكتوبة الملك حسين الى الشعور بانه لم يعد يستطيع الاعتماد على إسرائيل كحليف استراتيجي وكشريك في الطريق إلى السلام. وفي رسالة شديدة اللهجة إلى نتانياهو عبر الملك حسين عن قلقه تجاه تبعات ممارسات إسرائيل وخيبة أمله الشخصية المريرة في الرجل الذي ساعده كي ينتخبوه وقال فيها ان حزنه «حقيقي وعميق بسبب الأفعال التراجيدية المتراكمة التي بادرت بالقيام بها من موقع رئاسة الحكومة الإسرائيلية جاعلا السلام، الذي اعتبره أغلى هدف في حياتي، يبدو أكثر فأكثر كسراب مخادع».

وحاول نتانياهو أن يؤلب الأردنيين والفلسطينيين على بعضهم البعض حتى عادت عليه إحدى خطواته في ذلك بضرر خطير. وكانت الشعلة التي أضرمت النار هي افتتاح نفق قديم قرب المسجد الأقصى في القطاع القديم لمدينة القدس وذلك في 25 سبتمبر.

وفي حلقة اليوم من كتاب «أسد الاردن» الذي تنفرد «الشرق الاوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر بنغوين ومؤلفه آفي شليم المؤرخ والبروفسور في جامعة اكسفورد الكثير من اسرار العلاقات الاردنية الاسرائيلية بعد تسلم نتانياهو السلطة ومشاعر الاحباط لدى العاهل الراحل ورسائله شديدة اللهجة الى رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق الذي كانت العناصر الأساسية في استراتيجيته هي تقليص التوقعات الفلسطينية وإضعاف ياسر عرفات وسلطته الفلسطينية ووقف أي عمليات انسحاب لاحقة للقوات الإسرائيلية نصت عليها اتفاقيات اوسلو وإصدار الأمر بإقامة ألفي وحدة سكنية جديدة للمستوطنين في وادي الأردن. شكَّل صعود بنيامين نتانياهو إلى السلطة في مايو 1996 حالة انقطاع مع البراغماتية التي طبعت تعامل حزب العمال مع العالم العربي كما شكل عودة للإصرار على خط ايديولوجي متشدد. وهي عودة لاستراتيجية الجدار الحديدي وبشكل انتقامي. كان نتانياهو ينظر إلى علاقة إسرائيل بالعالم العربي بوصفها نزاعا دائما وصراعا لا نهاية له بين قوى النور وقوى الظلام. وكانت صورة العرب لديه سلبية على الدوام وعلى نحو شامل وليس فيها مكان للاعتراف بإمكانية التنوع أو التغيير. بيد أن نتانياهو يحتفظ بأكثر تشدده وحقده للفلسطينيين. لقد شنّ هجوما عنيفا على فكرة أن المشكلة الفلسطينية تشكل النواة الصلبة لنزاع الشرق الأوسط. لم تكن المشكلة الفلسطينية بالنسبة له مشكلة حقيقية وإنما مشكلة زائفة ومصطنعة. أنكر نتانياهو أن يكون للفلسطينيين حق في تقرير المصير وتحجّج بأن السبب الأساسي للتوتر في الشرق الأوسط هو التنافس العربي الداخلي. وقد أدان نتانياهو اتفاقية اوسلو بوصفها اتفاقية تتعارض مع امن إسرائيل ومع الحق التاريخي للشعب اليهودي في كامل أراضي إسرائيل. وقاد المعارضة اليمينية ضد الاتفاقية التي وُقعت في 28 سبتمبر 1995 والمعروفة باسم اوسلو الثانية. وقد سمحت الاتفاقية بسحب المزيد من القوات الإسرائيلية إلى ما وراء غزة واريحا وتحويل السلطة التشريعية إلى مجلس فلسطيني يتم اختياره بالانتخاب الديموقراطي. وبمجرد أن وجد نتانياهو الفرصة أقدم على تجميد وإعاقة العملية التي كانت قد أطلقتها اتفاقيات اوسلو. وبإظهاره الواضح بأنه يعارض بشكل مطلق إقامة دولة فلسطينية فان نتنياهو نزع حجر الأساس من بوابة السلام وكان هدفه هو أن يحتفظ بشكل مباشر وغير مباشر بالحكم الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية بأي وسيلة في متناوله. وكانت العناصر الأساسية في استراتيجيته هي تقليص التوقعات الفلسطينية وإضعاف ياسر عرفات وسلطته الفلسطينية ووقف أي عمليات انسحاب لاحقة للقوات الإسرائيلية نصت عليها اتفاقيات اوسلو وإصدار الأمر بإقامة ألفي وحدة سكنية جديدة للمستوطنين في وادي الأردن. أما فيما يتعلق بالعلاقات مع الدول العربية، وخصوصا مع سورية، فقد كان نتانياهو بالمثل، مصرا على عدم القيام بأي خطوة جديدة في طريق مقايضة الأرض بالسلام. وكان يعتقد أن موقفه المتشدد سيقنع الدول العربية نفسها بتقديم تنازلات اكبر فيما يتعلق بحقوقها. وقد صرّح علنا بأنه سيغير قواعد اللعبة. لكن استراتيجيته كانت محفوفة بالخطر لأنه لا يملك خبرة في وضع السياسات ولا تفهما لحدود القوة العسكرية. ولم يكن الافتراض بان العرب سيتخلون فجأة عن نضالهم الطويل لاستعادة الأراضي المحتلة ساذجا فقط وإنما كان افتراضا مستفزا أيضا. وقد خلق مدا خطيرا في العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي. أما برنامج حكومته، خصوصا بناء مستوطنات في الضفة الغربية، فقد فُسر على نحو واسع في العالم العربي بأنه إعلان حرب على عملية السلام.

لا يحظى نتانياهو باحترام كبير حتى داخل حزبه. ويعتبره كبار أعضاء حزب الليكود مثقفا من الوزن الخفيف، سطحيا ومصطنعا، لا يتعدى إلا قليلا، أن يكون مجرد متعهد تصريحات خطابيّة يزود بها التلفزيون الاميركي. كان نتانياهو ممثلا لإسرائيل في الأمم المتحدة ثم نائبا لوزير الخارجية لكنه في الموقعين كان رجل علاقات عامة أكثر منه احد صانعي السياسية.. أما كرئيس وزراء فلم يكن سيئا فقط بالقدر الذي كان الناس يعتقدون انه سيكون عليه حينما كان يتنافس على رئاسة الوزارة وإنما كان أكثر سوءا من ذلك بكثير. وخلال فترة قصيرة جدا استطاع أن ينفّر معظم الإسرائيليين وكل حلفاء إسرائيل في الخارج. وقد صارت العلاقات مع الأردن متوترة بعد تسلمه للسلطة مباشرة. في البداية كان نقد رئيس الوزراء الإسرائيلي اشدّ خفوتا في الإعلام الأردني منه في باقي العالم العربي. وقد نصح الملك حسين زملاءه العرب بألا يتشاءموا وألا يدفعوا إسرائيل إلى عقلية الشعور بالحصار. وكان يخشى أن يمتد انفجار عنف إسرائيلي ـ فلسطيني إلى داخل المملكة الأردنية أو حتى أن يعيد الحياة للنظرية المخيفة بأن الأردن هو فلسطين. ومن ناحية أخرى فان معارضة نتانياهو التفاوض مع عرفات أوحت بتكهنات بخيار أردني تحت رعاية إسرائيلية. وحاول الملك حسين أن يدحض هذه التكهنات بالتصريح بوضوح أن الأردن «لن يكون بديلا لقيادة فلسطينية تحت أي ظرف من الظروف». وأراد التشاور مع إسرائيل والفلسطينيين بما يحفظ مصلحة الأردن في الضفة الغربية؛ ولم تكن له رغبة في التفاوض بدلا عن الفلسطينيين أو تولي مسؤولية تسوية المشكلة الفلسطينية.

حاول نتانياهو أن يؤلب الأردنيين والفلسطينيين على بعضهم البعض حتى عادت عليه إحدى خطواته في ذلك بضرر خطير. وكانت الشعلة التي أضرمت النار هي افتتاح نفق قديم قرب المسجد الأقصى في القطاع القديم لمدينة القدس وذلك في 25 سبتمبر. لم يكن للبوابة الجديدة للنفق الذي يعود تاريخه للقرن الثاني قبل الميلاد في حد ذاتها أهمية كبيرة لكنها مثّلت إهانة رمزية ونفسية للفلسطينيين وانتهاكا إسرائيليا وقحا للتعهد بحل النزاع حول القدس من خلال المفاوضات وليس من خلال فرض الأمر الواقع. وبإعطاء نتانياهو الأمر لفتح بوابة جديدة للنفق فانه حطّم آخر خيوط الأمل الواهية في حوار سلمي مع الفلسطينيين. وقد أطلقت تلك الخطوة انفجارا هائلا من الغضب الفلسطيني وأشعلت شرر المواجهات. حدثت احتجاجات واسعة النطاق وانفلتت أعمال شغب هائلة عن عقالها كما استفزت الشرطة الفلسطينية بحيث حول رجال الشرطة الفلسطينيون بنادقهم نحو نظرائهم الإسرائيليين. وتصاعد العنف واتسع نطاقه ليشمل جميع أرجاء الضفة الغربية وقطاع غزة. وخلال ثلاثة أيام من الصدامات الدموية لقي 14 جنديا إسرائيليا و54 فلسطينيا حتفهم. وكانت تلك الصدامات هي أكثر المواجهات عنفا منذ الانتفاضة. وقد صدمت مشاهد رجال الشرطة الفلسطينية وهم يطلقون النار على الشرطة الإسرائيلية الرأي العام الإسرائيلي. ولكن معظم المراقبين الأجانب اعتبروا أن سياسات نتانياهو بإغلاق الطريق أمام عملية السلام هي السبب وراء النزاع الدموي باهظ التكاليف. غضب الملك حسين غضبا شديدا. فعمل نتانياهو يتعارض مع المادة 9 من اتفاقية السلام الإسرائيلي ـ الأردني والتي تقول «وبما يتماشى مع إعلان واشنطن تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس». وقد تضاعف الأذى نتيجة لواقعة أن دوري جولد، احد كبار مساعدي نتانياهو، كان قد التقى الملك حسين في عمان قبل بضعة أيام ولم يقل كلمة واحدة عن النفق. ونتيجة لذلك الاجتماع انتشرت شائعات بأن الملك حسين قد اطلع سرا على الخطة وانه وافق عليها.

قام الملك حسين باتباع توصية مستشاريه في تبني خط متشدد مع نتانياهو حول هذا الموضوع. وُوجهت محاولات نتانياهو تجديد الاتصال بالملك حسين بالرفض. وكان افريم هاليفي يعمل في تلك الفترة سفيرا لإسرائيل في الاتحاد الأوروبي في بروكسل. قام هاليفي بطلب من نتانياهو بزيارة سرية للعاصمة الأردنية وحصل على موافقة من الملك حسين بمقابلة مبعوثين من نتانياهو وبالتالي إعادة تنشيط الصلة بين المسؤولين الكبيرين.

تمت دعوة عاجلة إلى اجتماع قمة في واشنطن من جانب الرئيس كلينتون في 12 أكتوبر في محاولة لتهدئة الوضع وللحيلولة دون حدوث انهيار كامل لعملية السلام. رفض الرئيس مبارك تلبية الدعوة بينما استجاب لها كل من الملك حسين وعرفات ونتانياهو، ولكن الاجتماع انتهى بدون الوصول لأي اتفاق. وقد عبّر كل القادة العرب عن خيبة أملهم في التعامل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي لكن خيبة أمل الملك حسين كانت الأكثر شدة لأنه كان الزعيم العربي الوحيد الذي لم يشارك الآخرين في ترديد الإدانة لنتانياهو عقب فوزه في الانتخابات. كان هناك وجه شخصي وسياسي لخيبة أمل الملك حسين. كانت علاقاته مع رابين تتأسس على الثقة المتبادلة وكان يأمل في تطوير علاقة مشابهة لذلك بنتانياهو لكنه اكتشف بعد تجربة صعبة أن نتانياهو كان مراوغا غير شريف لا يمكن الركون إليه. وبذلك مثّل نتانياهو تهديدا خطيرا لخطة الملك حسين للتقدم خطوة فخطوة نحو سلام شامل في الشرق الأوسط. لذلك تحدث الملك حسين بقسوة شديدة مع نتانياهو في البيت الأبيض كما ذكرت الصحف في ذلك الحين، وكما أكد الملك لاحقا، فذكر ما حدث قائلاً: «تحدثت عن غرور السلطة؛ وتحدثت عن الحاجة لإحراز تقدم». لم يقل نتانياهو شيئا لكن، وهما يغادران، ذهب إلى الملك حسين وقال «أنا مصر أن آتيك بمفاجأة».

تسرّبت قائمة الملك حسين بالأخطاء الإسرائيلية إلى توماس فريدمان بـ«نيويورك تايمز» وتضم القائمة: المصادرة غير الشرعية للأراضي الفلسطينية لصالح إقامة مستوطنات يهودية؛ حالات حظر التجول التي تفرضها إسرائيل على الفلسطينيين بشكل يجعل وصولهم إلى أماكن العمل شبه مستحيل؛ الافتقار إلى جدول زمني لسحب القوات الإسرائيلية من الخليل والبدء في مفاوضات الوضع النهائي؛ مهزلة النفق؛ إصرار إسرائيل على عقلية الحصن بينما الأمن الحقيقي الوحيد لا يأتي إلا من الاحترام المتبادل. قال الملك حسين لنتانياهو «إني أتحدث نيابة عن نفسي وعن اسحق رابين، الرجل الذي اشعر بفخر عظيم أن اسميه صديقي، وعن كل أولئك الذين ينتفعون من السلام» مضيفا «كل هذه الإرادة الخيرة ستضيع. نحن على حافة الهاوية، وبغض النظر عن أفضل الجهود فإننا، نحن كلنا، قد نكون مشرفين على السقوط فيها».

كان مما يدمي له قلب الملك حسين أن يرى كل ما كان قد بناه يتجه نحو التصدع والانهيار بسرعة شديدة. كان اقل حماسا على الإقدام على الدفاع عن التطبيع مع إسرائيل في أعقاب الصدامات الدموية التي وقعت في القدس واجتماع القمة العقيم في واشنطن. وفي الأردن انضمت الطبقات الوسطى إلى الإسلاميين والراديكاليين الفلسطينيين في معارضة التطبيع. ووقعت 38 مجموعة تمثل قطاعات واسعة من الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية والمنظمات غير الحكومية بيانا دعت فيه إلى «مقاومة كل أشكال التطبيع مع الدولة الصهيونية» وعكست استفتاءات الرأي العام خيبة الأمل المتزايدة بشأن اتفاقية السلام على كل مستويات المجتمع الأردني. وقد أظهر أحد تلك الاستفتاءات التي أجريت بعد وقت قصير من إعلان واشنطن في يوليو 1994 أن 82 في المائة من الأردنيين يعتقدون أن الاقتصاد سينتفع بالسلام. لكن استفتاء آخر في يناير 1996 اظهر أن 47% من المشاركين شعروا بان الاقتصاد قد تدهور بالفعل في العام الأول للسلام. تصاعدت مشاعر السخط ضد إسرائيل على امتداد العالم العربي وتم التخطيط لافتتاح المؤتمر الاقتصادي الثالث للشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA 3) في القاهرة في نوفمبر. ولبعض الوقت بدا وكأن المؤتمر لن ينعقد إطلاقا. وقد هدّد الرئيس المصري مبارك بإلغائه إذا واصلت إسرائيل التنصل عن التزاماتها. ولم يلن موقفه إلا بعد ضغوط هائلة من الولايات المتحدة. افتتح المؤتمر في القاهرة في 13 نوفمبر في أجواء من العداء الواضح لـ«المهرولين»، وقد صار «المهرولون» مظهرا رئيسيا في الخطاب السياسي العربي. وقد ابتدع الشاعر السوري نزار قباني هذا المصطلح بعد المصافحة بالأيدي في حديقة البيت الأبيض بين رابين وعرفات. صار الاندفاع نحو التطبيع مع العدو الصهيوني الآن مصدر هزء من جانب الذين رأوا فيه علامة ضعف عربية. وكان مجال الأعمال والمال في قلب هذا التطبيع كما ظهر في هذه المؤتمرات. كان الهدف الأصلي هو إقامة تجمع اقتصادي إقليمي حيث تكون إسرائيل جزءا صميما ومتعاونا اقتصاديا لتعزيز السلام في الشرق الأوسط. وفي المؤتمرين الأولين تقدّمت إسرائيل في تبني رؤية بيريس لشرق أوسط تندمج فيه الدولة اليهودية. وقد وعد الملك حسين شعبه مرارا بان التطبيع سيجلب الرفاه. وقد اعتاد عرفات على القول بأنه إذا توفر المناخ الاقتصادي الصحيح فانه سيحوّل فلسطين إلى سنغافورة جديدة. وكانت الحجة الأخرى الكبيرة التي دفع بها «المهرولون» هي أن المصالحة العربية ستشجع إسرائيل على إكمال عملية السلام على الجبهات الفلسطينية والسورية واللبنانية. أما الدول العربية غير المتورطة مباشرة في النزاع فإنها قبلت هي الأخرى بهذا المنطق. وقرّر المغرب وتونس وقطر التصديق بإنشاء دوائر رسمية لها في إسرائيل. وبلغت قطر حد الموافقة على تزويد إسرائيل بالغاز الطبيعي.

من الجانب الآخر تحجج منتقدو «المهرولين» بان على العرب أن يمسكوا عن تقديم المكافآت الاقتصادية للتطبيع بوصفها آخر ما تبقى لهم من وسائل ضغط. ورفضت المملكة العربية السعودية التخلي عن مقاطعتها لإسرائيل إلى حين الوصول لإحراز سلام شامل. ورجح انتخاب نتانياهو الكفة لصالح المنتقدين. وقد اعتبر نتانياهو بمثابة التجسيد الحي للمدى الذي بلغه خطأ «المهرولين». وسأل المنتقدون «لماذا نشارك في تجمع اقتصادي دولي يفترض انه صمم كسند لسلام وأمن إقليميين بتعاون اقتصادي، في حين أن إسرائيل ترفض السلام؟» ولم يرسل سوى الأردن والسلطة الفلسطينية وفودا للمؤتمر، وكان وفداهما من المستوى المتوسط. وأجّلت قطر افتتاح مكتبها الرسمي لتبادل العلاقات في تل أبيب وأوقفت صفقتها الخاصة بالغاز الطبيعي. وطلبت حكومات أخرى من وفودها ألا تعقد أي صفقات مع الإسرائيليين. وقد أوضح المصريون بجلاء انه ما دامت إسرائيل قد تراجعت عن عملية السلام فان من حق العرب التراجع عن الأهداف الأساسية للمؤتمر الاقتصادي الأول والثاني للشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتحويل المؤتمر الثالث إلى مؤتمر بين الدول العربية وحدها.

تراجعت العلاقات الثنائية بين الأردن وإسرائيل بعد أزمة النفق إلى اضعف مستوى لها منذ التوقيع على الاتفاقية بينهما. وعلى المستوى الشعبي تحول التشكك السلبي إلى معارضة نشطة. وعلى المستوى الرسمي تلاشى الصبر مع إسرائيل وحلّ مكانه إفصاح جازم بالمواقف العربية والفلسطينية. وأجبرت ردود الأفعال الاميركية والعربية القوية نتانياهو على التخلي عن الخليل في الضفة الغربية حيث أقامت مجموعة قليلة من المستوطنين اليهود المتشددين بؤر استيطان لها وسط العدد الكبير للسكان الفلسطينيين. ولعب الملك حسين دورا معتدلا في جلب الطرفين المتحاربين إلى الوصول إلى اتفاقية. وتحرك الملك حسين تحركا مكوكيا بين نتانياهو في تل أبيب وعرفات في غزة حتى تم التوصل إلى تسوية وتم توقيع بروتوكول الخليل في 15 يناير 1997. وقد كان ذلك بمثابة خطوة مهمة في عملية السلام بالشرق الأوسط، وتم توقيع الاتفاقية الأولى بين حكومة الليكود والفلسطينيين. وقسم البروتوكول الخليل إلى قسمين تحكمهما ترتيبات أمنية مختلفة، وغطى القسم الفلسطيني 80% من الخليل بينما غطى القسم الإسرائيلي الـ20% الأخرى. وألزم البروتوكول إسرائيل بثلاث عمليات انسحاب أخرى من الضفة الغربية خلال الـ18 شهرا المقبلة. أدى بروتوكول الخليل إلى تحاشي حدوث انهيار كامل لعملية سلام اوسلو لكن التفاؤل الضئيل الذي جلبه لم يدم طويلا. فبعد أن اجبر نتانياهو على اتخاذ خط يتميز بتصالح نسبي تبنى توجها يتسم بالمواجهة فيما يتعلق بالقدس. وبتوقيعه على البروتوكول كان نتانياهو قد حطم احد تابوهات حزب الليكود حول التعامل مع الأرض مقابل السلام. لذلك فانه أقسم بان يقوي من قبضة إسرائيل على القدس ويقاوم أي مساومة أو حتى مفاوضات ذات مغزى مع الفلسطينيين حول القدس. كان يعلم انه لا يوجد عربي يمكنه أن يقبل اقل مما كان عرفات يطالب به وهو الإدارة المشتركة، لكن اعتقد أن تأكيداً فعّالاً أحادي الجانب للسيطرة على القدس سيبدد أوهام العرب في استعادة الجزء الشرقي من المدينة، وهي أوهام يعتقد أن حكومة حزب العمال التي سبقته كانت قد شجعتها. أطلق نتانياهو الطلقة الأولى في المعركة من اجل القدس في 19 فبراير (شباط) وذلك من خلال خطة ببناء 6500 وحدة سكنية لثلاثين ألف إسرائيلي في هارحوما على امتداد القدس الشرقية. وهارحوما جبل تغطيه أشجار الصنوبر جنوب المدينة الأصلية في الطريق إلى بيت لحم واسمه العربي جبل أبو غنيم. وقد اختير الموقع لاستكمال حزام المستوطنات اليهودية حول القدس ولقطع الصلة بين الجزء العربي من المدينة والمناطق الخلفية لها في الضفة الغربية. وذلك نموذج وقح للتكتيك الصهيوني بخلق واقع على الأرض استباقا للمفاوضات. ونتيجة لذلك فان الفلسطينيين يفقدون مزيدا من الأراضي ويتناقص حظ إسرائيل في السلام. التحق الأردن بالجوقة الغاضبة والمحتجة على ممارسات إسرائيل. وفي اقل من عام على تولي نتانياهو رئاسة الوزراء فقد ثقة الملك حسين ودفعه إلى حافة اليأس بغروره الذي لا يضع اعتبارا للاتفاقيات المكتوبة وبالتوسع المتواصل إلى مستوى أعمق، فشعر الملك حسين انه لم يعد يستطيع الاعتماد على إسرائيل كحليف استراتيجي وكشريك في الطريق إلى السلام. وفي رسالة شديدة اللهجة إلى نتانياهو عبر الملك حسين عن قلقه تجاه تبعات ممارسات إسرائيل وخيبة أمله الشخصية المريرة في الرجل الذي ساعده كي ينتخب. وتستحق الرسالة أن تنقل أجزاء كثيرة منها بسبب ما تلقيه من ضوء على حالة الملك حسين الذهنية:

«السيد رئيس الوزراء إن حزني حقيقي وعميق بسبب الأفعال التراجيدية المتراكمة التي بادرت بالقيام بها من موقع رئاسة الحكومة الإسرائيلية جاعلا السلام، الذي اعتبره أغلى هدف في حياتي، يبدو أكثر فأكثر كسراب مخادع. كان يمكنني أن أقف بعيدا لو لم تكن حياة كل العرب والإسرائيليين ومستقبلهم تنزلق بسرعة شديدة نحو هاوية من إراقة دماء وكارثة يجلبها الخوف واليأس. وأنا بصراحة لا أستطيع تقبل حجتكم المتكررة بأنكم تفعلون ما تفعلونه مكرهين تحت التهديد والضغوط. ولا أؤمن بأن شعب إسرائيل يسعى لإراقة الدماء والكوارث ومعارضة السلام. كما لا أومن بأن أكثر رئيس وزراء إسرائيلي قوة على المستوى الدستوري في تاريخ إسرائيل سيفعل غير ما هو مقتنع به. والحقيقة المحزنة التي صارت تتكشف لي هي أنني لا أجدك إلى جانبي تعمل لتحقيق إرادة الله من اجل مصالحة نهائية بين كل المتحدرين من ذرية سيدنا إبراهيم عليه السلام. ويبدو أن ممارساتك تميل إلى نقيض كل ما أومن به، أو كل ما أناضل لتحقيقه مع الأسرة الهاشمية منذ الملك فيصل الأول وعبد الله وحتى الأزمنة الحديثة.

السيد رئيس الوزراء، إذا كان في نيتكم تحريك أخوتنا الفلسطينيين في مقاومة حتمية عنيفة فعليك أن تأمر بلدوزراتكم بالتوجه للموقع المقترح للاستيطان.

لماذا هذه الإهانة المتعمدة المكشوفة والمستمرة لمن يسمون بشركائكم الفلسطينيين؟ هل يمكن لأي علاقة أن تزدهر في غياب الاحترام والثقة المتبادلين؟ لماذا يؤكد الفلسطينيون أن منتجاتهم الزراعية ما تزال تتعفن في انتظار دخولها إلى إسرائيل وتصديرها؟ لماذا التأجيل في حين أن المعروف انه ما لم يصدق على البدء في ميناء غزة قبل نهاية هذا الشهر فان المشروع بأكمله سيتعرض للتأجيل سنة أخرى؟ وأخيرا يأتي موضوع مطار غزة. لقد تناولنا جميعا هذا الموضوع عدة مرات برؤية تحقيق حاجة فلسطينية مشروعة ومنح قادتهم وشعبهم فرصة الاتصال الحر بالعالم بدلا من حالة الاحتجاز الحالية التي يعيشونها والحاجة للخروج والعودة عبر أراضي تخضع لسيادة أخرى.

كيف اعمل معك كشريك وصديق حقيقي في هذه الأجواء المربكة والمرتبكة، وأنا أحس بنية تحطيم كل ما عملت على بنائه بين شعبينا ودولتينا ؟ إن العناد حول موضوعات حقيقية شيء أما العناد من اجل العناد فانه يدعو للاستغراب. وقد اكتشفت في كل حادث أن رأيك لا يقبل التغيير ويبدو انك لا تحتاج لأي نصح من صديق.

اشعر بأسف عميق أن اضطر لأكتب لك هذه الرسالة الشخصية ولكن إحساسي بالمسؤولية والاهتمام هو الذي دفعني الى أن أقوم بذلك للأجيال المقبلة في مواجهة المجهول».

مخلصكم حسين

* غدا: الأردن هدد بمهاجمة السفارة الإسرائيلية واعتقال عملاء الموساد ووضع عبد الله الابن الأكبر للملك حسين في قيادة العملية


أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة السابعة عشرة) ـ الأردن هدد باقتحام السفارة الإسرائيلية واعتقال عملاء الموساد الأربعة

العاهل الأردني الراحل نقل عرضا من حماس بهدنة 30 عاما مع إسرائيل قبل أيام من محاولة اغتيال مشعل

لندن: «الشرق الاوسط»
قال الملك حسين، بعد فشل محاولة اغتيال خالد مشعل في عمان على يد عملاء من الموساد الاسرائيلي انه شعر «وكأن شخصا ما قد بصق على وجهي». كان إحساسه بتعرضه للخيانة كبيرا، لأنه وقبل ثلاثة أيام من المحاولة كان مسؤولون إسرائيليون وأردنيون قد اجتمعوا في عمان في إطار التعاون الأمني الروتيني بين الجانبين، وتدخل الملك شخصيا في الحوار لإبلاغ المجتمعين عن عرض من حماس بهدنة. وكان العرض يتعلق بهدنة بين إسرائيل والفلسطينيين، بمن فيهم حماس، تمتد لثلاثين عاما.

وفي حلقة اليوم من كتاب «أسد الاردن» الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر بنغوين، ومؤلفه آفي شليم المؤرخ والبروفسور في جامعة اكسفورد، الكثير من الاسرار عن محاولة اغتيال مشعل وكيف هدد الاردن باقتحام السفارة الاسرائيلية واعتقال عملاء الموساد. كما تكشف ان نتانياهو رفض في البداية اعطاء الترياق لانقاذ مشعل ولم يقبل الا بعد تدخل كلينتون. وتكشف ايضا ان قرار عملية الاغتيال اتخذه نتانياهو بنفسه رغم معارضة الاستخبارات الاسرائيلية.

قام علي شكري بتسليم خطاب الملك (العاهل الاردني الراحل الملك حسين) بيده إلى رئيس الوزراء في مكتبه بالقدس. كان دوري جولد معه. لم يكن نتانياهو قادرا أو راغبا في فهم التصوّر الأردني حول الأحداث المحيطة بهارحوما (جبل أبو غنيم). وزعم أن 75% من الأراضي التي يرغبون في بنائها قد تم بيعها سلفا من مُلاكها العرب لكنه لم يقدّم برهانا ولم يصدقه شكري. وحاول شكري أن يوضح انه حتى إذا كانت بعض الأراضي قد تم شراؤها فإن العرب ينظرون إلى العملية بأكملها كعملية اعتباطية وقمعية. رفض نتانياهو هذه الحجج ورفض أن يتزحزح عن رأيه. كان رده على رسالة الملك حسين المؤثرة يفتقر إلى الحساسية وكان عديم الصلة بموضوع الرسالة. رفض نتانياهو أن تكون له أي مسؤولية فيما يتعلق بالعوائق التي تعترض طريق عملية السلام، وأكد أن عملية السلام كانت أثناء فترة الانتخابات الأخيرة «تمر بآلام الاحتضار». وأنه ذهب أبعد من ذلك وسعى لأن يكون له شرف المساهمة في احيائها قائلاً : «وبدلا من أن اترك اتفاقية اوسلو تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد الانتخابات فإنني بحثت عن طريقة لمحاولة إحيائها».

عبر نتانياهو عن دهشته للنبرة الشخصية في الهجوم عليه. وقد أزيحت جانبا كل الاتهامات المحددة التي حوتها رسالة الملك بوصفها «صعوبات حتمية تبرز على نحو غير متوقع خلال عملية السلام». وأظهر نتانياهو بجلاء أنه سيظل ملتزما بخطة البناء السكنية في القدس الشرقي. وأخيرا ناشد الملك ألا يدع العقبات التي تعترض المسار الفلسطيني تؤثر على العلاقات الأردنية ـ الإسرائيلية. وكتب قائلا: «إن من واجبنا تفهم دورنا التاريخي المشترك وألا ندع العقبات التي تعترض المسار الفلسطيني أن تلقي بظلالها على التفاهمات التي توصلنا إليها في أيام من سبقوني». ليس من الواضح أي سابقين أو تفاهمات كانت في ذهن نتانياهو. ولكن كان من الصعب تحاشي الشعور بأنه كان يقول للملك أن يهتم بشؤونه الخاصة وألا يتدخل في الشؤون الإسرائيلية ـ الفلسطينية. لم يكن هناك ما يشير إلى وجود أسف ولا تنازل لوجهة نظر الملك ولا أثر لأي فكرة بناءة واحدة في رد نتانياهو.

وقعت أكثر الأحداث مأساوية في 13 مارس (اذار) حينما أطلق جندي أردني مخبول النار وقتل 9 تلميذات إسرائيليات وأصاب 6 أخريات بجراح في «جزيرة السلام» الواقعة في نقطة العبور نهاريا في الشمال. كانت المنطقة حينذاك قد أعيدت حديثا إلى السيادة الأردنية بموجب بنود اتفاقية السلام وكانت الفتيات في نزهة مدرسية. قطع الملك والملكة، اللذان كانا في زيارة رسمية لمدريد، زيارتهما في الحال وعادا أدراجهما إلى الأردن وقال الملك عند وصوله «لا أستطيع أن أقدم ما يكفي من التعازي أو اعبر بما فيه الكفاية عن حزني الشخصي لأمهات وآباء وأخوة هؤلاء الأطفال الذين قضوا نحبهم اليوم». كان غاضبا غضبا شديدا على انهيار النظام في الجيش الذي سمح لمثل هذا الحادث أن يقع. كان الملك قد ظل لسنوات عديدة يقول لمن حوله، خصوصا العسكريين، إن جيرانهم يعانون من عقدة تتعلق بالأمن وانه يجب أخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار وأنهم يحتاجون لتطمينات مستمرة. وقد شعر الآن بأن الجيش قد خذله ووجه تأنيبا رسميا قاسيا للمسؤولين عما حدث. وقال إن إطلاق النار على الأطفال هو أمر لا يجب أن يحدث في زمن الحرب فما بال أن يحدث ذلك وهم في حالة سلام.

بعد ثلاثة أيام من الحادث قام الملك حسين بزيارة غير مسبوقة إلى قرية بيت شيميش الإسرائيلية لتقديم تعازيه الشخصية لأسر الضحايا. وفي منازل الأسر المكلومة انحنى على ركبتيه وشاركهم حزنهم. وقد نالت مشاعر الملك حسين الإنسانية البسيطة التقدير ليس فقط من الأسر المكلومة وإنما أيضا من الشعب الإسرائيلي كله. ولكن خطوة الملك حسين هذه فُسرت في العالم العربي بشكل مختلف.

وأصر الملك أن تنقل كل زيارة من زياراته على التلفزيون الأردني بالرغم من الغضب الذي كان يعلم أن ذلك النقل التلفزيوني سيصعده بين مجموعات المتطرفين في الأردن. كان يريد أن يعلم الجميع ثمن العنف. وقال لإحدى الأسر «إذا كانت هناك أي غاية لحياتي فإنها ستكون لأجل أن أتأكد ألا يعاني كل الأطفال ما عاناه جيلنا».

أحد التعبيرات المتعلقة بحزن الملك حسين التي لم تجد القدر الكافي من تسليط الضوء هو ما عرضه بتعويض أسر الضحايا. أراد أن يساعد الأسر ماديا ولكن بشكل يتسق مع العادات والتقاليد اليهودية. لذلك طلب من اللورد ميشكون النصح فقيل له أن يرسل ما يرغب إرساله من المال إلى رئيس إسرائيل. ووفقا لذلك أرسل الملك حسين مليون دولار للرئيس (الاسرائيلي) عيزرا وايزمان. وبعد عام تسلم رسالة جاء فيها:

«صاحب الجلالة أحيينا أخيرا ذكرى مرور عام على المأساة الرهيبة في نهاريا حينما قتلت سبع فتيات وأصيبت أخريات بجراح. لقد تأثر شعب إسرائيل تأثرا شديدا بزيارتكم للأسر التي فقدت بناتها في بيت شيميش وأيضا بالإيماءة الإنسانية بالهبة المالية.

أود أن أخطركم بأنني دعوت الأسر ووزعت عليها كل المبلغ الذي أرسلتموه. وقد طلبت مني الأسر أن انقل إليكم شكرها المخلص وامتنانها».

كان تفاؤل الملك حسين الطبيعي قد وهن. وكان توتره الناتج عن عملية السلام قد بدأ يظهر. وصار يواجه صعوبات في الخلود للنوم ليلا. وقالت زوجته «تسبب التوجه قصير النظر لنتانياهو وللمتشددين في حكومته في إحداث ضغط هائل على الملك لنقض عملية السلام. ان كل ما عمل من اجله طوال حياته وكل علاقة كان قد بناها باجتهاد على أساس الثقة والاحترام وكل حلم بالسلام والرفاهية كان يحلم به لأجل أطفال الأردن قد تحول إلى كابوس. وما عدت اعلم حقيقة إلى أي مدى سيستطيع أن يتحمل أكثر».

وفي الوقت الذي بدت فيه الأشياء وكأنها تتجه إلى أقصى حالات السوء حاول يوم الخميس 25 سبتمبر (ايلول) 1997 اثنان من عملاء الموساد يحملان جوازات سفر كندية اغتيال مواطن أردني في وضح النهار وفي شوارع العاصمة الأردنية. كان هدف العملية هو خالد مشعل رئيس مكتب حركة حماس في عمان. كانت حماس قد أعلنت قبل ذلك عن عمليتين انتحاريتين في القدس. وقرّر نتانياهو اغتيال قادة حماس انتقاما من العمليتين واختير مشعل كأول هدف. كانت وسيلة الاغتيال هي حقن سم بطيء الأثر في أذنه أثناء دخوله إلى مكتبه في عمان. تم حقن مشعل لكنه لم يقتل بينما استطاع حراسه القبض على عميلي الموساد. كان نتانياهو هو الذي أعطى الأوامر بالعملية. لم يكن قائد أركان الجيش الإسرائيلي، ولا مدير استخباراته، يعلمان بالمهمة بينما كان رئيس محطة الموساد في عمان معارضا للعملية بسبب خوفه من أن تؤدي إلى الإضرار بالعلاقات بين إسرائيل والأردن، لكن نتانياهو أعطى الأوامر بالعملية رغما عن ذلك، وأرسل إلى عمان فريقا لتنفيذ العملية لا يقل عن 8 أشخاص، اثنان منهم اعتقلتهما السلطات الأردنية، ولجأ أربعة آخرون إلى السفارة الإسرائيلية بعد إجهاض العملية.

قال الملك حسين، الذي يعتبر أفضل صديق لإسرائيل، بعد فشل محاولة الاغتيال إنه شعر «وكأن شخصا ما قد بصق على وجهي». كان إحساسه بتعرضه للخيانة كبيرا، لأنه وقبل ثلاثة أيام من المحاولة كان مسؤولون إسرائيليون وأردنيون قد ناقشوا موضوع إرهاب الجماعات الإسلامية. وقد تم الاجتماع في عمان في إطار التعاون الأمني الروتيني بين الجانبين. وقد تدخل الملك شخصيا في الحوار لإبلاغ المجتمعين عن عرض من حماس بهدنة. وكان العرض يتعلق بهدنة بين إسرائيل والفلسطينيين، بمن فيهم حماس، تمتد لثلاثين عاما. وطلب بان ينقل هذا العرض مباشرة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي. لذلك كان مندهشا أكثر وغاضبا حينما علم أن نتانياهو شخصيا هو الذي أمر بالقيام بالعملية في العاصمة الأردنية.

اتصل نتانياهو هاتفيا بالملك حسين من مقر قيادة الموساد، حال سماعه بفشل العملية، ومن الواضح انه لم يكن يأخذ في الحسبان احتمال أن تفشل العملية. طلب نتانياهو من الملك حسين مقابلة الجنرال داني ياتوم رئيس الموساد في اقرب وقت ممكن. لم يشر نتانياهو إلى سبب الاجتماع مع ياتوم وافترض أن الأمر مرتبط بما اقترحته حماس من هدنة. عند وصول ياتوم كان الملك قد تلقى تنويرا كاملا حول العملية الفاشلة. ذهب ياتوم إلى عمان بمفرده في طائرة خاصة واستقبل ببرود. كان الجنرال علي شكري، والجنرال سميح بطيخي رئيس شعبة الاستخبارات العامة، في الاستقبال أيضا. كان ياتوم وأسرته قد امضوا عطلة نهاية الأسبوع الذي سبق العملية في العقبة وقد احتفى بهما الملك شخصيا. لقد أثار حيرة الملك أن يقدم شخص، عامله كصديق، على التورط في عمل قذر كهذا. أوضح ياتوم أن الشخصين المحتجزين لدى الشرطة هما بالفعل عملاء للموساد. فقال له الملك حسين إن مثل هذا السلوك لا يمكن التسامح معه، ثم خرج من الاجتماع. وتقدم بطيخي في توبيخ ياتوم لخيانتهم. أجاب ياتوم أن مشعل يرأس عمليات حماس الإرهابية. ورد الأردنيون بأنه حتى لو كان ذلك صحيحا فانه ليس من حق إسرائيل أن تطلق يدها بهذه الصورة في بلادهم. استشاط بطيخي غضبا وخرج من الاجتماع. تعرض ياتوم للتوبيخ من الجميع وأجبر على المغادرة دون أن يحصل على مقابلة أو معلومات عن مرتكبي الجريمة. كان ذلك احد اقصر الاجتماعات في تاريخ سجل العلاقات الإسرائيلية ـ الأردنية.

كانت المشكلة الأكثر إلحاحا بالنسبة للأردنيين هي كيفية انقاذ حياة خالد مشعل الذي يوجد في غرفة العناية المكثفة في المستشفى، وفي هذا يحتاجون لترياق السم الذي حقن به مشعل. وذكر أن نتانياهو اعتبر أن الترياق من المقدرات القيمة للدولة ولا يمكن كشفه. هدّد الأردنيون بالهجوم على السفارة الإسرائيلية واعتقال عملاء الموساد الأربعة الذين لجأوا إليها واستعد الجيش للهجوم ووضع الكولونيل عبد الله الابن الأكبر للملك وقائد القوات الخاصة في قيادة العملية.

لم تلن إسرائيل إلا بعد أن اجبرها تدخل الرئيس كلينتون على ذلك. اتصل الملك حسين بكلينتون لإبلاغه بالأزمة وتعريفه بأن مستقبل اتفاقية السلام متصل بحياة مواطن أردني تم تسميمه. وقال حسين انه إذا مات مشعل فانه سيذهب إلى التلفزيون في مساء اليوم نفسه ويكشف القصة كلها ويجمد اتفاقية السلام ويقدم منفذي العملية لمحاكمة علنية في الأردن. صعق كلينتون وقال عن نتانياهو متعجبا «هذا الرجل يصعب التعامل معه!» وأضاف قائلا «إن نتانياهو لا يضر بالمصالح الأردنية والاميركية وحدها وإنما يعرض عملية السلام في الشرق الأوسط بأكملها للخطر» وحاول كلينتون تهدئة الملك حسين وناشده ألا يقطع العلاقات مع إسرائيل. ثم اتصل بعد قليل ليقول إن نتانياهو وافق على السماح بكشف الترياق. وبعد منتصف الليل بقليل وصل طبيب إسرائيلي على متن طائرة صغيرة نقل إلى المستشفى. لكن الأطباء لم يريدوا الدخول في أي مغامرة تجريب للترياق الذي جلبه الإسرائيليون. وبدلا عن ذلك أعطي مشعل دواء صحيحا من الإمدادات الطبية بمخازن المستشفى وتعافى.

جمّد الأردن كل أشكال التعاون الأمني مع إسرائيل بعد الاجتماع الذي تم مع ياتوم. ووجهت كل جهود إسرائيل بإرسال وفود رفيعة المستوى بعدم القبول من جانب الملك، فقد شعر انه تعرض شخصيا للخيانة ولا يريد أن يرى أي إسرائيلي. وطلب تحديدا ألا يقحم هاليفي في الموضوع فقد كان يقدر كثيرا علاقته به ولم يكن يريد لها أن تتأثر بهذا الفصل القذر. أما هاليفي فانه استجاب لدعوة نتانياهو اليائسة لتقديم المساعدة وترك موقعه في بروكسل على عجل وأتى إلى القدس. لم يكن يريد أن يكون تدخله في الموضوع علنيا لأنه يعتبر أن العلاقة التي كان قد أنشأها مع الأسرة الهاشمية بمثابة رصيد قومي وليس مجرد علاقة شخصية. نظر هاليفي للموضوع من وجهة نظر الملك حسين. كان الملك قد قام بخطوة شجاعة بقيادة بلاده في التوقيع على اتفاقية سلام مع إسرائيل في وجه معارضة شديدة من أغلبية مواطني بلاده. وكانت علاقته مع حركة الأخوان المسلمين علاقة حساسة، فهي حليفة لحماس، وقد جاءت محاولة اغتيال مشعل في أسوأ وقت ممكن. لقد وضعت إسرائيل الملك حسين في وضع شديد الإحراج وعلى إسرائيل أن تحل مشكلته أولا كي تحل مشكلتها. إذا أطلق الملك سراح العملاء الإسرائيليين الستة سينظر له شعبه كمتعاون مع الموساد. والفكرة التي تقدم بها هاليفي كانت تتلخص في أن يطلق سراح الشيخ احمد ياسين القائد الروحي لحماس، الذي كان يرزح في سجن إسرائيلي. وهذا الأمر قد يحمل الملك على إطلاق سراح العملاء الستة. نالت فكرة هاليفي تأييدا قليلا لكن نتانياهو سمح له بتجريبها مع الملك حسين، ذهب هاليفي إلى عمان يوم الأحد 28 سبتمبر وقابله الأمير الحسن والجنرال بطيخي. وبعد الاستماع لسلسلة من الشكاوى تقدم بمقترحه فيما يتعلق بالشيخ ياسين. قال الأمير حسن إن المقترح يستحق النظر إليه، لكن بطيخي اتخذ خطا مغايرا، مشيرا إلى أن حل الأزمة يتطلب إطلاق المزيد من السجناء من جانب إسرائيل. وفي وقت مبكر من النهار ذهب هاليفي لمقابلة الملك الذي لم يبذل جهدا في كتمان مشاعره المريرة فيما يتعلق بما حدث. لكنه لمّح إلى أنه في الامكان قبول عرض إطلاق سراح الشيخ ياسين وسجناء آخرين لم يحددوا بعد. حصل هاليفي على تنازلين، أولهما أن الملك سمح له، رغم مقاومة بطيخي الشديدة، بأخذ عملاء الموساد الأربعة من السفارة معه إلى إسرائيل. والتنازل الثاني هو أن الملك وافق أن يأتي نتانياهو إلى عمان في ذلك المساء نفسه لتمتين التفاهمات التي بدأت تظهر.

قرب منتصف الليل غادرت طائرة مروحية القدس تحمل وفدا كبيرا ضم رئيس الوزراء، وآرييل شارون وزير البنى التحتية القومية، واسحق مردخاي وزير الدفاع، وأفرايم هاليفي، والياكيم روبنشتاين، النائب العام وعددا من المساعدين. لم يكن الملك يرغب في رؤية نتانياهو، لذلك طلب من الامير حسن وبطيخي أن يتصديا للحوار. وفي الحال اتضح أن إطلاق الشخصين المعتقلين صار وشيكا. وتم التوصل إلى تفاهم حول مبادئ الصفقة لكن تفاصيل التفاوض حولها تركت لكل من الياكيم روبنشتاين وارييل شارون. أما هاليفي فانه بعد أن أنقذ رئيس وزرائه من وضع شائك للغاية رجع إلى مكان عمله في بروكسل. ومن الذكريات التي تبقت لدى روبنشتاين عن الاجتماع أن الملك حسين ظل يردد «لماذا؟ لماذا؟».

لم يتأخر شارون أبدا في اغتنام الفرص. وفي الاجتماع مع الملك نأى شارون بنفسه عن العملية الخرقاء التي وصفها بأنها «خطأ فادح». كان مستشار شارون في الشؤون العربية هو مجالي وهبه، وهو درزي من بيت جان في الشمال وعضو في الكنيست، كان في السابق كولونيلا في قوات الدفاع الإسرائيلية. وقد ذكر وهبه انه بعد وقت وجيز من عمله مع شارون في عام 1996 اتصل به علي شكري ودعاه إلى لقاء مع الملك حسين في عمان. ومن المرجح أن يكون وهبه هو المسؤول الإسرائيلي الوحيد الذي تحدث إلى الملك باللغة العربية. وخلال الاجتماع قال وهبه انه تأثرا كثيرا لان الاجتماع كان أول مناسبة له للقاء الملك. وقال له الملك «يا بني تصرف وكأنك في منزلك». تحدث وهبه عن جده الذي التقى الملك عبد الله جد الملك حسين. وتحدث الملك حسين إلى وهبه عن خطئه في الانضمام إلى الحرب ضد إسرائيل عام 1967. وتحذيره عام 1973 الذي لم يستمع له احد. وامتد الاجتماع لخمس ساعات وفي النهاية تم الاتفاق على إقامة قناة اتصال بين القصر وشارون.

بعد محاولة اغتيال خالد مشعل وافق الملك على مضض على لقاء شارون. ونصح شكري الملك بأن شارون يكن كرها شديدا لنتانياهو وانه ينتظر الفرصة للإطاحة به. تحدث شارون بالعبرية مع الملك وترجم وهبه حديثه إلى العربية. وقال شارون «يا جلالة الملك، إذا سمحت لي بأخذ عميلي الموساد سأقيدهما كالصبيان، وكعقاب مني لهما على تخبطهما سأجلس عليهما طوال طريق العودة. وكما ترى فإنني لست من أصحاب الوزن الخفيف». تم إبرام الصفقة وأطلق الأردن سراح كل عملاء الموساد الباقين مقابل إطلاق سراح الشيخ احمد ياسين و23 أردنيا و50 فلسطينيا كانوا معتقلين في السجون الإسرائيلية. بعد الاجتماع انتحى شكري بوهبه جانبا وقال له «عندي نصيحة لك. إذا كان لي أن أضعها على نحو مخفف فانا أقول إن جلالة الملك لا يحب رئيس وزرائكم ومن الأفضل، من الآن ولاحقا، أن تتوليا أنت وشارون معالجة هذا الأمر». كان عدم الثقة متبادلا بين نتانياهو وشارون لكن بعد كارثة عمان سلم نتانياهو معالجة الأمر لمنافسه القوي. كان الملك حسين وشقيقه قلقين في السابق حول إمكانية تعاون إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية على الإطاحة بالبيت الهاشمي. والآن جاء دور الفلسطينيين للقلق حول ما إذا كان حسين وارييل شارون يعملان بتعاون وثيق ضدهم.

ربط مسؤولون أردنيون بين محاولة الاغتيال الخرقاء وعملية السلام. وذكّروا بأن حماس ابتعدت عن القيام بهجمات إرهابية خارج حدود إسرائيل والأراضي المحتلة ونظروا إلى محاولة اغتيال مشعل خارج هذه الحدود بأنها محاولة من إسرائيل لخلق استفزاز لا يمكن التسامح معه وأنها ستجبر حماس على الرد فتلقي إسرائيل اللوم على عرفات بحجة مسؤوليته عن شن موجة عنف جديدة مما سيجمد مجددا عملية السلام. وفي هذا السياق فان عرض حماس لهدنة الثلاثين عاما والتي بعثها الملك حسين لنتانياهو قد يفترض أن تكون لها دلالتها. وقد زعم نتانياهو فيما بعد انه لم يتلق العرض إلا بعد نهاية العملية، لكن لم يصدقه احد في الأردن. لقد قدمت الرسالة بواسطة الملك حسين نفسه لديفيد سيلبيرج مسؤول الموساد الذي كان مقربا لدى الملك، وذلك في رسالة عاجلة إلى نتانياهو. وقال سيلبيرج لزملائه الأردنيين انه تأكد من أن تقريره قد وضع على مكتب رئيس الوزراء بمجرد عودته قبل ثلاثة أيام من الهجوم على مشعل. كان استنتاج الملك حسين بسيطا، وتلخص في التالي: نتانياهو يندفع نحو تحطيم السلام. كان الملك حسين يعتقد أن نتانياهو بعث له برسالة (من خلال العملية) فحواها أن السلام مع الأردن ليس مهما بالنسبة له وان السلام مع الفلسطينيين اقل أهمية حتى من ذاك. كما أن حدوث العملية الفاشلة بعد عرض حماس بالهدنة يعني أن إسرائيل غير مهتمة بها.

كانت تبعات عملية مشعل هذه مضرة للغاية لاسرائيل. فقد جمّد الأردن تعاونه الأمني معها وطالب بإغلاق محطة الموساد في عمان وسعى إلى استقالة الجنرال ياتوم. وقد أضعفت أيضا العملية الملك حسين الذي ظلت اتفاقيته للسلام مع إسرائيل لا تحظى بالتأييد وسط شعبه بالقدر الذي تحظى به بين الإسرائيليين.

بعد زيارة للملك حسين إلى واشنطن عبر خلالها العديد من قادة اليهود الاميركيين له عن فزعهم من توجه نتانياهو.. قام حسين وزوجته بزيارة إلى لندن ونزلا في منزلهما بحي كينزنغتون. طلب نتانياهو عقد اجتماع عاجل هناك. ويبدو أن مؤيديه من اليهود الاميركيين هم الذين حثوه على ذلك. كانت الملكة نور في مساء اليوم التالي في الحمام، وكان ضباط البروتوكول قد وافقوا على أن يحضر نتانياهو وحده، لذلك فان الملكة نور اندهشت عند إخطارها أن زوجة نتانياهو تصحبه فنزلت بدون أن تجفف شعرها بشكل كامل كي تقوم بواجب الضيافة بعيدا عن السياسة لكنها وجدت نفسها، بدون أن تقصد، تخوض في حقل من الألغام. كانت الملكة نور تود أن تركز على الصلات الايجابية بين العرب وإسرائيل في المجالات المؤسسية والأعمال والصلات الفردية والتي تطورت خلال السنوات الأخيرة. وكجزء من تقدم عملية السلام فان مما يشجع أن يُرى المؤرخون العرب والإسرائيليون والأكاديميون قد شرعوا في مراجعة الكتب المدرسية والروايات التاريخية بهدف تصحيح الدعاية الصادرة عن كلا الجانبين، فقالت السيدة نتانياهو بغضب وخشونة «ماذا تعنين بالدعاية» فردت نور بأن احد الأمثلة للأساطير التي تمثل تشويها هي وصف فلسطين بأنها «ارض بدون شعب لشعب بدون ارض» فقالت سارة نتانياهو «حينما جاء اليهود إلى هذه المنطقة لم يكن بها عرب. لقد جاءوا بحثا عن العمل بعد أن بنينا المدن. لم يكن هناك احد قبل ذلك».

فردت نور «أنا متأكدة أن مؤرخيكم لا يوافقون على أن هذا صحيح». كانت تلك المناقشة مصدر تأمل للملكة نور، ما دفعها للتساؤل عما إذا كان نتانياهو وزوجته يؤمنان بأساطير كهذه. وإذا كان الأمر كذلك فما هي التصورات الوهمية الأخرى التي تعيق عملهما معا في سبيل الوصول إلى سلام دائم.

أضرّت خيبة الأمل في الاتفاقية من موقف الملك حسين وجاء رد فعله على شكل تبني إجراءات تسلطية لقمع الانشقاقات. تم تعديل قانون الصحافة بغرض تمكين الحكومة من اتخاذ إجراءات عقابية ضد الصحف المعارضة، وتوقف الملك عن الاستماع لغيره بعد أن كان مستمعا جيدا في الماضي، وصار غاضبا بعد أن كان مشهودا له بصبره، وتلاشت رؤية الملكية الدستورية التي كانت ملهمة له في الثمانينات. لم يعد يهتم بالبرلمان، وصار غير متسامح مع النقد الذي يوجه لسياساته، كما صار يعتبر معارضة التطبيع معارضة غير شرعية. وقد وصلت الاجراءات الى درجة أن قررت الأحزاب الإسلامية الرئيسية في البرلمان وبعض السياسيين من التيار الرئيسي مثل رئيس الوزراء احمد عبيدات مقاطعة الانتخابات البرلمانية في نوفمبر 1997.

اتخذ الملك حسين قرب نهاية العام قرارا بالمشاركة كلاعب رئيسي في المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وفي 24 ديسمبر أصدر خطابا مفتوحا لرئيس الوزراء عبد السلام مجالي عن موقف الأردن في كل ما يتعلق بموضوعات جدول أعمال الوضع النهائي. وكانت الخلفية تستند إلى «ما يبدو محاولة مستمرة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بتحطيم اتفاقيات اوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين». وكانت الموضوعات الأساسية هي الأمن والقدس والسيادة. وكانت هناك مزاعم لحزب الليكود بأن «إسرائيل تحتاج لاستعادة وادي الأردن لحمايتها وحماية الأردن أيضا من وجود نزعة توحيدية تحررية للكيان الفلسطيني». وقد أوضح الملك حسين أن «هذه المزاعم لا أساس لها وأنها مرفوضة تماما». وسلط الضوء على التزام الأردن بدور خاص في الأماكن المقدسة بالقطاع القديم للقدس كما ورد في الاتفاقية. وأخيرا أعلن الملك حسين عن نيته في لعب دور مباشر في الطور التالي من المفاوضات. استؤنف التعاون الأمني مع إسرائيل في بداية 1998 لكن البرود كان يخيم على الأجواء. أعلن نتانياهو انه ليس في نيته الانسحاب من وادي الأردن، ما آثار غضب الملك حسين فبعث إلى نتانياهو برسالة يدين فيها تصريحه بوصفه إهانة لمملكته وانتهاكا لالتزامات إسرائيل. عاد، للعلاقات بين عمان والقدس، بعض دفئها القديم حينما تم استبدال الجنرال داني ياتوم بأفرايم هاليفي كرئيس للموساد. ولكن نتانياهو كان يريد أن يظهر للجمهوريين المتشددين والمحافظين اليهود في أميركا بأن إسرائيل في ظل قيادته تعتبر ذخيرة استراتيجية وانه يحقق نجاحات ويسير على خطى اسحق رابين. وكان خطاب نتانياهو لليمين الأميركي هو أن مصالح الولايات المتحدة ومصالح اللوبي الإسرائيلي هي مصالحه. وأنه لن يقدم على إقامة سلام مع العراق حتى لو كان في ذلك عزل سورية. وقد زعم أن صدام ما زال يطور أسلحة الدمار الشامل والصواريخ طويلة المدى.

* غدا: الإصابة بالسرطان وإقامة الملك في مايو كلنيك


أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة الثامنة عشرة) ـ عدة عوامل رجحت اختيار الأمير عبد الله لخلافة الملك حسين

العاهل الراحل بدأ التفكير بصوت مسموع حول قضية خلافته منذ 1992

الملك حسين والامير حسن والملك عبد الله (الامير وقتها) خلال تسليم ولاية العهد
لندن: «الشرق الأوسط»
استمرت صحة الملك حسين في التدهور طوال عام 1998. خلال الفحص الطبي السنوي في مستوصف مايو في روشيستر بولاية مينيسوتا في مايو (آذار) 1998 جاء فريق الأطباء بنظريات تتعلق بوجود فيروسات غريبة، لكنهم لم يعثروا على أية أشياء شاذة أخرى في فحصه. غادر الملك وزوجته المستوصف إلى واشنطن العاصمة، حيث التقى الملك، الرئيس كلينتون ووزيرة الخارجية مادلين أولبرايت لإجراء محادثات حول إحياء عملية السلام، ثم ذهبا، الملك وزوجته، إلى انجلترا لأسبوع، وذلك لإحياء الذكرى العشرين لزواجهما في بكهرست بارك في أسكوت. كان الملك يبدو سعيدا ومسترخيا. فارقته الحمى وبعد عودتهما للأردن عاودته الحمى، وكانت هذه المرة اشد شراسة، وفي يوليو (تموز) 1998 ذهب الملك مرة أخرى إلى مستوصف مايو، وفي هذه المرة تم تشخيص مرضه بأنه الورم الليمفاوي من نوع non-Hodgkin’s lymphomia مع وجود خلايا غير عادية في أماكن عديدة، وكان عليه أن يبقى في المستوصف حتى نهاية العام. وخلال غيابه قام أخوه الأصغر حسن، الذي كان وليا للعهد منذ 1965، بدور الوصي على العرش.

في حلقة اليوم من كتاب «أسد الاردن»، الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر بنغوين ومؤلفه آفي شليم المؤرخ والبروفيسور في جامعة اكسفورد، الكثير من أسرار عام 1998 عام المرض للملك حسين، والذي أمضى جزءا كبيرا منه في مايو كلينك قبل رحلته الأخيرة، والأجواء السياسية وكيف بلور العاهل الراحل تفكيره في اتجاه ترتيب خلافته.

«مايو كلينيك» باتت بمثابة دار للملك حسين خلال النصف الثاني من عام 1998، قبل رحلته الأخيرة للوطن. فقد تسبب سرطان الغدة الليمفاوية الذي كان يعاني منه في إصابته بنوبات من الحمى من وقت لآخر، فضلا عن نقص في وزن الجسم، وشعور بالإرهاق والإنهاك الشديد. وقرر الأطباء إخضاعه لست جلسات علاج كيماوي على مدى ما يزيد على خمسة شهر، تبعتها عملية لنقل نخاع العظم. مُنح العاهل الأردني الراحل في «مايو كلينيك» جناحا خاصا بكبار الشخصيات يحتوي على مطبخ وصالة لتناول الطعام، وغرفة صغيرة مجاورة لغرفته، كانت تنام فيها الملكة نور. اما بقية أفراد الأسرة والمرافقين قد كانوا يقيمون في فندق قريب متصل بنفق مع «مايو كلينيك». أبناؤه وبناته وعدد من أفراد الأسرة الآخرين، كانوا في حركة سفر مستمرة من وإلى الولايات المتحدة لزيارته، وكان الأمير حمزة، أكبر أبناء الملك حسين من الملكة نور، قد ظل إلى جوار والده على مدى شهور خلال الفترة الفاصلة بين تخرجه في هارو والتحاقه بأكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية. كما أن الملك حسين والملكة نور كانا يسافران بين كل جلستي علاج كيماوي إلى ريفير سايد خارج واشنطن، للقيام بجولات خلال اليوم حول مينيسوتا بسيارة فولكسواجن طراز بيتلز رمادية اللون، كانت قد اشترتها الملكة نور، بعد وصولهما هناك بوقت قصير.

خلال الوقت الذي قضاه في «مايو كلينيك»، بدا الملك حسين شجاعا في مواجهة المرض، وأبدى أملا وتفاؤلا، ظاهريا على الأقل. كان لديه قدر كبير من الأعمال اليومية، فضلا عن عدد لا يحصى من رسائل التمنيات بالشفاء والاستفسار عن صحته، وسيل مستمر من الزوار، إلا الأطباء أصروا على التزامه الراحة للمحافظة على طاقته، وأصبحت الملكة نور بمثابة الحارس الذي ينفذ تعليمات الأطباء. كان الملك حسين على اطلاع مستمر على الأوضاع في الأردن. فعام 1998 كان صعبا على الأردن، ليس فقط بسبب مرض الملك وغيابه، فقد كانت مستويات المعيشة في تدهور مستمر، وتراجع إجمالي الناتج المحلي من 10 في المائة عام 1992 إلى 5.6 في المائة عام 1995، ثم إلى 1.5 في المائة، خلال الفترة من 1996 إلى 1998، وبات تعداد السكان في زيادة أسرع من زيادة إجمالي الناتج المحلي، فضلا عن أن البيروقراطية وعدم الكفاءة فاقما من الشعور العام بالإحباط. وحدثت خلال تلك الفترة فضيحة المياه الملوثة في العاصمة عمان، الأمر الذي قاد إلى إقالة حكومة رئيس الوزراء عبد السلام المجالي ليحل محله فائز طراونة، سفير الأردن السابق لدى الولايات المتحدة وكبير المفاوضين مع الجانب الإسرائيلي. وواجهت الحكومة الجديدة تحديا تمثل في استعادة ثقة الشعب من خلال ضمان وتعزيز الشفافية، ومواجهة الكساد الاقتصادي والبيروقراطية المستشرية. واصل ولي العهد الأردني، الأمير حسن بن طلال، «الحوار الوطني» الذي كان قد بدأه الملك حسين مع قطاعات الشعب الأردني كافة، ومع المعارضة على وجه الخصوص. إلا ان ذلك لم يسفر عن أي تغير كبير في السياسات أو أي تحسن واضح وكبير، ولكن كان له اثر مهدئ على المسرح الداخلي. باشر الأمير حسن واجباته كوصي على العرش بإخلاص وحيوية وكفاءة، وعلى الرغم من انه اكتسب احترام المثقفين والتكنوقراط، فإنه فشل في كسب تأييد طبقات الشعب العادية، ذلك أن الاعتقاد السائد هو انه كان بعيدا عن واقع وهموم المواطن العادي. كما ان علاقاته بالجيش كانت متكلفة لأنه خلفيته أصلا ليست عسكرية من ناحية، وبسبب انتقاداته العلنية لقادة الجيش من الناحية الأخرى. يضاف إلى ذلك ان الجيش الأردني مرتبط جذريا بالقبائل البدوية وسكان الريف الأردني البدو، ولم يكن للأمير حسن علاقات وثيقة مع هذه القبائل. ثمة عامل آخر يربط بين هذين الجانبين وهو ان الأموال التي يمنحها النظام الأردني لهذه القبائل بغرض كسب وضمان تأييدها كانت تأتي أصلا من الجيش، الذي كان الأمير حسن ينتقد قادته على نحو علني. علاوة على ذلك، لم تكن علاقة الأمير حسن مع رؤساء الحكومات الأردنية المتعاقبين خالية من المشاكل، ووصلت العلاقة بين الأمير حسين ورئاسة الحكومة قمة تدهورها مع عبد الكريم الكباريتي، الذي جرى تعيينه في 17 مارس (آذار) 1997. تلك كانت في واقع الأمر طبيعة شخصية الأمير حسن، إلا ان كل ذلك لا ينفى بأية حال إدارته للحكومة على نحو جيد وأيضا بصورة أكثر فعالية، بعد أن أصبح وصيا على العرش. لم يحاول الأمير حسن قبل أو خلال الفترة التي أصبح خلالها وصيا على العرش تشكيل قاعدة سلطة خاصة به، بل العكس. فقد نفّر كثيرا من الذين كانوا من المحتمل ان يصبحوا من مؤيديه داخل الحكومة والجيش بفعل دعواته بالتزام مبدأ المحاسبة ووعوده باجتثاث الفساد وبهجومه الصريح والمباشر على المجموعات التي تسعى إلى استمرار وتعزيز سيطرتها بغرض تحقيق مصالحها الخاصة. كان الأمير حسن يكن إعجابا واحتراما لشقيقه الملك حسين وكان مخلصا له. فقد ظل يبعث لشقيقه في «مايو كلينيك» تقريرا كاملا على نحو اسبوعي حول الأحداث والمناقشات والقرارات التي اتخذت خلال الأسبوع السابق له. إلا ان الكباريتي، كرئيس للحكومة ورئيس للبلاط، كان أكثر إخلاصا للملك حسين، وربما يكون ذلك أمرا مفهوما. شأنه شأن بقية المساعدين المقربين من الملك، كان للكباريتي اتصالات شخصية وثيقة ومباشرة لم تكن متوفرة للأمير حسن في تلك الفترة، ذلك انه لم يكن هناك تعاطف يُذكر تجاه الأمير حسن من جانب أي من الذين جمعت بينهم تلك الصلة الوثيقة بالكباريتي، كما كانت لغالبيتهم مواقف انتقادية قاسية تجاه الأمير حسن.

العلاقة بين ولي العهد الأمير حسن والملكة نور كانت باردة منذ البداية. فهو لم يكن راضيا عن إطلاع الملكة نور على الأمور الخاصة بالسياسات من خلال الأحاديث الخاصة بينهما وزوجها الملك، كما ان زوجة الأمير حسن الباكستانية الأميرة ثروت، لم تكن راضية عن الطريقة التي يعامَل بها زوجها من جانب الملكة نور. لم يحدث مطلقا أن زار الأمير حسن شقيقه الملك في «مايو كلينيك» خلال فترة مرضه، ولم يكن السبب في ذلك عدم رغبة من جانبه، وإنما لأنه ابلغ بأنه إذا زار شقيقه المريض فإن الأردنيين سيعتقدون ان الملك على وشك الموت. لم يتحدث الأمير حسن مع الأطباء المشرفين على علاج شقيقه، لذا كانت أنباء تدهور صحة الملك الراحل خريف عام 1998 مفاجئة تماما للأمير حسن. ومع بروز قضية خلافة الملك إثر أنباء تدهور حالته الصحية باتت أجواء البلاط تعج بالشائعات والمكائد، وأفرزت الصراعات الأسرية والتنافس السياسي المرير مشهدا اقرب إلى أعمال شكسبير التراجيدية. وفي واقع الأمر، عنوان السيرة الذاتية للعاهل الأردني الراحل Uneasy Lies the Head مقتبس من جزء الفصل الثاني من مسرحية هنري الرابع لويليام شكسبير: Uneasy lies the head that wears a crown، ويعني ان الشخص الذي تقع على عاتقه مسؤوليات كبيرة، مثل الملك، دائما ما يكون في حالة قلق مستمر. من أبرز المتآمرين ضد الأمير حسن في ذلك الوقت الجنرال سميح البطيخي مدير المخابرات العامة، الذي كانت تدور شائعات باستغلاله لمنصبه لتحقيق مصالحه الخاصة، ووجهت له بعد خمس سنوات تهم تتعلق بالفساد، وأدين وصدر حكم بسجنه. وكان البطيخي قد نجح في تأمين قدر كبير من السلطة والنفوذ لنفسه، وكان من الواضح أيضا ان الأمير حسن بن طلال إذا أصبح ملكا، فإن البطيخي سيخسر كل ما دأب على جمعه من سلطة ونفوذ تحت يديه. يضاف إلى ذلك ان حملة الأمير حسن المتشددة ضد الفساد قد افرزت عددا كبيرا من المعادين لتوجهاته في المواقع العليا، وظهر تبعا لذلك لوبي معاد له في عمان كان البطيخي في قيادته.

ومع بداية تراجع وضعه الصحي، بدأ العاهل الأردني الراحل أكثر قلقا إزاء مسؤوليات الإرث الهاشمي الموروث من جد والده وجده لوالده، وهو ما ظل الملك حسين يحاول تنفيذه طوال حياته.

لم يكن الأمير عبد الله معروفا على نطاق واسع. لكنه داخل الجيش كان معروفا بصرامته ومقدراته العسكرية وشجاعته، ولم يكن يُعرف عنه الكثير خارج أوساط الجيش. فهو الابن الأكبر للملك من زوجته الانجليزية، الأميرة منى، واتبع تقليد الأسرة في الالتحاق بأكاديمية ساندهيرست الملكية العسكرية قبل التحاقه بالجيش الأردني. رغم ذلك، لعبت عدة عوامل دورا في ترجيح كفة الأمير عبد الله. فهو، أولا، شاب وسيم ويحمل الكثير من سمات والده في شتى الجوانب، وثانيا كان يحتل مكانا مناسبا في خط الخلافة الهاشمية لأنه يحمل اسم «عبد الله» وأطلق على ابنه اسم «حسين»، وثالثا، لم يكن غريبا على لقب «ولي العهد»، ذلك ان اللقب أطلق عليه رسميا بموجب دستور عام 1952 بعد ثلاثة أيام من مولده في 30 يناير (كانون الثاني) 1962. إلا ان تلك كانت فترة اضطراب في الأردن شهدت محاولات اغتيال متكررة استهدفت الملك حسين، وكان إطلاق لقب ولي العهد على رضيع عمره ثلاثة أيام، أمر ينذر بمخاطر على الأسرة الهاشمية المالكة في حال مقتل الملك. لذا عندما وصل الأمير حسن بن طلال سن 18 عام 1965 جرى تعديل الدستور كي يصبح أي أخ للملك وليا للعهد، وتقرر تعيين الأمير حسن وليا للعهد، لأنه الخيار الأفضل والأرجح، مقارنة بشقيقه محمد بن طلال الذي كان يعاني من حالة عدم استقرار نفسي. رابعا، الأمير عبد الله متزوج من فلسطينية، ومن الممكن ان تجتذب تأييد الشريحة الفلسطينية من سكان الأردن. وأخيرا، كان للأمير عبد الله، بوصفه ضابطا في الجيش الأردني، علاقات سالكة مع القبائل البدوية، وبالتالي كانت هناك إمكانية بناء قاعدة تأييد قوية في الريف الأردني. لم يهيئ العاهل الأردني الراحل ابنه عبد الله كي يصبح ملكا للبلاد، كما انه لم يتحدث حول احتمال خلافته له، إلا ان الأمير عبد الله بدأ يسجل حضورا بارزا على المستوى الرسمي ابتداء من مطلع عام 1998. فقد منح مكتبا في البلاط الملكي، وبدأ يظهر في معظم الأحيان بصحبة والده الراحل. وفي مارس (آذار) من ذلك العام، رافق والده في زيارة إلى الولايات المتحدة، وشارك في بعض الاجتماعات التي عقدها هناك. وفي مايو (أيار)، 1998، وعلى وجه التحديد في الذكرى الـ45 لتولي الملك حسين العرش، صدر قرار بترقية الأمير عبد الله، الذي كان في ذلك الوقت قائدا للقوات الخاصة، من رتبة عقيد إلى رتبة لواء. تلك الترقية، بالإضافة إلى القدر الذي يتمتع به من شعبية، جعلت منه مرشحا موثوقا فيه لتولي موقع نائب رئيس هيئة أركان الجيش الأردني، وفي وقت لاحق رئيسا لهيئة الأركان. موقف الملك حسين تجاه مسألة خلافة العرش الهاشمي لم يكن ثابتا، بل ملتبسا أصلا. فالتفكير في مسألة تغييرها لم تكن شيئا جديدا بالنسبة له، إذ بدأ يفكر حول هذه القضية بصوت مسموع في حضور أقرب مساعديه عقب نتائج أول فحوصات له أشارت إلى وجود خلايا سرطانية عام 1992. يتذكر عدنان أبو عودة، المستشار السياسي السابق للعاهل الأردني الراحل، أن الملك حسين خلال رحلة رافقه فيها إلى بروناي سعى إلى معرفة وجهة نظره في بعض الأفكار الجديدة حول مستقبل الأسرة، وكان على متن تلك الرحلة محمد بن طلال، ابن عم العاهل الأردني الراحل، لكنه لم يكن جالسا مع الملك حسين وأبو عودة خلال ذلك الحديث. يقول أبو عودة ان الملك حسين لم يكن واضحا تماما، لكنه قال له ان شقيقه محمد استُبعد من خلافة العرش بسبب مرضه وانه (الملك حسين) اختار شقيقه الأمير حسن وليا للعهد ولكن «من الذي يجب ان يخلف الأمير حسن؟». كان ذلك هو السؤال الذي طرحه العاهل الأردني الراحل على أبو عودة طالبا معرفة رأيه. يؤكد أبو عودة ان الملك حسين لم يطرح عليه ذلك السؤال في سياق الحديث عن استبدال الأمير حسن، وإنما كان يريد ان يعرف من الذي من المحتمل ان يأتي بعده. فقد كان يرغب أصلا، حسب قول أبو عودة، تحقيق الإنصاف والعدل في صفوف الأسرة. وزاد من تعقيد مسألة تولي العرش، ان للملك حسين خمسة أبناء: عبد الله وفيصل من زواجه الثاني، وعلي من زواجه الثالث، وحمزة وهاشم من زواجه الرابع. ويشبه حمزة والده إلى حد كبير في خلقه وبنائه الجسماني، ونشأ وهو يتحدث لغتين، وكان متمكنا من اللغة العربية، ولديه معرفة بالقرآن.

وأنشأت الملكة نور، التي اعتنقت الإسلام قبل وقت قصير من زواجها، ابنها الأكبر كي يصبح ملكا عربيا، ويُشاع انها كانت تحث زوجها باستمرار على استبدال ابنهما الأمير حمزة بشقيقه الأمير حسن وليا للعهد ووريثا للعرش. وفي عيد ميلاد حمزة الـ18 بعث له والده بخطاب مفتوح قال له فيه انه مقبل على «انجازات عظيمة»، وأشار له إلى انه هو نفسه (الملك حسين) تولى العرش عندما كان عمره 18 عاما. أشار ذلك الخطاب إلى ان حمزة مقبل على أشياء أفضل وأكبر، ويمكن القول ان محاولة العاهل الأردني الواضحة لدعم حظوظه تضمنت رغباته الحقيقية . مروان قاسم، رئيس الديوان الملكي خلال عامي 1995 و1996، سمع أيضا حديثا للعاهل الأردني الراحل حول الجيل الشاب من امراء الأسرة الهاشمية، مع الإشارة على وجه التحديد إلى الأمير حمزة. ولكن قبل ان يصبح الأمير حمزة وريثا للعرش، كان لا بد من إجراء تعديل دستوري، ذلك ان الدستور ينص على ان ولي العهد، يجب ان يكون فقط واحدا من أشقاء الملك أو ابنه الأكبر. وأخبر الملك حسين مروان قاسم بأنه يريد إدخال مادة في الدستور تنص على: «ولي عهد لولي عهدي سيكون حمزة بن الحسين». تلقى مروان قاسم استشارة قانونية أكدت إمكانية إجراء مثل هذا التعديل على الدستور، لكنه كان يخشى من ان تكون محفوفة بمخاطر، لذا أبلغ الملك بأن ذلك الأمر مسألة بينه وشقيقه ولي العهد. أيضا درج العاهل الأردني الراحل على طرح فكرة تشكيل مجلس للأسرة الهاشمية، تتركز مهمته في اختيار خليفة للأمير حسن بن طلال من بين مجموعة من الأمراء. وحسب ما فهمته شقيقه أسماء في ذلك الوقت، كان الملك حسين يبحث عن السبل الكفيلة بتحديث وتنشيط النظام الملكي من خلال الاعتماد على مواهب ومقدرات الأعضاء الشباب في الأسرة الهاشمية. لم تخف حدة التكهنات حول مستقبل ولي العهد الحسن بن طلال، وحاول الملك حسين في بداية الأمر وضع حد لها معلنا أواسط أغسطس (آب) تبديد الشائعات حول خلافة العرش، مؤكدا ان لا أساس لها من الصحة، ومشددا على ان خلافته في يد ولي العهد الحسن بن طلال. وعندما أوردت صحيفة إسرائيلية شكوكا أميركية حول تولي الحسن بن طلال العرش مستقبلا، اتصلت به وزيرة الخارجية الأميركية في ذلك الوقت، مادلين أولبرايت، هاتفيا وطمأنته بأن ما أوردته الصحيفة الإسرائيلية حول الشكوك الأميركية في خلافته للعرش مستقبلا، خبر لا أساس له من الصحة. الملك حسين أكد مجددا كذلك ثقته «الراسخة» بشقيقه الذي «اضطلع بمسؤولياته، وأدى واجباته على أكمل وجه. أما فيما يتعلق بما يمكن ان يحدث مستقبلا، فلا مبرر على الإطلاق لطرحه الآن». واحد من أصعب الواجبات التي كان على الأمير حسن القيام بها كوصي على العرش حل مكان شقيقه الملك مشاركا في المفاوضات بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني حول الوضع النهائي، واضطلع بهذا الدور على نحو متميز. لم يكن الأردن طرفا في محادثات الوضع النهائي، وكانت له مصالح حيوية في تلك المفاوضات على نحو لا يستطيع معه تحمل التبعات السياسية لانهيار عملية السلام. اما المسؤول بصورة رئيسية عن الطريق المسدود، الذي وصلت إليه المحادثات، فقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت بنيامين نتنياهو، وللخروج من ذلك النفق المسدود، دعا الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون إلى عقد لقاء في «واي بلانتيشن» يجمع نتنياهو وعرفات. افتتحت قمة «واي بلانتيشن» في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 1998 واستمرت خمسة أيام، ووصل المشاركون إلى طريق مسدود بعد بضعة أيام فقط من المحادثات. هدد نتنياهو بحزم حقائبه والمغادرة عائدا أدراجه إلى إسرائيل، واضطر الرئيس كلينتون للاتصال بالملك حسين، وهو على سرير المرض في «مايو كلينيك»، حيث تجري الاستعدادات لعملية زرع نخاع العظام. طلب كلينتون من الملك حسين تقديم النصح حول محادثات السلام، التي وصلت طريق مسدود، وعرض الملك حسين الحضور بنفسه إلى «واي بلانتيشن» للمساعدة، بصرف النظر عما يقوله الأطباء. وقبل كلينتون عرض الملك حسين.

* غدا: الحادثة التي غيرت موقف الملك من ولاية العهد


أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة التاسعة عشرة) ـ الملك حسين وصل إلى قراره حول خلافته في العرش على مرحلتين

لقاء في لندن يعتقد أن العاهل الراحل أبلغ فيه الأمير عبد الله باختياره وليا للعهد

لندن: «الشرق الأوسط»
كان العقيد حسين المجالي، الضابط المعاون المرافق للعاهل الأردني الراحل، أكثر شخص، بعد الملكة نور، قضى وقتا طويلا إلى جانب الملك حسين خلال السبعة شهور التي سبقت وفاته. وقال العقيد المجالي ان مسألة خلافة الملك حسين في العرش لم تطرح على الإطلاق خلال فترة الشهر الأول له في مايو كلينيك في يوليو (تموز) 1998، ذلك ان الجميع كان يريد أن يصدق مسألة ان العاهل الأردني سيتماثل للشفاء التام. وقال أيضا ان الأمر لم يكن بالضبط قضية حُرّم النقاش حولها، وإنما بسبب انه لم يكن لدى أي من المقربين من الملك شعور بالرغبة في النقاش حول الموضوع. إلا انه برز بصورة واضحة في مناقشات وتفكير هؤلاء خلال شهري أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني) 1998، أي خلال الفترة التي بدأت فيها صحة العاهل الأردني الراحل تشهد تدهورا خطيرا.

والمسؤول الأردني الوحيد الذي ناقش معه الملك مسألة خلافته في العرش كان الجنرال البطيخي، الذي كان يصل إلى روشستر لزيارة الملك في مايو كلينيك، حيث يبقى لفترة يومين، وكان كل لقاء له مع الملك حسين خلال اليومين يستمر لمدة ساعتين، أي أطول من أي لقاء كان يجريه الملك خلال تلك الفترة. ويعتقد المجالي ان قرار الملك عزل شقيقه ولي العهد الأمير حسن بدأ يختمر في ذهن الملك حسين في أكتوبر أو نوفمبر. إلا ان المجالي لم يسمع بذلك من الملك حسين نفسه. وحتى عندما بدأ الملك حسين يفكر جديا في اتخاذ ذلك القرار، آثر ان يبقي على كل خياراته مفتوحة.

وتكشف حلقة اليوم من كتاب «أسد الاردن» الذي تنفرد «الشرق الاوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر بنغوين ومؤلفه آفي شليم المؤرخ والاستاذ في جامعة اكسفورد اسرار الأشهر السبعة الاخيرة من حياة الملك حسين التي قضى معظمها مريضا يتلقى العلاج في مايو كلينيك والطريقة التي شكل بها تفكيره حول مسألة خلافته على عرش الاردن وكيف وصل الى قراره.

قليلون كانوا على علم بمدى تدهور صحة الملك حسين عندما عرض تقديم المساعدة كصانع للسلام في «واي ريفر». فقد كان يشعر في ذلك الوقت بضعف شديد وإنهاك جسدي بالغ. رافقته في تلك الرحلة إلى مقر المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين الملكة نور بغرض رعايته، وتوجها أولا إلى منزلهما في «ريفر هاوس» على نهر بوتوماك بغرض الراحة قبل التوجه في اليوم التالي إلى «واي ميلز» على متن مروحية الرئيس كلينتون «مارين 1». لدى وصولهما إلى هناك توجها إلى استراحة «هوتون هاوس» الخاصة المطلة على «واي ريفر». بدا كلينتون منهكا تماما ومحبطا إزاء سير المفاوضات. وفي سياق وصف مشاعر المشاركين في المفاوضات عندما التقوا الملك حسين، أشارت الملكة نور في مذكراتها إلى ان الفلسطينيين المشاركين في المفاوضات شعروا بالصدمة وتأثر بعضهم بصورة بالغة عندما رأوا الملك حسين وهو في حالته تلك وقد بدت عليه آثار المرض وجلسات العلاج. وفي واحد من فصول كتابه حول عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط أورد دينيس روس وصفا مفصلا لتلك اللحظات: «مرض سرطان الغدة الليمفاوية الذي أصاب الملك حسين وصل مرحلة متقدمة، وكان الملك معرضا للإصابة بالالتهاب، لذا أبلغنا وزير الخارجية بمسح اليدين جيدا بسائل مطهر خاص قبل مصافحة الملك حسين. وطاف رئيس البروتوكول بوزارة الخارجية على المشاركين وهو يحمل قارورة صب منها السائل المطهر على أيدي كل من الرئيس كلينتون وعرفات ونتنياهو وبقية الحاضرين. ذلك المشهد ومنظر الملك حسين وقد ظهرت عليه آثار المرض، أضفيا جوا مؤثرا وشعورا بالألم». ألقى الملك حسين على المشاركين كلمة مؤثرة ركز فيها على ضرورة تجاوز الخلافات والحرص على تحقيق مستقبل أفضل للأجيال المقبلة في المنطقة. وبات واضحا ان الكلمة التي ألقاها الملك حسين والهيئة التي بدا عليها بفعل المرض تركتا أثرا ملحوظا على المشاركين وكان لهما أثر أيضا على تبدل لهجة المفاوضات، إلا ان ذلك لم يستمر طويلا. وتوجه كل من الملك حسين والملكة نور عائدين إلى منزلهما في «ريفر هاوس» قبل العودة مجددا إلى مايو كلينيك. لدى استئناف المفاوضين عملهم بشأن القضايا المطروحة على الطاولة عاد نتنياهو مجددا إلى تصلبه متعذرا باعتبارات سياسية داخلية في إسرائيل. حتى في قضية عدد السجناء الفلسطينيين المراد إطلاق سراحهم، وهي تعتبر قضية ثانوية مقارنة بالقضايا الأخرى المطروحة للتفاوض، كان موقف نتنياهو متقلبا ومربكا، الأمر الذي أثار غضب الرئيس كلينتون وانعكس واضحا في اللهجة التي تحدث بها إزاء موقف نتنياهو. فقد أورد دينيس روس في كتابه حول عملية السلام في الشرق الأوسط ان الرئيس كلينتون قال معلقا حول مسلك رئيس الحكومة الإسرائيلية: «نتنياهو لا يريد التوصل إلى اتفاق. انه يحاول إذلالي وإذلال عرفات. ماذا يتوقع نتنياهو ان يفعل عرفات في هذه الحالة؟» اتصل كلينتون هاتفيا مساء ذلك اليوم بالملك حسين في «ريفر هاوس» وأبلغه بأنهم انتهوا مرة أخرى إلى طريق مسدود وأن نتنياهو يستعد للمغادرة عائدا إلى إسرائيل. نصح الملك حسين كلينتون بالتمسك بموقفه وعدم الاستسلام لمطالب نتنياهو، واقترح أيضا ان يعقد مع كلينتون مؤتمرا صحافيا مشتركا في حال مغادرة نتنياهو يوضحان من خلاله للعالم ما حدث وتحميل نتنياهو مسؤولية فشل المفاوضات. نام الملك حسين تلك الليلة وهو لا يدرك ما يمكن ان يحدث صباح اليوم التالي، إلا ان حديث نتنياهو عن حزم حقائبه والعودة إلى إسرائيل لم يكن سوى تهديد أجوف، ذلك ان الوفد الإسرائيلي كان موجودا صباح اليوم التالي في «واي ريفر». اتصل كلينتون بالعاهل الأردني الراحل مجددا طالبا منه العودة إلى مقر المفاوضات مرة أخرى للمساعدة. وصل الملك حسين بالفعل وأبلغ الطرفين بأن لا مجال للفشل مذكّرا إياهما مجددا بمسؤوليتهما تجاه شعبيهما وتجاه الأجيال المقبلة. واصل الطرفان العمل طوال ذلك اليوم وتوصلا في نهايته إلى اتفاق متواضع، لكنه أفضل من الفشل الكامل. فقد وافقت إسرائيل على إعادة نسبة 13 بالمائة من أراضي الضفة الغربية إلى الفلسطينيين على مراحل، ووافقت أيضا على إطلاق سراح بعض السجناء الفلسطينيين. وجه كلينتون الدعوة إلى الملك حسين والملكة نور للمشاركة في الاحتفال المخصص لتوقيع الاتفاق في البيت الأبيض في 23 أكتوبر (تشرين الأول). كان ذلك الاحتفال حدثا إعلاميا بارزا شارك فيه الرئيس كلينتون، إلا ان الذين شاهدوا الملك حسين عبر شاشات التلفزيون مشاركا في تلك المناسبة وقد بدت عليه آثار المرض أصيبوا بالصدمة. لكنه بدا قويا وفاعلا عندما ألقى كلمته حول السلام مؤكدا فيها ان الاتفاق أحيانا والاختلاف أحيانا أخرى والود في بعض الأحيان والعداء في غيرها لا يمنح أي طرف يملك الحق في إملاء الأفعال غير المسؤولة وضيق التفكير على أجيال المستقبل، وقال أيضا أنه يكفي الدمار والموت الذي حدث وأن الوقت قد حان للعمل سوية من أجل الشعوب ومستقبل أجيالها. مساهمة الملك حسين في النهاية الناجحة للمفاوضات وجدت إشادة واسعة. الأردنيون نظروا إليها كونها تخدم مصالح أردنية حيوية وإثباتاً لدور لا غنى عنه لبلدهم على الصعيد الإقليمي. كما انهم نظروا إلى مشاركة الملك حسين في المفاوضات كتعبير عن الاعتراف الدولي بمكانته والاحترام الذي يحظى به. ويمكن القول ان مغادرة الملك حسين لسرير المرض بهدف دعم وتوجيه المفاوضين في «واي ريفر» كان بمثابة آخر مساهمة عملية له في قضية السلام. وجرى ترشيح الملك حسين للحصول على جائزة نوبل للسلام عام 1998 على الجهود التي ظل يبذلها على مدى سنوات من أجل قضية السلام، إلا ان جائزة ذلك العام منحت لساسة آيرلندا الشمالية، لكنه نال شرف الترشيح للجائزة. أجريت للعاهل الأردني الراحل عملية نقل نخاع العظام من شقيقته بسمة وشقيقه محمد. وكان الأمير حسن قد عرض استعداده للمساعدة، إلا ان فصيلة دمه لم تكن موافقة لفصيلة دم شقيقه الملك. وفي مقابلة أجريت معه في ذلك الوقت وبثها تلفزيون الأردن طمأن الملك حسين الشعب الأردني بأن آخر الفحوصات التي أجريت له أثبتت عدم وجود آية آثار لسرطان الغدة الليمفاوية، وأكد خلال المقابلة على ان كل شيء يسير على ما يرام وان تلك الفترة ستكون الأخيرة في مراحل العلاج وسيعود بعدها للبلاد. مايو كلينيك أصدرت أيضا بيانا أكدت فيه ان الملك حسين لم يعد يعاني من أي أعراض لسرطان الغدة الليمفاوية. جرت في ذلك الوقت حادثة كان لها أثرها في تغيير الملك حسين موقفه تجاه شقيقه الأمير حسن وريث العرش. فقد نشرت صحيفة «يديعوت احرونوت» الإسرائيلية تقريرا جاء فيه ان مصادر أميركية قالت ان الملك حسين لن يعيش أكثر من ثلاثة أشهر. وطلب مكتب وكالة الصحافة الفرنسية في القدس من مديرة مكتب الوكالة في عمان، رندة حبيب، متابعة موضوع التقرير وتوقعت نفيا رسميا على الفور للخبر. كان أول اتصال لمكتب الوكالة في عمان برئيس الوزراء فايز طراونة، مستفسرا إياه حول مدى صحة الخبر الذي نقلته صحيفة «يديعوت احرونوت»، ونفى طراونة فورا هذه التقارير. وعندما سألته مديرة مكتب الوكالة عن السبب في عدم إصدار نفي رسمي، بدا الحرج واضحا على رئيس الحكومة. اتصلت مديرة مكتب وكالة الصحافة الفرنسية بعد ذلك بوزير الخارجية عبد الإله الخطيب ووجهت له نفس السؤال، وأجاب بأن لديهم تعليمات بعدم الإدلاء بتعليق. توصلت رندا حبيب إلى نتيجة مؤداها ان لولي العهد الأمير حسن أجندة خفية تتلخص في انه كان يريد ان يسمع الأردنيون الخبر ويعتادوا على فكرة ان الوضع الصحي لملكهم لن يمكّنه من العيش لفترة طويلة. ينص الدستور الأردني على ان غياب الملك لفترة تزيد على أربعة شهور خلال توقف عمل البرلمان يستوجب الدعوة لعقده جلسة خاصة، واجتمع البرلمان بالفعل في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) وعقد جلسة لم تكن أكثر من إجراء شكلي. أعد رئيس الوزراء، فايز طراونة، بيانا حول الوضع الصحي للملك حسين وزعم انه تعافى تماما وانه سيعود للبلاد في المستقبل القريب. وبعد ستة أيام افتتح الأمير حسن جلسة البرلمان بالحديث التقليدي من العرش، إلا ان أجواء الشائعات استمرت على الرغم من كل تلك التصريحات الرسمية. السبب الرئيسي وراء حالة الغموض الذي لف مسألة خلافة العرش الهاشمي يتلخص في ان العاهل الأردني الراحل نفسه نادرا ما تحدث حول هذا الموضوع، حتى في الإطار الشخصي. كما انه كان بصورة عامة في السابق يتخذ خطواته وقراراته بصورة حاسمة، بل ومندفعة في بعض الأحيان، إلا انه واجه صعوبة كبيرة في التوصل إلى رأي في هذه القضية. فقد كان متنازعا بين الشعور بالواجب تجاه شقيقه الأصغر الذي خدمه بإخلاص طوال 34 عاما، وبين حبه لابنيه عبد الله وحمزة. ويمكن القول ان الملك حسين قد واجه خيارا معقدا: اما إزاحة شقيقه من ولاية العهد فورا، أو السماح له بخلافته في العرش ولكن مع إجراء الترتيبات اللازمة لعودة المُلك مستقبلا إلى خط الأسرة بعد انتهاء فترة حكم شقيقه. جدير بالذكر أن راشد، نجل الأمير حسن بن طلال، في سن الـ19 في ذلك الوقت، وإذا سارت الأمور سيرها الطبيعي من الناحية الدستورية، فإن راشد سيصبح ملكا للأردن بعد موت والده. كان الملك حسين بعيدا في مايو كلينيك والاتصال مقطوعا مع شقيقه. كما ان مرضه وجلسات العلاج الكيماوي التي خضع لها جعلت التفكير بصورة واضحة والتوصل إلى نتيجة أمرا أكثر صعوبة لديه. إرجاء التفكير في الخيارات غير السارة نزعة إنسانية طبيعية، ولم يكن الملك حسين استثناء في هذا الأمر. فقد ظل يؤجل التفكير في هذا القضية باستمرار إلى ان اضطره الموت الوشيك لاتخاذ قرار حاسم بشأنها. العقيد حسين المجالي، الضابط المعاون المرافق للعاهل الأردني الراحل، كان أكثر شخص، بعد الملكة نور، قضى وقتا طويلا إلى جانب الملك حسين خلال الفترة الأخيرة التي سبقت وفاته، وعلى وجه التحديد خلال السبعة شهور التي سبقت وفاته. قال العقيد المجالي ان مسألة خلافة الملك حسين في العرش لم تطرح على الإطلاق خلال فترة الشهر الأول له في مايو كلينيك في يوليو (تموز) 1998، ذلك ان الجميع كان يريد أن يصدق مسألة ان العاهل الأردني سيتماثل الشفاء التام. وقال أيضا ان الأمر لم يكن بالضبط قضية حُرّم النقاش حولها، وإنما بسبب انه لم يكن لدى أي من المقربين من الملك شعور بالرغبة في النقاش حول الموضوع. إلا انه برز بصورة واضحة في مناقشات وتفكير هؤلاء خلال شهري أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني) 1998، أي خلال الفترة التي بدأت فيها صحة العاهل الأردني الراحل تشهد تدهورا خطيرا. المسؤول الأردني الوحيد الذي ناقش معه الملك مسألة خلافته في العرش كان الجنرال البطيخي، الذي كان يصل إلى روشستر لزيارة الملك في مايو كلينيك، حيث يبقى لفترة يومين، وكان كل لقاء له مع الملك حسين خلال اليومين يستمر لمدة ساعتين، أي أطول من أي لقاء كان يجريه الملك خلال تلك الفترة. ويعتقد المجالي ان قرار الملك عزل شقيقه ولي العهد الأمير حسن بدأ يختمر في ذهن الملك حسين في أكتوبر أو نوفمبر. إلا ان المجالي لم يسمع بذلك من الملك حسين نفسه. وحتى عندما بدأ الملك حسين يفكر جديا في اتخاذ ذلك القرار، آثر ان يبقي على كل خياراته مفتوحة. وبدلا عن إبلاغ العقيد المجالي بصورة واضحة، كان الملك حسين يسأله حول ما إذا كان البطيخي قد أبلغه وأيمن بأي شيء (أيمن المجالي شقيق العقيد حسين المجالي ومدير البروتوكول)، دون الإشارة إلى الشيء الذي من المفترض ان يكون الجنرال البطيخي قد ابلغهما به. الاستنتاج الذي توصل إليه حسين وأيمن المجالي هو ان العاهل الأردني الراحل كان يعتزم إجراء تغيير على خلافة العرش، إلا ان الأمر لم يكن مؤكدا لديهما بصورة مطلقة. قرار الملك حسين بأن لا تأخذ الأمور مجراها الطبيعي توصل إليه فيما يبدو خلال مرحلتين. في المرحلة الأولى قرر الملك حسين ألا يخلفه شقيقه الأمير حسن في العرش، لكنه لم يتوصل إلى قرار بشأن بنية وهيكل خلافة العرش الهاشمي. وفي المرحلة الثانية استقر رأيه النهائي على ان يحل ابنه عبد الله محل شقيقه الأمير حسن. عبد الله لم يتخذ من جانبه خطوة لإزاحة عمه، ولكن لدى ظهور أول مؤشرات على حسم مصير عمه فيما يتعلق بالعرش، لم ير عبد الله سببا في استبعاد نفسه من احتمال تولي عرش البلاد خلفا لوالده. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) من ذلك العام زار عبد الله والده في مايو كلينيك. وكان قد زاره أيضا قبل ستة شهور وطلب من والده في ذلك الوقت معرفة آفاق مستقبله العسكري في الجيش الأردني وانه إذا تقرر ان يواصل في هذا الطريق فإنه يرغب في الالتحاق بدورة دراسية في مدرسة مونتيري البحرية. نصحه والده بالمضي قدما وأن يتوقع ترقيته إلى نائب لرئيس هيئة الأركان بعد ذلك.

خلال زيارة نوفمبر (تشرين الثاني) 1998 تناول عبد الله ووالده إفطارا جلسا خلاله لمدة ثلاث ساعات. ويتذكر عبد الله ذلك اللقاء قائلا ان والده سأله عن الأمير حسن، وأجاب عبد الله قائلا: «الأمر صعب للغاية. أنت غير موجود والكل يشعر بالخوف. بكل أمانة، الناس لا يعتقدون انه سيكون هناك أردن بدونك، لا سمح الله إذا حدث لك أي شيء» ويواصل عبد الله حديثه قائلا ان والده الراحل قال له انه يشعر بالارتياح لأنه عندما يعود سيكون بينهما بعض الأحاديث، وقال له أيضا انه يريد مساعدته في قضايا محددة. يقول عبد الله أيضا انه ظن في ذلك الوقت ان والده كان يتحدث عن رئاسة هيئة الأركان، لكنه أوضح له قائلا: «أريد ان تكون هناك إصلاحات وتغييرات كثيرة، واحتاجك هناك لكي تساعدني في تغيير هذه الأشياء».

قضى الملك حسين والملكة نور احتفالات أعياد الميلاد في مايو كلينيك مع أنجالهما. ووصلت فترة مايو كلينيك في ذلك الوقت نهايتها أخيرا. وأصدروا بيانا آخر جاء فيه انهم بصدد مغادرة المستشفى اثر تراجع أعراض السرطان، إلا ان زوالها نهائيا سيستغرق فترة خمس سنوات. وقضت الأسرة اليوم الأول في العام 1999 في «ريفر هاوس»، وكانت أعراض الضعف خلال تلك الفترة بادية على الملك حسين، وكان يتمشى من حين إلى آخر في الحديقة مع الملكة نور وابنتهما إيمان وهو يعتمر قبعة ويتوكأ على عصا ويضع كمّامة لوقايته من أي التهاب محتمل. وبصرف النظر عن درجة السرطان الذي أصيب به العاهل الأردني الراحل، فقد بدا واضحا إنه كان في حاجة إلى فترة نقاهة طويلة. نصحه الأطباء قبل المغادرة بالتوقف في العاصمة البريطانية لمدة أسبوع لمزيد من الراحة قبل عودته إلى عمان، وفي 5 يناير 1999 قاد الملك حسين طائرته بنفسه صوب لندن، حيث تلقى بعد أربعة أيام زيارة مفاجئة من شقيقه الأمير حسن. عدم زيارة الأمير حسن لشقيقه الملك في «مايو كلينيك» ولو لمرة واحدة استغلها أعداؤه كدليل على قسوته وعدم ولائه، إلا انه كلما اعتزم زيارة شقيقه لا يجد تشجيعا على ذلك. الملك حسين قال لشقيقه ان بقاءه في الأردن كان لازما لأنه (الملك حسين) شعر ان الزيارة كانت ستغذي الشائعات التي كانت تروج حول خطورة مرضه، كما شعر الملك حسين أيضا ان الوضع السياسي في الأردن كان لا يحتمل وجود كليهما خارج البلاد في وقت واحد.

غالى الملك حسين في مدحه لشقيقه الأصغر، وأشار إليه كثيرا بأنه الركيزة التي تسند الهاشميين جميعا، إلا أن الأمير حسن من جانبه كان يشعر بقلق بالغ إزاء الشائعات التي تدور حول تفكير شقيقه الملك في إجراء تغيير على خلافة العرش، الأمر الذي اضطره للسفر إلى لندن دون ترتيب مسبق لزيارة شقيقه الملك. ووصفت الأميرة ثروت، زوجه الأمير حسن، لقاء زوجها وشقيقه الملك بأنه كان حميما ووديا، وأن الحديث الذي دار بينهما جرى في جو ودي تماما، وقالت انه أبلغهما بأنه لم يتمكن بعد من استعادة قوته تماما وينوي البقاء في انجلترا لوقت أطول ويريد ان يستمر الأمير حسن مسؤولاً عقب عودته إلى البلاد. وصل على نحو مفاجئ خلال حديث الملك حسين وشقيقه الأمير حسن كل من الملكة نور والأمير عبد الله. وبدا من الواضح تماما ان وصول الأمير حسن إلى لندن لم يكن متوقعا. قام الأمير حسن واستقل سيارته بعد ذلك اللقاء متوجها إلى المطار. اللقاء الخاص بين الملك حسين وشقيقه الأمير حسن في لندن أثار موجة جديدة من التكهنات على صفحات الصحف، وكذلك اللقاء بين الملك حسين والأمير عبد الله، الذي كان أصلا في لندن وطلب منه والده، بواسطة العقيد حسين المجالي، البقاء لمدة يوم أو يومين بغرض اللقاء وتبادل الحديث. ويعتقد المجالي ان ذلك اللقاء هو الذي أبلغ خلاله الملك حسين ابنه الأمير عبد الله بأنه يفكر في أمر خلافته له في العرش. إلا ان الأمير عبد الله نفسه لم يكن متأكدا، لكنه عرف ان والده كان متوترا للغاية عقب لقائه مع الأمير حسن. قال الأمير عبد الله انه لا بد ان يعود إلى الأردن لأنه بوصفه قائدا للقوات الخاصة كان مسؤولا بصورة مباشرة عن الترتيبات الأمنية لموكب استقبال والده لدى عودته إلى البلاد. ومن خلال الحديث الذي جرى بينهما، توصل الأمير عبد الله إلى ان والده كان يعتزم العودة إلى الأردن في وقت أسرع مما كان يتوقعه الأمير حسن، حسب الحديث الذي دار بينه وشقيقه في لندن.

* غدا: الملكة نور نظرت إلى الأمير عبد الله وعانقته وقالت: «الملك مات... عاش الملك»


أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة الأخيرة) ـ الملك حسين قال لابنه عبد الله: أريدك أن تكون وليا للعهد وهناك سببان لذلك

الملكة نور عانقت الأمير عبد الله وقالت: «الملك مات... عاش الملك»

لندن: «الشرق الأوسط»
في 21 يناير (كانون الثاني) 1999 أرسل الأمير حسن خطابا إلى شقيقه الملك حسين طالبا منه تأكيدا لموقعه كوصي على العرش، وذلك بعد ما اشتدت الشائعات والتكنهات حول احتمال حصول تغيير في ولاية العهد بعد عودة الملك من رحلة العلاج في مايو كلينيك. وفي يوم الجمعة 22 يناير التقى الملك حسين شقيقه وافترض معظم المراقبين أنه في ذلك اللقاء ابلغ الملك شقيقه الأمير حسن لأول مرة بقراره بتنصيب الأمير عبد الله وليا للعهد، إلا ان الأمر لم يكن كذلك. فالأمير حسن حسب روايته للأحداث في ما بعد لم يعلم بقرار تنحيته إلا في 25 يناير عمدما تلقى مرسوم الملك بإعفائه من واجباته كولي للعهد. وتروي حلقة اليوم من كتاب أسد الاردن الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر بنغوين ومؤلفه آفي شليم تفاصيل عن الأسابيع الأخيرة في حياة العاهل الأردني الراحل وكيفية اتخاذ قرار التغيير في ولاية العهد.

لقاء الملك حسين غير المتوقع مع الأمير حسن في لندن مايزال مثيرا لبعض الحيرة والارتباك، وعكس أيضا التعقيد الواضح في موقف العاهل الأردني تجاه شقيقه ولي العهد. فمن ناحية أعرب الملك حسين عن ثقته فيه وامتنانه لمشاركته في تحمل أعباء المُلك، كما انه تحدث عن شقيقه الأمير حسن مع رئيس الوزراء، وذلك في إطار تقريره حول البرلمان، واصفا إياه بـ«قرة العين»، الأمر الذي يعكس المكانة الخاصة للأمير حسن في نظر الملك حسين. ومن الناحية الأخرى، كان احتمال عزل الأمير حسن من ولاية العهد، وبالتالي من تولي العرش فيما بعد، واردا في ذهن الملك حسين في ذلك الوقت، على الرغم من انه لم ينطق بكلمة واحدة حول الأمر. ترى، ما الذي دعا الملك حسين إلى إخفاء مشاعره الحقيقية حول شقيقه الأمير حسن في ذلك اللقاء؟ هل كان شعورا باللطف والود، أم انها مشاعر اللقاء بعد فترة طويلة، أم كانت قسوة من جانبه؟ هل واجه صعوبة في إبلاغه بالحقيقة وجها لوجه واعتقد، من باب اللطف والعطف، انه من الأفضل الخوض معه في ذلك اللقاء في الحديث حول خطط لمستقبل يدرك الملك حسين سلفا انه لن يتحقق أصلا للأمير حسن؟ أم ترى أن الملك حسين كان يخشى من أن يتخذ الأمير حسن خطوات لعرقلة إحداث تغيير في نظام خلافة العرش، وآثر الملك بدهاء خلق شعور زائف بالأمان لدى شقيقه؟ أم ترى ان المرض أصابه بالارتباك ولم يعد قادرا على العمل باستراتيجية واضحة؟

ربما لا نتوصل مطلقا إلى إجابات قاطعة لهذه الأسئلة. قبل بضعة أيام من مغادرته العاصمة البريطانية عائدا إلى الأردن جرى تسجيل خطاب للملك حسين يعلن فيه عودته الوشيكة إلى البلاد، لكنه تعرض في اليوم التالي لارتفاع في درجة الحرارة، وأوصى طبيب من مايو كلينيك كان مرافقا لهم بإجراء عملية سحب من نخاع العظم إلى جانب عملية نقل الدم المعتادة، وذلك في آخر زيارة لهم إلى مستشفى «سينت بارثولوميو» في لندن قبل رحلة العودة إلى الأردن. وكان لقرار الطبيب أثر سلبي بالغ على معنويات الملك حسين، خصوصا بعد أن أعلن رسميا عن عودته الوشيكة للأردن. غادر الملك حسين وأفراد أسرته وبقية مرافقيه انجلترا في طريقهم إلى الأردن يوم الثلاثاء 19 يناير (كانون الثاني) 1999 على متن طائرة أردنية قادها الملك حسين بنفسه على الرغم من الإرهاق الذي كان يشعر به، وكان في انتظاره استقبال أبطال في العاصمة عمان. ترجل الملك حسين من الطائرة بنفسه وسجد عندما لمست قدماه تراب الأردن، وكانت تقف إلى جانبه الملكة نور وقرأت معه الفاتحة حمدا لله على عودتهم إلى الوطن بسلام، وكان في استقبالهم لدى نزولهم من الطائرة أفراد الأسرة وأعضاء في البلاط وشخصيات عربية. كان عدنان أبو عودة، المستشار السياسي للملك، من بين المسؤولين الذين كانوا في استقباله، ووصف أبو عودة تلك اللحظات في لقاء أجري معه قائلا: «بدا الملك حسين واهنا لدى إلى وصوله إلى المطار. تلقى جميعنا تعليمات بعدم تقبيله وعدم الحديث معه لأن جسده كان ضعيفا، وأطعنا التعليمات، لكنه امسك بيدي لفترة. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 1998 تركت له رسالة تهنئة بعيد ميلاده في منزله بواشنطن، وقال لي عندما وصل إلى مطار عمان: أبو سعيد... أنا آسف انني لم أكن في المنزل عندما اتصلت للتهنئة بعيد ميلادي. كيف حال اُم سعيد والأبناء والبنات؟ رددت قائلا: كلنا بخير ولكننا منشغلون بالتفكير في صحتك، وتمنيت له ان يتماثل للشفاء سريعا. هذا هو الملك حسين إنسانا صادقا ودمث الأخلاق. كان عطوفا ونبيلا ومراعيا لشعور الآخرين. كان يعاني من تدهور الصحة والمرض لكنه كان ينظر إلى الآخرين بعين العطف بدلا من أن يكون هو محل عطف الآخرين. كان رجلا عظيما. كان ذلك هو الملك حسين ينظر بصدق إلى الآخرين بعين العطف».

على الرغم من الطقس الممطر في ذلك اليوم، اصطف مئات الآلاف للترحيب بعودة العاهل الأردني في طريقه من المطار باتجاه «باب السلام». طلب الملك حسين فتح نافذة سقف السيارة لكي يحيي الجموع التي اصطفت على طول الطريق لاستقباله، إلا أن الملكة نور حاولت إثناءه عن ذلك، لكنه بدا مصرا وقال: «ما دام المستقبلون وقفوا في هذا الطقس الممطر، فأنا أيضا يجب أن أفعل ذلك». ولدى وصولهم إلى القصر كانت ملابس الملك حسين قد ابتلت تماما. أجرت كريستيان آمانبور، مراسلة شبكة «سي ان ان»، مقابلة في اليوم التالي مع الملك حسين وسألته عن خططه وأجابها بأنه ظل باستمرار يؤمن بالقضاء والقدر ويدرك أن هناك بداية ونهاية للحياة وانه يشعر الآن بذلك أكثر من أي وقت مضى. قال لها أيضا إن قلقه ليس على نفسه وإنما على الأردن والشعب الأردني واستقراره وتقدمه. وجهت كريستيان أمانبور سؤالا آخر للملك حسين، حول ما إذا كان ذلك يعني أي تغيير في خطته بأن يصبح ولي العهد الأمير حسن خلفا له في العرش. تهرب الملك حسين من الإجابة المباشرة، وقال إن أداء الأمير حسن كان جيدا وايجابيا طوال السنوات التي قضاها إلى جانبه، لكنه ألمح ضمنا إلى أن الأمير حسن ربما لا يكون الشخص الأنسب في الأسرة المالكة لخلافته. لدى تهرب الملك حسين من الإدلاء بإجابة واضحة ومباشرة طلبت منه كريستيان أمانبور الإجابة بـ«لا» أو «نعم» على ما إذا سيكون هناك تغيير في ترتيبات خلافة العرش الموجودة أصلا، أي أن يصبح ولي العهد، الأمير حسن، خلفا له على عرش الأردن. هنا أجاب الملك حسين قائلا انه ليس على استعداد لقول أي شيء في هذا الموضوع وإنه لم يتوصل بعد إلى أي شيء وإن كل ما في ذهنه أفكار وتصورات. وقال في معرض إجابته أيضا إن عليه اتخاذ القرار النهائي وإن هذه مسؤوليته وسيتوصل إلى قرار في الوقت المناسب. لم تبدر من الملك حسين أي إشارة إلى أي مرشح آخر محتمل لتولي العرش بعده، ولم تبدر منه إشارة ولو بطريقة غير مباشرة إلى أي من أبنائه. كان بوسعه التفكير في الأمير عبد الله أو حمزة، لكنه آثر فيما يبدو ترك خياراته مفتوحة. بات الأمير حسن يشعر باستمرار بنوع من عدم الطمأنينة على موقعه كولي للعهد. كان يريد ان يقابل شقيقه الملك في أسرع فرصة، إلا انه اضطر للانتظار ثلاثة أيام كي يقابله. وفي 21 يناير (كانون الثاني) 1999 أرسل الأمير حسن خطابا إلى شقيقه الملك طالبا منه تأكيدا لموقعه كوصي على العرش، وكان الخطاب مكتوبا باسلوب رفيع باللغة العربية الفصحى التي كان الأمير حسن يتقنها تماما. استُدعي الأمير حسن إلى قصر باب السلام لمقابلة الملك يوم الجمعة 22 يناير (كانون الثاني)، وبعد ثلاثة أيام من ذلك التاريخ صدر مرسوم ملكي، أقيل الأمير حسن بموجبه من موقعه كولي للعهد. معظم المراقبين افترض أن لقاء يوم الجمعة 22 يناير كان اللقاء الذي ابلغ فيه الملك حسين شقيقه الأمير حسن لأول مرة بقراره بتنصيب الأمير عبد الله وليا للعهد، إلا ان الأمر لم يكن كذلك. فالتفاصيل الوحيدة المتوفرة لما دار في ذلك اللقاء بين الشقيقين جاءت في خطاب كتبه الأمير حسن بعد ثلاثة أيام من عزله إلى شقيقه الملك، وهو خطاب عبّر فيه الأمير حسن عن فرحته بعودة شقيقه إلى البلاد في 19 يناير (كانون الثاني)، ثاني أيام عيد الفطر: «مرت بعد ذلك الحدث السعيد ثلاثة أيام من دون أن نلتقي. وتحدثت وسائل الإعلام خلال هذه الفترة حول قرار محتمل من جلالتكم بإعفائي من مسؤولياتي كولي للعهد ووجهت كل أنواع المزاعم والاتهامات ضدي ونسبت هذه الادعاءات إلى مصادر مسؤولة وغير مسؤولة. تشرفت مساء يوم الجمعة 22 يناير 1999 بلقاء جلالتكم، وكان اللقاء أخويا والحديث صريحا، وذكرت لجلالتكم تقارير وسائل الإعلام. وجهتني صاحب الجلالة بعدم إبداء أي اهتمام لهذه الأنباء، وطلبت من جلالتكم معرفة ما يجب علي عمله فيما يتعلق بواجباتي كولي للعهد، وطلبت مني الاستمرار في أداء واجباتي كالمعتاد مؤكدا ثقتكم المطلقة في ولائي وإخلاصي. على الرغم من ذلك سلمت جلالتكم خطابا أكدت فيه استعدادي لخدمتكم، وهو الخطاب الذي أصدرتم تعليمات بنشره. صدر بعد بضعة أيام في 25 يناير، مرسوم جلالتكم بإعفائي من واجباتي كولي للعهد. وفي مساء نفس اليوم تلقيت الخطاب الملكي من جلالتكم». انتهى على نحو مفاجئ كل الالتباس والتهرب الذي ساد أجواء العام السابق. جرى استدعاء رئيس الوزراء فائز الطراونة وابلغ رسميا بقرار الملك حسين الذي عُين بموجبه الأمير عبد الله وليا للعهد عقب إعفاء الأمير حسن. أطلع الملك حسين أيضا رئيس الوزراء على الخطاب الذي وجهه إلى الأمير حسن، وهو خطاب مختصر وودي شكر فيه الملك شقيقه الأمير حسن على خدماته. وعلى الرغم من الأثر السلبي البالغ لقرار إعفائه، فإن الأمير حسن تقبل الأمر بهدوء وروح طيبة، وأبلغ الملك بأنه كان خادما متواضعا وانه سيلتزم بالقرار. كانت هناك ثلاثة خيارات أمام الأمير حسن، فاما أن يحاول إجهاض تغيير ترتيبات تولي العرش، أو أن يتوجه إلى المنفى في لندن، أو أن يبقى في الأردن ويلتزم الصمت بكرامة. وكان من الواضح انه آثر الخيار الأخير منذ البداية. فالقيام بانقلاب مضاد كان أصلا أمرا مخالفا لطبيعته، بل انه لم يفكر في ذلك مطلقا. يضاف إلى ذلك ان الأمير حسن تصرف بهدوء واتزان وحكمة سياسية خلال الأزمة، بل عرض في وقت لاحق تقديم المساعدة في جعل عملية الانتقال أكثر سلاسة وهدوءا. عقب التقائه كل من الأمير حسن ورئيس الوزراء فائز الطراونة استدعى العاهل الأردني الراحل ابنه الأمير عبد الله، وكان ذلك اللقاء، كما يتذكره عبد الله الذي أصبح ملكا بعد وفاة والده، مؤثرا ومؤلما: «لم يكن والدي في حالة صحية جيدة، وقال لي: لعدد من الأسباب أردت ان أقول لك منذ فترة طويلة ما أود قوله الآن. ما أود أن أقول لك هو ان كل ما افعله إعادة لكتابة التاريخ. ظللت أنت وليا للعهد منذ ولادتك، وأريدك ان تصبح وليا للعهد مرة أخرى، وهناك سببان. قلت له: سيدي، هذا أمر لم أكن أريده على الإطلاق. لا أريد أن أشغل هذا الموقع. قال لي: هذا واحد من الأسباب وراء رغبتي في أن تشغل أنت هذه الموقع. السبب الآخر هو انك من بين سائر أعضاء الأسرة قادر على إقامة التوازن اللازم». وقال الملك عبد الله انه نشأ كإبن أكبر في الأسرة وكان يعامل الكل بإنصاف ويرعى الجميع ويحتفظ بعلاقة جيدة مع كل إخوانه وأبناء عمه، وكان ذلك كما يقول، أمرا مهما بالنسبة لوالده. ويستطرد الملك عبد الله قائلا حول ذلك اللقاء مع والده الملك الراحل: «وماذا عن الأمير حسن؟ قال لي: اسمع، أنا لا أشعر بأن صحتي على ما يرام... سأعود. قلت له: وماذا سيحدث إذا حدث لك أي شيء؟ إذا كانت رغبتك ان أصبح وليا للعهد، فيجب ان اتخذ قرارا حول من الذي سيعمل معي. الأمر كان صعبا على والدي في ذلك الوقت. قلت له: والدي، استنتج مما تقوله لي انك تريد إبلاغي بانك تعتقد أنك لن تعيش. سادت لحظة صمت ونحن نحاول التعامل مع واقع الوضع الذي كان يواجهه، وقال: «انه شقيقي وعمك، لذا حاول أن تفعل ما بوسعك». لم يكن فخورا، وواصل حديثه قائلاً «أنت ابني. لدي ثقة كبيرة بك طوال هذه السنوات وأريدك ان تتولى هذه المسؤولية». لكنني شعرت أنه كان يتمنى لو أن الأشياء استمرت على ما هي عليه. لا أعرف ما إذا كان من باب الإنصاف ان أقول انني اعتقد انها كانت خيبة أمل هائلة له انه ساعده الأيمن على مدى 34 سنة، وهو شقيقه في نهاية الأمر، ووجد أنه يتخذ قرارا بأن شخصا ظل معه طوال هذه السنوات ليس الشخص الذي يريده للمسؤولية.

لا يزال الحديث للملك عبد الله حول ذلك اللقاء مع والده الملك الراحل: «قال انه بدأ يشعر بالتعب. وكان أمامي خمس دقائق أخرى لتوجيه المزيد من الأسئلة، وكنت في واقع الأمر في حاجة إلى ستة شهور لطرح الأسئلة عليه. أشّرت فقط إلى الأسئلة التي كنت اعتقد انها الأكثر أهمية. المحزن في ذلك الحديث لم يكن حول ولاية العهد وإنما لأنه قال إنه لن ينتصر في معركته مع المرض. كانت تلك صدمة. لم يكن المنصب يهمني، وقلت له أنت الذي تهمني. دار الحديث بعد ذلك حول ضرورة ان نضع العواطف جانبا وان نتعامل على نحو عملي. لم أكن مستعدا لذلك».

بإعفاء الأمير حسن وتعيين الأمير عبد الله مكانه وليا للعهد ظل موقع الأمير حمزة غير مؤكد. فعلى العكس من التقارير التي أوردتها وسائل الإعلام، قالت الملكة نور إنها ظلت باستمرار تقف إلى جانب التحاق الأمير حمزة بالدراسة الجامعية وتطوير قدراته ورغباته الفكرية. وأشارت إلى أن والده أعرب عن رغبته في أن يحقق الأمير حمزة ما لم يحققه هو في مجال التعليم وأن يكون شريكا أساسيا لعبد الله، وتؤكد الملكة نور انها أيدت قراره تماما. عقب ذلك اللقاء مع والده التقى الأمير عبد الله الملكة نور، وقالت له إنه يهمها ان تبلغه بتأييدها الكامل لاختيار والده له وليا للعهد وتأكيد ثقتها فيه، وأكد لها الأمير عبد الله انه سيكون دائما في خدمتها وانه سيحترم رغبات والده فيما يتعلق بالأمير حمزة، وردّت عليه الملكة نور مؤكدة انها ستقف إلى جانبه بكل ما تستطيع وستحرص على توفير أكبر قدر ممكن من الوقت كي يعمل مع والده. غادر الأمير عبد الله وقد تملكته الدهشة إزاء موقف الملكة نور وأبلغ زوجته، رانيا، بما جرى. برر الأمير طلال بن محمد قرار عمه بإعفاء الأمير حسن وتعيين الأمير عبد الله بديلا له وليا للعهد. وينتمي الأمير طلال بن محمد إلى جيل الشباب من أمراء الأسرة الهاشمية، وهو لم يكن أبناء عمومة فقط مع الأمير عبد الله، بل جمعتهما علاقة صداقة فضلا عن العمل في الجيش. ويقول الأمير طلال إن عبد الله شخص منفتح وقوي وواثق وشجاع، وبالتالي يعتبر الخيار الأنسب لحكم الأردن. وفي تقدير الأمير طلال أيضا يعتبر الأمير عبد الله خيارا أفضل للحكم مقارنة بعمه الأمير حسن، ويرى كذلك أن الأسرة الهاشمية لن تكون موحدة إذا حكم الأمير حسن بن طلال وان مسلكه سيؤدي إلى عزل بقية الأسرة ويفقدهم العرش. وسط تلك الدراما الأسرية تدهورت صحة العاهل الأردني الراحل. فقد ظل يخضع بصورة يومية لعمليات نقل دم وبلازما، إلا ان وضعه الصحي لم يتحسن. وقرر أطباؤه إجراء فحوصات جديدة، غير أن نتائجها أشارت إلى عودة السرطان مجددا، وباتت هناك ثلاثة خيارات، اما بقاء الملك في راحة كاملة في عمان أو إجراء جلسة علاج كيماوي أخرى في الأردن أو العودة إلى مايو كلينيك وإجراء عملية أخرى لزراعة النخاع العظمي، وكان ذلك هو الخيار الأكثر خطورة، لكنه كان الفرصة الوحيدة لمحاولة القضاء على أعراض السرطان. لم يتردد الملك كثيرا وطلب العودة إلى «مايو كلينيك» مجددا. طلب الملك حسين في 25 يناير 1999 فترة 72 ساعة لإنهاء بعض القضايا المهمة، لكنه ابلغ بواسطة العقيد حسين المجالي بأنهم سيغادرون إلى مايو كلينيك بعد ظهر اليوم التالي، وبالتالي لم يكن أمام الملك حسين سوى بقية ذلك اليوم لإنهاء ما كان بصدده. كانت لدى الملك حسين حتى ذلك الوقت المسودة الأصلية لخطاب الشكر إلى شقيقه الأمير حسن، لكنه صرف النظر عنه واستقر رأيه على كتابة خطاب من 14 صفحة، وكان ذلك الخطاب بمثابة آخر وصية وبيان له. في «مايو كلينيك» خضع العاهل الأردني الراحل لجلسة أخرى من العلاج الكيماوي، وأجريت له عملية نقل نخاع عظمي مرة أخرى وبقي في قسم العناية المركزة حيث تحسنت حالته الصحية قليلا ثم نقل إلى غرفته السابقة. إلا ان صحته بدأت تتدهور تدريجيا وبدت معركته مع السرطان خاسرة، واتخذت الملكة نور قرارا بالعودة إلى الأردن. رافق الملك حسين في الرحلة الأخيرة إلى الأردن الملكة نور وفريق طبي مزود بكل الأجهزة والأدوية التي من المحتمل ان يحتاجها خلال الرحلة. ونقل عقب وصوله إلى عمان إلى مركز الملك حسين الطبي، حيث تجمع آلاف الأردنيين خارجه، وداخل المستشفى تجمعت أسرة الملك للوداع الأخير. توفي الملك حسين يوم الأحد 7 فبراير (شباط) 1999 وهو في السادسة والستين من العمر. وكانت إلى جانبه في لحظة الوفاة الملكة نور وهي ممسكة بيده وحولها أولادها وبناتها وأقرباء آخرون. التفتت الملكة نور إلى الأمير عبد الله وعانقته وقالت: «الملك مات... عاش الملك». وكانت أول خطوة اتخذها عبد الله عندما أصبح ملكا للمملكة الأردنية الهاشمية أن اصدر مرسوما ملكيا يقضي بتعيين الأمير حمزة بن الحسين وليا للعهد مع إنفاذ ما جاء في المرسوم فورا.

تعليقات