أسد الاردن / قصة ملك 7-13


أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة السابعة) - حرب أكتوبر.. السادات قال للرفاعي «أدرك أنني لست طرزان»

الملك فيصل طلب من الملك حسين السماح للواء السعودي المرابط في الأردن بالانتقال إلى سورية في حرب 1973

لندن «الشرق الأوسط»
التعنت الدبلوماسي الإسرائيلي والاستعدادات المصرية ـ السورية لشن حرب وضعت الملك حسين في وضع صعب. فهو لا يريد خطأ حرب يونيو (حزيران) 1967، عندما استدرج إلى حرب لم يكن على استعداد لخوضها، كما ان المشاركة في حرب أخرى كانت تتطلب منه بالضرورة الاتصال مع قادة دول المواجهة الأخرى، في وقت كانت مصر وسورية قد قطعتا علاقاتهما الدبلوماسية مع الأردن. وفي مطلع ديسمبر (كانون الأول) 1972 أرسل الملك حسين زيد الرفاعي في مهمة سرية للقاء الرئيس أنور السادات في القاهرة، حيث استمر اجتماعهما لمدة ست ساعات، وكان السادات صريحا إذ قال مخاطبا الرفاعي: «أدرك انني لست طرزان. أعرف جيدا مقدراتي. أنا لا أجيد الحرب الخاطفة. الإسرائيليون يجيدون الحرب الخاطفة. سأخوض حربا بهدف إعادة تنشيط الوضع السياسي وليس التحرير العسكري. سأشن حربا محدودة أعبر فيها قناة السويس واؤمن فيها موقعا محصنا وأتوقف، ثم أطلب من مجلس الأمن المناشدة بوقف إطلاق النار».

وفي حلقة اليوم من كتاب «أسد الأردن» الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه، بالاتفاق مع الدار الناشرة «بنغوين»، ومع المؤلف آفي شليم البروفسور في جامعة أوكسفورد، ترد الكثير من الأسرار عن الاجتماعات التي سبقت حرب أكتوبر.

عُلق كل النشاط الدبلوماسي الرامي لحل النزاع العربي ـ الإسرائيلي خلال النصف الثاني من عام 1972. فإسرائيل لم تكن لديها رغبة في التفاوض مع أي من جيرانها العرب، ذلك ان الهدف الأساسي لسياستها كان قائما على أساس الإبقاء على الوضع الراهن، في ما يتعلق بالأراضي على كل الجبهات، وعدم تقديم أي تنازلات من أجل السلام. ارتكز ذلك الموقف في الأساس على افتراض أن الوضع الذي كان قائما آنذاك يمكن الاستمرار فيه إلى أجل غير مسمى، لأن القوة العسكرية الإسرائيلية كانت قادرة على ردع العرب ومنعهم من خوض أي حرب. كانت مصر، بوصفها أكبر وأقوى الدول العربية نفوذا، هدفا لاستراتيجية الاستنزاف الإسرائيلية. الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر، الذي حل محل ويليام روجرز وزيرا للخارجية، توقفا عن مساعي التوسط بين الدول العربية وإسرائيل، وتبنيا اعتقاد إسرائيل في ان حالة الجمود في الشرق الأوسط تخدم مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل على حد سواء، ولا تصب بأية حال في مصلحة الاتحاد السوفياتي وحلفائه العرب. حتى تجاه الاردن لم يبد القادة الإسرائيليون أي مرونة دبلوماسية أو رغبة في التوصل إلى اتفاق سلام. وتحت تأثير موشيه دايان واصلت الحكومة الإسرائيلية، التي كان يقودها حزب العمل تعزيز سيطرتها العسكرية على الضفة الغربية وبناء المزيد من المستوطنات في وادي الاردن. تواصل التعاون العملي مع السلطات الأردنية في عدد من القضايا العملية، بما في ذلك الزراعة وإدارة موارد المياه والتجارة والضرائب والمصارف والكهرباء وتوفير الخدمات الصحية وعودة اللاجئين. إلا ان الوضع كما لخصه المراقبون هو ان التعاون الفاعل بين الأردن وإسرائيل ساهم في الجمود الدبلوماسي آنذاك في منطقة الشرق الأوسط. وكان الملك حسين على قناعة بأن الفشل في كسر هذا الجمود سيؤدي إلى عدم الاستقرار والاضطراب والحرب في نهاية المطاف. وفي مطلع فبراير (شباط) 1973 وصل الملك حسين إلى واشنطن لطرح قلقه وهواجسه تجاه الوضع مع الرئيس ريتشارد نيكسون وكبار المسؤولين في دوائر صنع السياسة في الإدارة الأميركية. ووصف كيسنجر محنة الملك حسين بعمق ونوع من التعاطف: «كرر الملك حسين استعداده مجددا للتوصل إلى سلام مع إسرائيل، لكنه على الرغم من الاتصالات السرية واجه طريقا مسدودا. يجسد الملك حسين مصير المعتدلين العرب، فقد وجد نفسه محاصرا بين عجزه عن الدخول في حرب مع إسرائيل وعدم رغبته في ان تجمع بينه وبين العرب الراديكاليين قضية مشتركة. إنه على استعداد للتوصل إلى حل دبلوماسي، إلا ان إسرائيل لا ترى وجود ما يحفزها على التفاوض ما دام الملك حسين واقفا لوحده. كما ان إعادة الأراضي التي استولت عليها تبدو في نظر إسرائيل أقل أمنا من الوضع الراهن. الضفة الغربية، بما تعكسه من ارث تاريخي، من المحتمل ان تشعل جدلا عنيفا على الصعيد الداخلي في إسرائيل ـ الحزب الوطني الديني، الذي لا يستطيع الائتلاف الحالي الحكم بدونه، يعارض بقوة إعادة أي جزء من الضفة الغربية».

عندما عاد الملك حسين مجددا إلى واشنطن في 27 فبراير (شباط) أطلعه كيسنجر على المقترحات المصرية للتوصل إلى حل للنزاع. وعكس رد الملك حسين عمق ثقته في أنور السادات. كيسنجر بدوره لمس مؤشرات نهجين منفصلين من جانب القادة العرب، الذين يحول تشكيكهم في بعضهم بعضا دون التوصل إلى موقف مشترك. أنور السادات كان يستغل الفلسطينيين بهدف الاعتراض على خطوات الأردن، فيما عمل الملك حسين على إثارة مخاوف واشنطن من تعنت سوفياتي لإبطاء التوصل إلى سلام بين مصر وإسرائيل. الملك حسين، الذي كان في ذلك الوقت يقف لوحده بين القادة العرب، كان على استعداد لطرح شروط محددة للسلام. ففي لقائه الثاني مع كيسنجر سلمه ورقة حدد فيها العناصر التي كان قد طرحها في البداية: «الأردن على استعداد للتفاوض بصورة مباشرة مع إسرائيل بشأن الضفة الغربية. ستكون هناك تعديلات على الحدود شريطة إعادة قطاع غزة. إذا استعاد الاردن سيادته، فمن الممكن السماح بإقامة نقاط عسكرية إسرائيلية على طول نهر الأردن، وربما حتى مستوطنات إسرائيلية، شريطة ان تكون جيوبا معزولة على أراض أردنية». وقال الملك موضحا لكيسنجر أن تلك المقترحات كانت قد طرحت مباشرة على إسرائيل لكنها رفضتها. ورأى كيسنجر ان ثمة حاجة إلى طرح مقترح أميركي وليس مقترحا أردنيا مرة أخرى. عكست تلك الورقة، في واقع الأمر، تحسنا في الشروط الأردنية. ففي لقاء سري له مع موشيه دايان في 29 يونيو (حزيران) 1972، استبعد الملك حسين إقامة قواعد ومستوطنات إسرائيلية على الأراضي الأردنية، في ما وافق الملك حسين، حسبما جاء في الورقة التي قدمها إلى كيسنجر، بوجود مستوطنات ونقاط عسكرية إسرائيلية. تلت زيارة الملك حسين إلى واشنطن زيارة لغولدا مائير، التي التقت الرئيس نيكسون في 1 مارس (آذار) 1973 وأعلنت ان الوضع بالنسبة لإسرائيل «لم يحدث ان كان بتلك الايجابية». وعلى حد قولها، فإن حالة الجمود أسلم بالنسبة لإسرائيل لأن العرب لم يكن في يدهم خيار عسكري. قبلت واشنطن ما ذهبت إليه غولدا مائير وسرّعت الولايات المتحدة من مساعدتها الاقتصادية والعسكرية لإسرائيل. لم يصدر الأميركيون مقترحا عقب زيارة الملك حسين، ولم تفض محادثاته مع كيسنجر إلى شيء. الغرور والإعجاب الذاتي اللذان أبدتهما غولدا مائير في واشنطن عكسا موقفها تجاه الأردن. فقد التقت الملك حسين سرا في إسرائيل في 9 مايو (أيار) 1973، في وقت كانت تدور فيه مناوشات بين الجيش اللبناني وقوات تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان. كانت هناك أيضا مؤشرات مبكرة على إجراء كل من مصر وسورية استعدادات لعمل عسكري ضد إسرائيل. وكان الملك حسين قد أرسل تحذيرات إلى واشنطن بشأن استعدادات عسكرية سورية ومصرية أكثر جدية من أن تعتبر مجرد مناورات. وفي ذلك اللقاء طلب الملك حسين من غولدا مائير وقف تحليق الطائرات الإسرائيلية فوق أراضي الأردن لدى عودتها من مهام الاستطلاع فوق سورية، إلا انها رفضت طلب الملك حسين رفضا قاطعا، وقالت في هذا السياق ان تهديدات سورية بشن هجوم على إسرائيل يجعل من المستحيل تلبيتها لطلب الملك حسين. عقد لقاء آخر في 6 أغسطس (آب)، لكنه اقتصر بصورة رئيسية على قضايا اقتصادية، مثل تشجيع إسرائيل على الاستثمار في الاردن والتعاون الأردني ـ الإسرائيلي في استغلال الموارد المعدنية في البحر الميت، فضلا عن الإجراءات اللازمة لتخفيف مشكلة النقص في المساكن في العاصمة الأردنية والتنمية الزراعية في وادي الاردن. باختصار، لم تعد التسوية السلمية في جداول أعمال اللقاءات الثنائية على مستوى عال. التعنت الدبلوماسي الإسرائيلي والتهديدات العربية بشن حرب جعلت الملك حسين في وضع لا يحسد عليه. فهو لا يريد تكرار الخطأ الذي ارتكبه في حرب يونيو (حزيران) 1967 بالسماح للقادة العرب باستدراج بلده إلى حرب مع إسرائيل لم يكن على استعداد لخوضها. المشاركة في حرب أخرى كانت تتطلب منه بالضرورة الاتصال مع قادة دول المواجهة الأخرى، إلا أن مصر وسورية قطعتا علاقاتهما الدبلوماسية مع الأردن. وفي مطلع ديسمبر (كانون الأول) 1972 أرسل الملك حسين زيد الرفاعي في مهمة سرية للقاء الرئيس أنور السادات في القاهرة، حيث استمر اجتماعهما لمدة ست ساعات، وكان السادات صريحا في ذلك اللقاء وقال مخاطبا الرفاعي: «أدرك انني لست طرزان. أعرف جيدا مقدراتي. أنا لا أجيد الحرب الخاطفة. الإسرائيليون يجيدون الحرب الخاطفة. سأخوض حربا بهدف إعادة تنشيط الوضع السياسي وليس التحرير العسكري. سأشن حربا محدودة أعبر فيها قناة السويس واؤمن فيها موقعا محصنا وأتوقف، ثم أطلب من مجلس الأمن المناشدة بوقف إطلاق النار. هذه الإستراتيجية ستضمن لي انتصارا وتقلل الخسائر وتؤدي إلى تنشيط عملية السلام مجددا».

أشار الرفاعي خلال الاجتماع إلى مخاطر تلك الإستراتيجية، إلا ان حديثه لم يكن مقنعا. ومن الناحية الأخرى، رحب السادات باقتراح الرفاعي زيارة للملك حسين إلى القاهرة للقائه ووضع شروطا لذلك، لكنه عاد وتغاضى عنها ووجه الدعوة إلى الملك حسين لزيارة القاهرة والمشاركة معه والرئيس السوري حافظ الأسد في قمة مصرية ـ سورية ـ أردنية لمدة ثلاثة أيام في القاهرة تبدأ في 10 سبتمبر (أيلول) 1973. تضمن جدول أعمال تلك القمة تسوية الخلافات بين الدول الثلاث وتنسيق إستراتيجيتها العسكرية ـ السياسية وإعادة العلاقات الدبلوماسية. أقر الملك حسين بأن إسرائيل إذا رفضت الانسحاب من الأراضي المحتلة، فإن ذلك لا يترك للعرب خيارا سوى تحريرها من خلال العمل العسكري، لكنه شدد على ان الحرب تتطلب استعدادا كافيا وتأييدا من جانب الدول العربية المنتجة للنفط. وعلق السادات من جانبه قائلا: ان دول المواجهة وحدها هي المسؤولة عن تحرير أراضيها. وضع السادات بعد ذلك موضوع الحرب جانبا وطرح مسألة منظمة التحرير الفلسطينية ولمح إلى أن الأردن يجب أن يسمح بعودة المنظمات الفلسطينية كمقابل لإعادة العلاقات الدبلوماسية. رفض الملك حسين بشدة وهدد بمغادرة القاهرة، وتراجع السادات ووافق على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الاردن فورا. تظاهر الأسد بأنه في حاجة إلى التشاور مع زملائه، وبعد بضعة أيام أعلنت سورية إعادة العلاقات الرسمية مع الاردن. وهكذا بدت القمة في نظر الملك حسين بمثابة انتصار، فالحرب نوقشت كخيار محتمل ولكن فقط بعد إجراء الاستعدادت اللازمة، وكل ما كان متوقعا من الأردن هو ان تردع أي هجمات إسرائيلية على الخطوط الخلفية للقوات السورية عبر الأردن. أعيدت العلاقات الدبلوماسية مع الاردن، ولم يخضع الملك حسين لشروط السادات. لم يدرك الملك حسين خلال ذلك الوقت ان أنور السادات وحافظ الأسد عقدا خلال وجوده في القاهرة إبان تلك الزيارة اجتماعا سريا لوضع اللمسات الأخيرة لخطة حرب مشتركة ضد إسرائيل. وما لم يدركه الأسد هو ان السادات كانت لديه خطته الخاصة للحرب. وبعد انتهاء الحرب قال الأسد لزيد الرفاعي ان السادات خدعه. فالزعيمان وافقا على شن حرب لتحرير الأراضي المحتلة، إلا ان السادات كان يخطط لحرب محدودة بغرض إعادة تنشيط العملية السياسية. وطبقا للخطة المشتركة، من المفترض ان يدخل الجيش السوري المعركة لتحرير كل مرتفعات الجولان، فيما كانت خطة السادات للحرب تهدف إلى عبور قناة السويس والتوقف، بدلا من شن هجوم على الجيش الإسرائيلي في سيناء والتقدم باتجاه ممري الجدي ومتلا. وفي وقت لاحق قال الأسد إن الخطة المصرية مكّنت إسرائيل من تركيز كل قوتها ضد سورية. تأكيدات الملك حسين على عدم إبلاغه خلال قمة القاهرة بخطة الحرب يدعمها ما جاء في مذكرات أبو إياد (صلاح خلف). فقد أورد أبو إياد في مذكراته ان ياسر عرفات وفاروق القدومي عرفا من السادات في 9 سبتمبر (أيلول) 1973 بشأن الحرب الوشيكة ضد إسرائيل، فيما لم يبلغ الملك حسين، الذي وصل إلى القاهرة في 10 سبتمبر، أي شيء بشأن هذه الحرب. فقد أكد لهما السادات انه لا يعتزم أن ينبس ببنت شفة للملك حسين بشأن الحرب. وقال السادات ان الغرض الأساسي لتلك القمة، التي جمعت السادات والأسد والملك حسين، هو إعادة العلاقات مع الاردن بغرض إيجاد الظروف المناسبة على «الجبهة الشرقية» خلال الحرب المقبلة. اجتماع الملك حسين السري التالي مع غولدا مائير انعقد بتل أبيب في 25 سبتمبر 1973، وبعد أقل من ثلاثة أسابيع شنت كل من مصر وإسرائيل هجوما منسقا بعناية ضد الجيش الإسرائيلي في سيناء ومرتفعات الجولان. التقارب في التواريخ بين قمة القاهرة بين الملك حسين والسادات الأسد ولقاء الملك حسين مع غولدا مائير، ثم اندلاع حرب أكتوبر، أثار الكثير من الشكوك في أن الملك حسين توجه للقاء غولدا مائير لتبليغها تحذيرا مسبقا من هجوم مصري ـ سوري وشيك. هذه الادعاءات جعلت من لقاء الملك حسين مع الجانب الإسرائيلي في 25 سبتمبر الأكثر إثارة للجدل أكثر من أي من لقاءاته المتعددة الأخرى مع القادة الإسرائيليين. كان الملك حسين ينفى عادة هذه اللقاءات، لكنه إذا تعرض إلى ضغوط فلربما قال ان تلك الاتصالات المباشرة كانت ضرورية من اجل الدفاع عن بلده، وان لم يحدث ان تخلى عن شبر من الأراضي العربية لإسرائيل. من الناحية الأخرى، إذا كشف الملك حسين النقاب للإسرائيليين عن خطط العرب السرية للحرب، ربما أصبح خائنا للقضية العربية، لذا لا بد ان يكون هناك تحليل بعناية لذلك اللقاء الذي سبق حرب أكتوبر. فقد جرى ترتيب اللقاء قبل فترة وجيزة من انعقاده بناء على طلب من الملك حسين في 23 سبتمبر. المشاركون الرئيسيون في اللقاء كانوا الملك حسين وزيد الرفاعي، الذي أصبح رئيسا للحكومة في مايو (أيار) 1973، والجنرال فتحي أبو طالب، مدير الاستخبارات العسكرية الأردنية، ومن الجانب الإسرائيلي غولدا مائير وموردخاي غازيت، المدير العام لمكتب رئيس الوزراء. قاد الملك حسين مروحيته الخاصة من منزله في الشونة وهبط بها في الجانب الإسرائيلي من البحر الميت على مقربة من منطقة كهوف قمران. وأقلت مروحية تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي الملك حسين ومرافقيه إلى أطراف تل أبيب، حيث استقلوا سيارات تابعة لجهاز الأمن العام (الشاباك) لاستكمال بقية الرحلة. جرى الاجتماع في المقر الرئيسي للموساد في هيرتسيليا شمال تل أبيب. اجتماع الملك حسين والرفاعي وغولدا مائير وغازيت جرى تصويره سرا، وتم بثه عبر دائرة تلفزيونية مغلقة إلى غرفة أخرى في المبنى كان بها السكرتير العسكري لغولدا مائير وثلاثة من كبار ضباط الاستخبارات. وفي ذلك الوقت اجتمع الجنرال فتحي أبو طالب في غرفة أخرى مع الكولونيل أهارون لافران من الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وزافي زامير مدير الموساد. استهل الملك حسين الاجتماع بوصف لاجتماع قمة القاهرة من 10 إلى 12 سبتمبر مع السادات والأسد، وأثنى بصورة عامة خلال حديثه على تهذيب ولطف السادات، لكنه كان متحفظا في حديثه عن الأسد. وأكد الملك حسين ان الأسد والسادات على حد سواء ليسا على استعداد لاستمرار حالة اللاحرب واللاسلم، وأضاف انه يشاركهما الرأي في هذا الجانب، لكنه أعرب عن أمله في منع اندلاع الحرب. وفي هذا السياق قال الملك حسين ان السادات والأسد طلبا معرفة رأيه تجاه تشيط الجبهة الشرقية، ورد عليهما قائلا: «دعوني وشأني».

سألت غولدا مائير الملك حسين حول نيته السماح بعودة الفدائيين إلى الاردن، ورد قائلا انه يعتزم السماح لمنظمة التحرير الفلسطينية وتنظيمات أخرى للفدائيين بفتح مكاتب في الاردن، لكنه أكد انه لن يسمح لهم بالقيام بعمليات عسكرية أو إرهابية انطلاقا من أراضي الاردن. عقب انتهاء الحديث حول هذا الجانب انتقلت غولدا مائير في حديثها مع الملك حسين إلى مناقشة الأسلحة السوفياتية التي بدأت تتدفق إلى مصر وسورية. في تلك النقطة تحدث الملك حسين بصورة أكثر تحديدا: الملك حسين: تلقينا معلومات من مصدر حساس جدا جدا في سورية سبق ان تلقينا منه معلومات وأرسلناها في السابق، ان كل الوحدات التي كان من المفترض ان تكون في عمليات تدريب ومستعدة للمشاركة في هذا العمل العسكري السوري، خلال اليومين السابقين تقريبا، باتت الآن في وضع يسمح لها بالهجوم مجددا. كان من المفترض ان يكون ذلك جزءا من الخطة، باستثناء تعديلات ثانوية ـ من المفترض أيضا ان تكون الفرقة الثالثة مسؤولة عن أي تحرك إسرائيلي محتمل عبر الأردن. يتضمن ذلك طائراتهم وصواريخهم وكل شيء آخر في الجبهة، خلال هذه المرحلة. كل ذلك أصبح الآن تحت غطاء التدريب لكنه يتماشى مع المعلومات التي تلقيناها في السابق. هذه هي أوضاع ما قبل الانقضاض، وكل الوحدات الآن في هذا الوضع. بصرف النظر عما إذا كان ذلك يعني أي شيء، لا أحد يعلم ما يجري. ولكن لدي شكوكي. عموما، ليس هناك تأكيد لأي شيء. يجب ان نأخذ هذه الأشياء كحقائق. غولدا مائير: هل يمكن ان يفهم من ذلك ان السوريين يمكن ان يشرعوا في أي شيء من دون تعاون كامل مع المصريين؟ الملك حسين: لا اعتقد ذلك. اعتقد انهما سيتعاونان. بصرف النظر عما إذا يمكن اعتبار ما قاله الملك حسين تحذيرا من اندلاع حرب، فإن ما أدلى به كان موضع جدل في الجانب الإسرائيلي. فالملك حسين لم يتحدث عن خطة حرب عربية، وإنما تحدث حول الوضع على الجبهة السورية، وأشار إلى مصر فقط في سياق الرد على أسئلة طرحت عليه من الجانب الإسرائيلي. لم يقل ان مصر كانت تخطط لشن هجوم على إسرائيل، لكنه أشار إلى ان سورية كانت على استعداد للهجوم من دون إجراء المزيد من الاستعدادات. منتقدو غولدا مائير في إسرائيل قالوا من جانبهم انه كان بوسعها توجيه أسئلة أكثر للملك حسين، إلا ان الملك حسين لم يكن في ذلك السياق أسير حرب تحت الاستجواب، بل كان رأس دولة صديقا جاء إلى إسرائيل بمبادرة منه لأنه كان يشعر بقلق، وأراد أن يطرح مخاوفه مع واحد من الأطراف ذات الصلة بالنزاع. يضاف إلى ذلك ان اتهام غولدا مائير بأنها لم تكترث بالتحذيرات التي عبر عنها الملك حسين كان اتهامات لا أساس لها من الصحة. فقد اتصلت فور انتهاء ذلك اللقاء بوزير الدفاع موشيه دايان في منزله وأبلغته بما سمعت من الملك حسين. كما ان دايان من جانبه عقد اجتماعين في اليوم التالي لتقييم المعلومات التي أدلى به الملك حسين، فضلا عن المعلومات التي كانت لديهم مسبقا. الملك حسين أكد من جانبه انه فوجئ تماما باندلاع الحرب وانه ابلغ باندلاعها عندما كان وزوجته الراحلة عالية على متن دراجة نارية في ضواحي عمان. وقال ان سيارة أمن ظهرت خلفهما وأشار سائقها له بالتوقف مستخدما الأضواء الأمامية للسيارة ليبلغه باندلاع الحرب. وأكد أيضا ان لا فكرة لديه مطلقا بحدوث عمل عسكري بذلك المستوى وفي ذلك الوقت بالذات. اما زيد الرفاعي، فقد أصر على استحالة ان يكون الملك حسين قد ابلغ الإسرائيليين بالحرب مسبقا، وذلك لثلاثة أسباب. أولا، لا يمكن ان يخون الملك حسين القضية العربية من أجل الإسرائيليين أو من أجل أي طرف آخر. ثانيا، وجهت الدعوة للملك حسين للمشاركة في قمة القاهرة مع السادات والأسد بغرض إعادة العلاقات الدبلوماسية وليس للمشاركة في التخطيط للحرب. ثالثا، نفى الرفاعي ان تكون لدى الاردن في ذلك الوقت معلومات تجهلها أجهزة الاستخبارات الأخرى. جاء الهجوم يوم 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973 مفاجئا تماما لإسرائيل، الأمر الذي ساعد العرب على تحقيق انتصارات عسكرية مؤثرة، خلال الأيام الأولى عقب اندلاع القتال. فالجيش المصري عبر قناة السويس واستولى على خط بار ـ ليف بمحاذاة القناة وتقدم عشرين كيلومترا داخل سيناء وألحق خسائر كبيرة في صفوف القوات الإسرائيلية وقواتها الجوية والمدرعة. كما شن الجيش السوري هجوما مدرعا مكثفا وفاعلا على مرتفعات الجولان. الأمر الرئيسي الذي كان يشغل ذهن الملك حسين عقب اندلاع الحرب كان حماية الاردن. إلا ان مستوى الاستعداد المتدني لقوات الدفاع الإسرائيلية، التي كانت تحتفظ بـ70 دبابة فقط متمركزة على طول الجبهة الشرقية، كان عاملا محفزا للأردن للانخراط في المعركة. إزاء ذلك انقسم مستشارو الملك حسين، فالرفاعي وعامر خماش، الرئيس السابق لهيئة الأركان، عارضا دخول الاردن الحرب، فيما رأى السكرتير الخاص للملك، وعدد من قادة الجيش ان على الاردن دخول الحرب. يضاف إلى ذلك ان عددا من أعضاء الحكومة كان يرى انه على الاردن الا يبقى خارج معركة يخوضها أشقاؤه العرب لتحرير الأراضي المحتلة. كان هناك تأييد شعبي عربي للمشاركة في ما وصفت بأنها معركة مصير، فقد طلب الملك فيصل من الملك حسين السماح للواء السعودي المرابط في الاردن بالانتقال إلى سورية. رفض الملك حسين في بداية الأمر، لكنه عاد وتراجع عن رفضه. منظمة التحرير الفلسطينية كانت تريد أيضا ان تكون جزءا من المعركة وبدأت الضغط على الملك حسين بهدف السماح لآلاف الفدائيين بالعبور من الاردن إلى داخل إسرائيل لتنفيذ عمليات تخريبية، إلا الملك حسين رفض ذلك الطلب وقال ان ذلك سيكون بمثابة فتح الاردن جبهة ثالثة ضد إسرائيل من داخل أراضيه. عند ذلك أجرى أبو إياد اتصالا بالسادات طالبا منه التدخل لمصلحة منظمة التحرير الفلسطينية، غير ان السادات كان يشك في دخول الملك حسين المعركة إلا إذا ضعف موقف إسرائيل تماما في الحرب على نحو يجعلها غير قادرة على تشكيل خطر على الأردن. كان الملك حسين يرغب في ان يفعل شيئا إلى جانب أشقائه العرب ويدعم جارته سورية ولكن من دون ان يترتب على ذلك هجوم إسرائيلي يستهدف الاردن. فكّر الملك حسين في إرسال لواء أردني مدرع إلى سورية، لكنه كان يريد أن تقبل إسرائيل ذلك أو تعطيه ضمانا على الأقل بعدم استخدام هذه الخطوة ذريعة لشن هجوم على الاردن. وفي هذا الشأن كتب كيسنجر في مذكراته: «لا يحدث إلا في الشرق الأوسط ان يطلب طرف في نزاع مسلح من خصمه الموافقة على المشاركة في حرب ضده».


أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة الثامنة) ـ الملك حسين قال لغولدا مائير: نرفض حصرنا في ممر ضيق

مصر وإسرائيل وأميركا توصلت إلى اتفاق سري قبل مؤتمر جنيف

لندن: «الشرق الأوسط»
كان الملك حسين يشعر بقلق واضح إزاء احتمال إهمال مصالحه في المسألة الفلسطينية، خلال عملية السلام التي كانت تهيمن عليها الولايات المتحدة. إلا ان هنري كيسنجر أبلغه بأن أفضل السبل لحماية هذه المصالح ان يصبح الاردن عضوا مؤسسا في «مؤتمر جنيف للسلام»، ذلك ان هذه الخطوة كانت ستجعله متحدثا باسم الفلسطينيين، على حد اقتراح كيسنجر.

وشارك الاردن في المؤتمر، لكن الملك حسين ترسخت لديه قناعة، بناء إلى النتائج التي توصل إليها المؤتمر، انه لم يكن سوى تمثيلية لإضفاء شرعية على اتفاق منفصل بين مصر وإسرائيل وتمهيد الطريق للتوصل إليه.

وتروي حلقة اليوم من كتاب «أسد الاردن»، الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر بنغوين ومؤلفه المؤرخ والبروفسور في جامعة اكسفورد آفي شليم قصة الطريق الى قمة الرباط ولماذا شعر الملك حسين بانها كانت هزيمة له.

وتورد هذه الحلقة اسرار استئناف الاتصالات المباشرة بين الملك حسين وغولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل، بعدما شعر الملك حسين ان هنري كيسنجر لا يشرك الاردن في دبلوماسيته، التي كانت تركز على مصر وسورية وقتها.

أجاز مجلس الأمن في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1973 قراره رقم 338، مناشدا أطراف النزاع بوقف الحرب والشروع في مفاوضات مباشرة بهدف التوصل إلى تسوية للنزاع على أساس القرار 242. قبلت إسرائيل ومصر والأردن فورا، إلا ان سورية وافقت بعد ذلك بوقت قصير، بغرض إبداء احتجاجها على عدم التشاور معها. لم يكن الملك حسين موافقا فحسب، بل متلهفا للمشاركة في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، بهدف استعادة السيادة الأردنية على الضفة الغربية، لكنه خُذل من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل. وقام كيسنجر بأول زيارة له إلى منطقة الشرق الأوسط للتمهيد لعقد مؤتمر دولي عقب تنفيذ وقف إطلاق النار، ووصل إلى عمان في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) في نهاية جولة له في عواصم دول المنطقة. استقبل الملك حسين كيسنجر وطرح له موقفه بصورة واضحة، ولخصه في ان الاردن الدولة العربية الأكثر تأثرا بالنزاع من ناحية الأراضي ومن الناحية السكانية أيضا، مؤكدا ان واجبه هو استعادة الضفة الغربية مع تعديلات طفيفة من الجانبين، كما أكد الملك حسين لكيسنجر أيضا انه لا يستطيع التخلي عن مسؤوليته عن الأجزاء الخاصة بالمسلمين والمسيحيين في القدس. وكان كيسنجر قد أعرب عن أسفه، حسبما جاء في مذكراته، في ان يكون «أفضل الأصدقاء العرب للولايات المتحدة في تلك المرحلة على هامش عملية السلام»، إلا ان خطوات كيسنجر تشير إلى انه كان يتعامل بوجهين، فقد كان متواطئا مع مصر وإسرائيل بهدف تهميش الأردن. كان الملك حسين يشعر بقلق واضح إزاء احتمال إهمال مصالحه في المسألة الفلسطينية خلال عملية السلام التي كانت تهيمن عليها الولايات المتحدة. إلا ان كيسنجر أبلغه بأن أفضل السبل لحماية هذه المصالح ان يصبح الاردن عضوا مؤسسا في «مؤتمر جنيف للسلام»، ذلك ان هذه الخطوة كانت ستجعله متحدثا باسم الفلسطينيين، على حد اقتراح كيسنجر. وافق الملك حسين على المشاركة في المؤتمر، على أمل ان يؤدي إلى تسوية شاملة للنزاع على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338. وكان غرض كيسنجر ينحصر على وجه التحديد في استمرار وقف إطلاق النار والفصل بين القوات وتمكين مصر وإسرائيل من التوصل إلى تسوية ثنائية. كان يدرك كيسنجر جيدا ان مشاركة الاردن تستوجب التفاوض حول الضفة الغربية والقدس، عاجلا أو آجلا، وهما قضيتان كان كيسنجر يعمل على تفاديهما. افتتح المؤتمر في جنيف في 21 ديسمبر (كانون الأول) بصورة رسمية، تحت رعاية الأمم المتحدة وبمشاركة كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وترأس جلسة الافتتاح كورت فالدهايم، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك. قبلت إسرائيل ومصر والأردن الدعوة للمؤتمر، إلا ان الرئيس السوري حافظ الأسد رفض مشاركة بلاده، لأن المؤتمر لم يهدف، على حد رأي سورية، بصورة واضحة إلى حمل إسرائيل على الانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلة. كما ان إسرائيل رفضت مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية. ومثل الاردن في المؤتمر زيد الرفاعي، الذي أصر في الجلسة الافتتاحية على انسحاب إسرائيل الكامل من كل الأراضي المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية، مؤكدا ان غياب سورية عن المؤتمر لا ينتقص بأية حال من حقها في مطالبة إسرائيل بالانسحاب من مرتفعات الجولان، كما أعلن أمام المؤتمر ان «مسألة الانسحاب والحدود وحقوق الفلسطينيين واللاجئين وواجبات السلام ووضع القدس، جميعها قضايا واهتمامات مشتركة ومسؤولية جماعية». رفض وزير الخارجية المصري، إسماعيل فهمي، التنسيق مع الرفاعي قبل بدء المؤتمر، ولم يتبادل معه كلمة واحدة خلال المؤتمر. كما أشار خلال حديثه الافتتاحي إلى الضفة الغربية كأرض فلسطينية، الأمر الذي كان يعني ضمنيا نفي حق الاردن في تمثيل الفلسطينيين. اما أبا ايبان، فقد أكد خلال حديثه أمام المؤتمر ان إسرائيل لن تعود إلى أراضي ما قبل حرب يونيو (حزيران) 1967، مؤكدا ان القدس هي العاصمة الأبدية والموحدة لإسرائيل. واقترح كيسنجر تشكيل مجموعة عمل عسكرية مصرية ـ إسرائيلية لمناقشة الفصل بين القوات، إلا ان الرفاعي اعترض وقال، الغرض من عقد المؤتمر هو تطبيق قرارات مجلس الأمن والتوصل إلى تسوية شاملة. ورد كيسنجر من جانبه قائلا، ان السلام الشامل لا يمكن تحقيقه فورا وإنما فقط كنتيجة لسلسلة من الخطوات، الأمر الذي أتاح الفرصة أمام الرفاعي لاقتراح تشكيل مجموعة عمل أردنية ـ إسرائيلية لمناقشة الفصل بين القوات في الجبهتين. وعارض ابا ايبان ذلك المقترح، بحجة ان القوات ليست في حالة اشتباك وان انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية قضية من الممكن مناقشتها فقط في إطار تسوية شاملة واتفاق سلام. بدأ الرفاعي يتشكك في أن الغرض الأساسي من وراء مؤتمر جنيف للسلام، هو توفير الغطاء الدبلوماسي اللازم للتوصل إلى اتفاق مصري ـ إسرائيلي. وأكد هذه الشكوك، بعد مضي حوالي 15 عاما، بيتر رودمان، وهو مسؤول أميركي رافق كيسنجر إلى المؤتمر. فقد قال رودمان ان الغرض من مؤتمر جنيف كان التوصل إلى اتفاق لفصل القوات بين إسرائيل ومصر، وأوضح أيضا ان الولايات المتحدة ومصر وإسرائيل توصلت إلى اتفاق سري قبل انعقاد المؤتمر. حتى قبل هذا الاعتراف كان الملك حسين قد توصل في ذلك الوقت، بناء إلى النتائج التي توصل إليها المؤتمر، إلى انه لم يكن سوى تمثيلية لإضفاء شرعية على اتفاق منفصل بين مصر وإسرائيل وتمهيد الطريق للتوصل إليه. ويمكن القول بصورة عامة ان مؤتمر جنيف للسلام لم يكن مؤتمرا دوليا كما ينبغي، بل خدعة. الجلسة الافتتاحية له كانت في واقع الأمر آخر جلساته. اما الاردن، فقد خرج منه خالي الوفاض. بدأ كيسنجر عقب إرجاء أعمال المؤتمر، ما بات يعرف بـ«دبلوماسيته المكوكية». وكانت أولى ثمرات هذه التحركات توقيع اتفاق بين مصر وإسرائيل في 18 يناير (كانون الثاني) 1974 للفصل بين القوات. وكان الهدف التالي لكيسنجر التوصل إلى اتفاق مماثل بين إسرائيل سورية، إلا انه في نفس الوقت كان عليه التوقف في الاردن. وبالفعل وجه الملك حسين الدعوة إلى كيسنجر لزيارته في العقبة. وكان في استقبال كيسنجر والوفد المرافق له كل من الملك حسين وولي العهد الأمير حسن، ورئيس الوزراء زيد الرفاعي، ورئيس هيئة الأركان الجنرال زيد بن شاكر. وعبّر الجانب الأردني عن ارتياحه إزاء التوصل إلى اتفاق الفصل بين القوات، الذي وصفه الملك حسين بأنه انجاز هائل. الجانب الأردني كان يعلم ان سورية هي الوجهة المقبلة لكيسنجر بعد مصر، بهدف التوصل إلى اتفاق مماثل للاتفاق الذي ابرم مع السادات حول الفصل بين القوات. إلا ان الاردن كان يرغب في ان تكون هناك مناقشات حول انسحاب مبدئي من الضفة الغربية على غرار الإجراءات التي رتبت في ما يتعلق بالوضع بين مصر وإسرائيل. وكان هاجس الاردن يتركز في احتمال ان تحرمها الدول العربية من حق استعادة الأراضي التي استولت عليها إسرائيل في حرب يونيو 1967. وفي واقع الأمر كان الاردن قد عبر عن معاناته من كابوسين في ما يتعلق بالضفة الغربية، هما احتمال استمرار الاحتلال الإسرائيلي إلى أجل غير مسمى، أو قيام دولة لمنظمة التحرير الفلسطينية يكون أول هدف لها المملكة الهاشمية، إلا كيسنجر زعم للجانب الأردني انه متعاطف معه وانه يوافق الملك حسين في تقييمه الاستراتيجي. وقال للملك حسين: «إما ان تتعامل إسرائيل مع ياسر عرفات، أو تتعامل مع جلالتكم. إذا كنت في محل رئيس الحكومة الإسرائيلية، سأسارع إلى التفاوض مع جلالتكم لأن ذلك يمثل أفضل ضمانة ضد عرفات».

إلا ان النظر في البدائل لم يحدث تقدما في الأمور، لأن إسرائيل ليست راغبة في أي من البديلين.

وهكذا، لم يكن لقاء العقبة سوى تكرار لما حدث في زيارة كيسنجر السابقة في نوفمبر (تشرين الثاني). فقد سبق ان عرض على القادة الإسرائيليين مقترح الرفاعي بانسحاب إسرائيلي من مدينة أريحا، التي تقطنها غالبية عربية وتقع على مقربة من نهر الاردن، فضلا عن كونها رمزا لمطالبة الملك حسين بالضفة الغربية، والتأكيد على وضعه كمحاور رئيسي لإسرائيل في مفاوضات الضفة الغربية. إلا ان المقترح رفض من الجانب الإسرائيلي، على أساس انه يتعارض مع «خطة آلون»، التي يعتبر وادي الاردن بموجبها حدودا أمنية لإسرائيل.

طرح الملك حسين في لقاء العقبة خطة أخرى للفصل بين القوات، تتراجع بموجبها القوات العسكرية الأردنية والإسرائيلية مسافة ثماني كيلومترات من نهر الاردن باتجاه سلسلة الجبال عند وادي الاردن، مع إقامة إدارة مدنية أردنية في المنطقة التي ستخليها إسرائيل، خصوصا في مدينة أريحا. وجاء ضمن مقترح الملك حسين أيضا تشكيل مجموعة عمل في أسرع فرصة ممكنة، لتثبيت مطلب الأردن بتمثيل الفلسطينيين. ورد كيسنجر على الملك حسين قائلا، انه سيطرح المقترح على الجانب الإسرائيلي خلال الأسابيع المقبلة. ووصف كيسنجر نهج الملك حسين بالاعتدال، لكنه لم تكن هناك جدوى من ورائه في ذلك الوقت الذي كان يتشكل خلاله ائتلاف حاكم جديد في إسرائيل، بمشاركة حزب يعارض أي تغيير في أراضي الضفة الغربية. على الرغم من ذلك واصل الملك حسين مساعيه للمشاركة في المساعي والجهود الدبلوماسية. إلا ان إحجام كيسنجر عن إشراك الملك حسين في دبلوماسيته التدريجية تلك، أجبرت الملك حسين على تجديد الاتصالات المباشرة بإسرائيل. ففي أوائل عام 1974 أجرى الملك حسين اجتماعين مع غولدا مائير، التي كانت في ذلك الوقت تواجه عاصفة من الانتقادات على الصعيد المحلي، بسبب فشلها في معرفة الهجوم العربي قبل وقوعه في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973. اكتسب الرفاعي من خلال تلك التطورات والأحداث تجربة كبيرة في الدبلوماسية الدولية والإقليمية. وكان هناك تقسيم للعمل بين العاهل الأردني ورئيس وزرائه، على أساس ان الملك حسين هو الذي يحدد الخطوط العريضة، فيما كان رئيس وزرائه الرفاعي، مسؤولا عن تنفيذها وعن التعامل مع التفاصيل وتبديد أي نوع من الالتباس والغموض. كما كان أيضا يدوّن الملاحظات خلال النقاش ويعد سجلا بما دار خلال اللقاء. كان الملك حسين يتسم باللطف والتهذيب والهدوء، مع براعة واضحة في إشاعة جو من اللطف في المفاوضات، فيما كان الرفاعي سياسيا براغماتيا ولاذعا ومفاوضا صارما ومدافعا بقوة عن مصالح الاردن. توجه الملك حسين وزيد الرفاعي في 26 يناير (كانون الثاني) 1974 إلى لقاء غولدا مائير ودايان وغازيت في صحراء أرافا، على الحدود بين الدولتين، داخل مقطورة مكيفة الهواء. بدا واضحا ان الطرفين كانا يريدان تحقيق تقدم للتوصل إلى اتفاق لفصل القوات، إلا ان آراءهما كانت متضاربة بشأن طبيعة ومستوى الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية. كان الطرف الإسرائيلي يفكر انطلاقا من فصل محدود للقوات، فيما طالب الجانب الأردني بفصل للقوات على كامل الجبهة. كانت غولدا مائير تفضل ان تكون العملية تدريجية، وعرضت إعادة مدينة أريحا للحكم الأردني، بالإضافة إلى المناطق المأهولة بالسكان العرب وسط الضفة الغربية. وعلى الرغم ان ذلك كان عرضا متواضعا، فقد أكدت غولدا مائير على ان تلك الخطوة بداية فقط وليس نهاية العملية. إلا ان الملك حسين طالب بأن تخلي إسرائيل شريطا من الأرض بمحاذاة نهر الأردن، وكان ذلك يتطلب تفكيك إسرائيل بعض المستوطنات. ونظر الملك حسين إلى عرض غولدا مائير كونه صورة جديدة لخطة قديمة (خطة آلون) سبق ان رفضها مكررا، ووصفها بأنها «غير مقبولة تماما». وجاء طلب الملك حسين انطلاقا من ان أي تراجع إسرائيلي على طول خط وقف إطلاق النار سيعطي الفلسطينيين أملا في المستقبل ويعيد ثقتهم في الاردن. وجرى الحوار التالي بين غولدا مائير والملك حسين ودايان والرفاعي: الملك حسين: اذا وافقتكم من حيث المبدأ على اقتراحي بانسحاب إسرائيلي من نهر الاردن إلى مسافة 15 كيلومترا، على نحو يسمح لي بإقامة إدارة مدنية أردنية، فإن ذلك سيمكننا من المضي على مراحل في التطبيق. سيساعدنا ذلك على إبعاد الفلسطينيين من منظمة التحرير الفلسطينية. غولدا مائير: من الممكن إيجاد سبل أخرى لفصل قواتنا من خلال ممر يربطكم بالسكان الفلسطينيين. الملك حسين: نرفض ان يتم حصرنا في ممر ضيق في الضفة الغربية، ولن يكون هناك تقدم من دون الانسحاب من وادي الاردن. دايان: هل يعني ذلك انه يجب على قوات الدفاع الإسرائيلية الانسحاب من كامل وادي الاردن؟

الرفاعي: نعم، بالتأكيد. لكننا لن نضع قوات من الجيش الأردني هناك. دايان: وماذا عن المستوطنات اليهودية في وادي الاردن؟ الرفاعي: يجب إزالتها تماما. دايان: إذا كان الأمر كذلك، أين ستكون حدودكم النهائية؟ الرفاعي: مطابقة لخطوط 1967. نحن على استعداد لتحقيق ذلك بصورة تدريجية.

تواصل الحوار، لكنه لم ينجح في تفادي التوصل إلى طريق مسدود. دايان كان مصرا بعناد على الإبقاء على المستوطنات اليهودية والقواعد العسكرية في وادي الأردن، وأضافت غولدا مائير من جانبها قائلة: ان الحصول من الكنيست حتى على مجرد الممر سيكون أمرا صعبا. ولم يكن الرفاعي أقل إصرارا إذ أكد على ان الانسحاب لا يمكن ان يبدأ بممر، كما أكد أيضا على ان «خطة آلون» اذا كانت هدف إسرائيل، فلن تكون هناك آفاق تسوية. انعقد لقاء آخر بين نفس المجموعة من الجانبين وفي نفس المكان في 7 مارس (آذار)، وطرح الملك حسين مجددا مطلبه بانسحاب إسرائيلي من على طول الجبهة بكاملها. وهنا أشارت غولدا مائير إلى ان اتفاق الفصل بين القوات مع مصر لم يكن في كامل قناة السويس وإنما على جزء منها فقط. وكشف رد الملك حسين على هذه النقطة عن إحباطه بصورة واضحة عندما قال: «هل كان يجب علي ان أحاربكم في أكتوبر كي أقنعكم بالفصل بين القوات على كامل الحدود؟ لم يحرز النقاش أي تقدم: الملك حسين: اذا اُمكن التوصل إلى سلام، فإننا سنستطيع منع الإرهاب، ولكن ما دمتم ترفضون مقترحاتنا، فإن الفلسطينيين سيصبحون أكثر قوة. غولدا مائير: ماذا اذا أراد الفلسطينيون في الضفة الغربية إقامة دولة فلسطينية مستقلة؟ الملك حسين: سيكون ذلك حسنا. هذه الدولة ستكون مثل الساندويتش بيننا وبينكم، وليس هناك ما يثير الخوف. دايان: هل يمكن ان تستمر المواقع المحصنة والمستوطنات تحت السيادة الإسرائيلية؟ الملك حسين: من الصعب علينا قبول ذلك. واصل دايان الضغط للإبقاء على الوجود الإسرائيلي في وادي الاردن، إلا ان الرفاعي رفض تلك الفكرة بصورة أكثر حدة من الملك حسين. وهدد دايان أيضا بسؤال القادة الفلسطينيين في الضفة الغربية حول ما اذا كانوا سيوافقون على الوجود الإسرائيلي لقاء مقابل مالي مناسب. ورفض الرفاعي الفكرة بتأكيده بثقة ان القادة الفلسطينيين لن يوافقوا على ذلك. قال دايان عند ذلك ان هناك خيارين، فإما ان تعمل إسرائيل جاهدة على التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين في الضفة الغربية، أو ان يوافق الاردن على إجراء تعديلات كبيرة على الحدود. هناك تدخل الرفاعي بسرعة قائلا: ان ترتيب اللقاء جرى أصلا لمناقشة الفصل بين القوات.

انتهى ذلك الاجتماع من دون التوصل إلى اتفاق، وعلى حد تعليق الملك حسين، عاد الجميع إلى المربع الأول. وفي 10 ابريل (نيسان) تقدمت غولدا مائير باستقالتها، غداة نشر تقرير لجنة أغرانات، واختار حزب العمل اسحاق رابين لخلاقة غولدا مائير، وبذلك يكون فصل طويل في العلاقات الأردنية ـ الإسرائيلية قد انتهى. الحكومة التي شكلها رابين وقدمها إلى الكنيست في 3 يونيو (حزيران) 1974 كانت تعاني من الضعف والانقسام. فقد أصبح آلون وزيرا للدفاع وشيمعون بيريس وزيرا للخارجية. وكان لدى ثلاثتهم أولويات مختلفة. رابين كان يفضل إجراء مفاوضات مع مصر، فيما آلون كان صاحب توجه مؤيد للمفاوضات مع للأردن، وكان بيريس يفضل التوصل إلى اتفاق مع القادة الفلسطينيين في الضفة الغربية. على الرغم من ان رابين في ذلك الوقت لم يكن على استعداد للتوصل إلى اتفاق حول الضفة الغربية، فإنه ثمّن الاتصال بالملك حسين. فخلال فترة ثلاث سنوات ترأس خلالها الحكومة الإسرائيلية، عقد رابين، برفقة آلون وبيريس، ستة اجتماعات مع الملك حسين جميعها في (أراض إسرائيلية)، واحد في تل أبيب والبقية في وادي عربة. وكان لدى الجانب الإسرائيلي أربعة أهداف محددة خلال تلك اللقاءات: استكشاف التوصل إلى اتفاق مع الاردن وحل المشاكل الصغيرة التي كانت تؤثر على العلاقات بين البلدين وترقية التعاون الاقتصادي بينهما وتنسيق السياسة تجاه الضفة الغربية والمنظمات الفلسطينية. الاردن تقدم من جانبه باقتراحين خلال المناقشات التي جرت في تلك اللقاءات: التوصل إلى اتفاق مؤقت يتضمن انسحابا إسرائيليا من على طول نهر الأردن والتوصل إلى اتفاق سلام شامل مقابل انسحاب إسرائيلي كامل. عقد الاجتماع الأول بين الجانبين في 28 أغسطس (آب) والثاني في 19 أكتوبر (تشرين الثاني) 1974، وكان قد تقرر مسبقا عقد قمة عربية في الرباط في نهاية نفس الشهر. خلال تلك الفترة شهد العالم العربي تأييدا متزايدا لإحلال منظمة التحرير الفلسطينية محل الاردن كممثل للشعب الفلسطيني، وبات الملك حسين في ذلك الوقت أكثر تلهفا من أي وقت مضى للتوصل إلى اتفاق لفصل القوات يساعده على تعزيز موقفه ومد نفوذه إلى الضفة الغربية. فبدون التوصل إلى اتفاق كان سيواجه خطر مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في القمة المرتقبة ممثلا للشعب الفلسطيني بدلا من الاردن، إلا ان رابين، الذي أتى بالحزب الوطني الديني في الحكومة الإسرائيلية، لم يكن على استعداد للتخلي عن أريحا، خشية انهيار ائتلافه الهش. لم يكن رابين راغبا في تحقيق أي تقدم مع الملك حسين في هذا الجانب، ذلك ان أي تنازل عن الأراضي لا يعني سوى انسحاب الحزب الوطني الديني من الائتلاف أو الدعوة لعقد انتخابات جديدة. وكان يعتقد بصورة عامة ان فرص التوصل إلى اتفاق ثان مع مصر أفضل بكثير من فرص التوصل إلى اتفاق مع الملك حسين حول الضفة الغربية. انعقدت قمة الرباط في 26 أكتوبر بحضور زعماء الدول العربية ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وطغى النزاع بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية على المناقشات. أكد الملك حسين في كلمته على المسؤولية التاريخية لبلده عن مصير الضفة الغربية وحدد مرحلتين للنضال المستقبلي، هما تحرير الأراضي المحتلة والتوصل إلى تسوية بشأن المشكلة الفلسطينية. وحث أيضا الدول المشاركة على دعم الأردن في مساعيه لاستعادة الضفة الغربية ووعد بمنح سكانها فرصة تقرير مستقبلهم بمجرد انسحاب إسرائيل. ياسر عرفات أكد من جانبه، خلال الكلمة التي ألقاها، على ضرورة ان تكون منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، سواء في استعادة الضفة الغربية أو تقرير مستقبلها. صوتت القمة لصالح المنظمة. وجاء قرار القمة مؤكدا ان المنظمة ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني مع التأكيد على حقه في إقامة سلطة وطنية مستقلة تقودها المنظمة. لم يكن أمام الملك حسين سوى الالتزام بقرار القمة حول التمثيل الفلسطيني، لكنه لم يكن يرغب في ان يدفع الثمن الشعب الفلسطيني، الذي يعاني اصلا من الاحتلال. لذا، أعلن أمام القمة ان الأردن سيواصل إدارته للضفة الغربية وسيواصل أيضا مساعدة ومساندة سكانها حتى التحرير، وقوبل حديثه ذاك بعاصفة من التصفيق من الزعماء العرب، لكنه على الرغم من ذلك اعتبر قمة الرباط هزيمة رئيسية له على الصعيدين السياسي والدبلوماسي، وشعر بالخذلان من جانب إسرائيل والتخلي من جانب العرب المعتدلين والخيانة من جانب هنري كيسنجر. غدا: * حادثة الملكة عالية تركت حزنا عميقا لدى الملك حسين

* أشرف مروان عاد برد سلبي من السادات على طلب الملك حسين


أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة التاسعة) .. الملك حسين أعطى ديان درسا عندما طرح اقتسام الضفة الغربية بين الأردن وإسرائيل

السادات قال لسكرتير بيغن: إذا وصل العاهل الأردني إلى كامب ديفيد فلن نتوصل الى شيء

الملك حسين والملكة علياء
لندن: «الشرق الأوسط»
أوردت بعض التقارير الإخبارية في الصحافة الأميركية ان الأردن رفض الدعوة للمشاركة في قمة كامب ديفيد التي دعا اليها الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر مصر وإسرائيل. لكن تلك التقارير لم تكن صحيحة، وربما تكون نابعة من موقف الملك حسين عشية القمة عندما بدا انه غير رافض للدعوة، لكنه مصر على جعل مسألة مشاركته أمرا صعبا. وبقي الملك حسين خلال تلك الفترة في لندن وهو يشعر بأنه استبعد منها، لكنه كان يتابع تطوراتها بقلق. وتصادف خلال تلك الفترة وجود رجل الأعمال المصري اشرف مروان، وطلب الملك حسين مقابلة أشرف وأبلغه في سرية تامة رغبته في المشاركة في قمة كامب ديفيد وطلب منه ان يبلغ السادات بذلك، وذهب مروان الى واشنطن لمقابلة احد كبار مستشاري السادات لكنه عاد برد سلبي.

وفي حلقة اليوم من كتاب أسد الأردن الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر «بنغوين» ومؤلفه المؤرخ والبروفسور في جامعة اكسفورد آفي شليم، قصة الطريق الى كامب ديفيد ومواقف الملك حسين منذ ان اعلن الرئيس المصري الراحل انور السادات مبادرته الشهيرة.

وقبلها كان عام 1977 مأساويا بالنسبة الى الملك حسين فقد توفيت الملكة عالية في تحطم مروحية وتركت لديه حزنا عميقا. كما أسفر وصول حزب الليكود إلى الحكم في إسرائيل عن تغيير رئيسي في السياسة الخارجية لإسرائيل. فعلى عكس حزب العمل البراغماتي المهتم بأمن إسرائيل كان الليكود حزبا آيدولوجيا قوميا متمسكا بمشروع «ارض إسرائيل» ويرفض تماما أي مطالب للأردن وأي حق للفلسطينيين في تقرير المصير. صادف العام 1977 اليوبيل الفضي لتولي الملك حسين عرش الأردن، لكنه كان عاما مأساويا على صعيد حياته الخاصة ومثار إحباط على الصعيد السياسي. ففي 9 فبراير (شباط) توفيت زوجته الثالثة عالية في حادث تحطم مروحية، وتركت تلك الحادثة حزنا عميقا لدى الملك حسين، وزاد من حزنه إحساس بالذنب لسماحه للملكة عالية بالسفر على متن المروحية الملكية في حالة جوية سيئة. وكانت أول زيارة خارجية للملك حسين بعد تلك الحادثة المأسوية في 24 ابريل (نيسان) إلى الولايات المتحدة، حيث التقى الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر ومستشاريه في البيت الأبيض. أبدى جميعهم إعجابا بالملك حسين ورأوا فيه حليفا قويا في مؤتمر الشرق الأوسط المزمع عقده في نهاية ذلك العام. وقال الملك حسين انه شعر لأول مرة منذ سنوات بإحساس من الأمل في التوصل إلى بعض الاتفاقيات. وفي وقت لاحق من مساء ذلك اليوم جلس كارتر وزوجته روزالين مع ضيفهم في شرفة ترومان يشاهدون هبوط وإقلاع الطائرات من مطار واشنطن الوطني، وتحدثوا حول شؤون دبلوماسية وشخصية. وبكى الملك حسين عندما تحدث مع روزالين كارتر حول مدى تقديره للخطاب المكتوب بخط اليد الذي أرسله له الرئيس. وسأل كارتر الملك حسين ما اذا كان يرغب في زيارة ساحل جورجيا لبضعة أيام بغرض الراحة والاستجمام، وقبل الملك حسين الدعوة. كان جيمي كارتر سادس رئيس أميركي يعمل معه الملك حسين. وعلى الرغم من البداية الواعدة بين الجانبين، إلا ان العلاقات لم تستمر بنفس الود بسبب الدور الثانوي الذي رسم للأردن في إطار خطط إدارة كارتر. ثمة مصدر آخر لتراجع العلاقات الأردنية ـ الأميركية تمثل في وصول حكومة يمينية إلى السلطة في إسرائيل برئاسة مناحيم بيغن في انتخابات مايو (أيار) 1977 لتضع نهاية لثلاثة عقود من سيطرة حزب العمل على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. كما أسفر وصول حزب الليكود إلى الحكم في إسرائيل عن تغيير رئيسي في السياسة الخارجية لإسرائيل. حزب العمل كان حزبا براغماتيا يمثل أمن إسرائيل شغله الشاغل، فيما كان حزب الليكود حزبا آيدولوجيا قوميا متمسكا بمشروع «ارض إسرائيل». فقد رفض حزب الليكود تماما أي مطالب للأردن تتعلق بالسيادة الأردنية في المنطقة، كما رفض أي حق للفلسطينيين في تقرير المصير. أصاب القادة الأردنيين قلق بالغ، وكان خوفهم من ان الحكومة الإسرائيلية الجديدة لن تكتفي فقط بضم الضفة الغربية بل ستنفذ عمليات طرد جماعية واسعة للفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية. يضاف إلى ذلك ان سجل رئيس الوزراء الجديد، مناحيم بيغن، كزعيم لجماعة إرهابية يمينية في السابق وعضو في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة ليفي اشكول، كان مصدرا آخر للقلق. الملك حسين كان ينظر إلى بيغن بنوع من النفور بسبب ماضيه الإرهابي ونهجه المتطرف في السياسة. وكان يشارك الملك حسين تلك الهواجس أعضاء آخرين في الأسرة الملكية مثل الأمير زيد بن شاكر، الذي قال ان الليكود يرى ان فلسطين تقع شرق نهر الأردن، وأن الشيء الوحيد الذي يحتاج إلى تغيير هو الحكم الملكي لأن غالبية سكان الأردن فلسطينيون. وأضاف الأمير زيد بن شاكر ان الأردن كانت لديه خطط طوارئ لمقابلة احتمالات الطرد الجماعي للفلسطينيين من الضفة الغربية. وأوضح أيضا ان الملك حسين كانت لديه اتصالات بكل حلفاء الأردن، وان تلك الفترة اتسمت بالقلق لدى الأردن. شعرت القيادة الأردنية بالخطر من برنامج الحكومة الإسرائيلية الجديدة وتشكيلتها. فقد جرى اختيار عزرا وايزمان، القائد السابق لسلاح الجو الإسرائيلي والمحسوب على جناح الصقور، وزيرا للدفاع، وزميله الجنرال السابق آرييل شارون وزيرا للزراعة. وكان شارون من أقوى المؤيدين لأطروحة اليمين الإسرائيلي التي تقول ان الأردن هو فلسطين، وأن هناك اصلا دولة فلسطينية في الضفة الشرقية لنهر الأردن وان الضفة الغربية يجب ان تصبح جزءا من «إسرائيل الكبرى» من خلال تسريع خطوات إقامة المستوطنات هناك. يضاف إلى ما سبق ان آرييل شارون كان واحدا من بضعة قيادات في قوات الدفاع الإسرائيلية عارضوا مساعدة الملك حسين في مواجهة التحدي الذي شكلته منظمة التحرير الفلسطينية لنظامه في أزمة سبتمبر (أيلول) 1970، فقد كان شارون يريد مساعدة منظمة التحرير الفلسطينية على إطاحة النظام الأردني وتحويله إلى دولة فلسطينية. ومن القرارات التي أثارت دهشة كثيرين تعيين بيغن موشي دايان وزيرا للخارجية. ويبدو ان واحدا من الأسباب التي دفعت بيغن إلى تعيين ديان في ذلك الموقع التأكيد على استمرار سياسة إسرائيل الخارجية. فقد يعلم بيغن جيدا انتشار المخاوف من احتمال ان يؤدي وصوله إلى الحكم في إسرائيل إلى إحداث توتر بين إسرائيل وجيرانها. وسعى بيغن إلى تبديد هذه المخاوف من خلال محاولة إعطاء انطباع بالمعقولية والمسؤولية. وبوجود الليكود ودايان في الحكومة الإسرائيلية الجديدة حلت مصر محل الأردن في سياسة إسرائيل الخارجية، فإن دايان قرر إجراء لقاء سري مع الملك حسين في لندن في 22 أغسطس (آب) 1977 بمنزل الدكتور ايمانويل هيربيرت، الذي بلغ من العمر آنذاك سبعين عاما ولم يكن في وضع صحي جيد. وكان ذلك آخر لقاء يستضيفه في منزله بين أصدقائه الأردنيين والإسرائيليين. كما انه كان آخر لقاء للملك حسين بقيادة الليكود لفترة عشر سنوات بعد ذلك. وطبقا لوصف موشي دايان لذلك اللقاء مع العاهل الأردني: «جاء الملك حسين متأخرا، وحياني مصافحا ومبتسما واعتذر عن تأخيره الذي قال انه كان بسبب ضيوف انتظرهم حتى غادروا. وجدت الملك حسين قد تغير كثيرا، ليس فقط في الشكل وإنما في الروح أيضا. لم يكن هو نفس الملك حسين الذي التقيته من قبل. لم يكن بنفس الروح والبريق السابق. حتى المواضيع السياسية التي طرحتها عليه لم يكن لها اثر عميق عليه في ما يبدو. كانت لغته مقتضبة وإجاباته قصيرة، وفي الغالب من كلمة واحدة، ونادرا ما كان يرد بأكثر من نعم أو لا، دون شرح واضح. ربما يكون اكتئابه ناجما عن الموت المأساوي لزوجته قبل شهور في حادثة سقوط هليكوبتر. وربما يكون ناجما أيضا عن قرار مؤتمر الرباط عام 1974 الخاص بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا وحيدا للشعب الفلسطيني وسحبه من ذلك الدور. قال الملك حسين انه منشغل بصورة رئيسية بإدارة الضفة الشرقية للنهر ـ مملكته الأردنية. لم يكن قادرا ولا متلهفا للاصطدام بالدول العربية أو منظمة التحرير الفلسطينية في تلك المسألة. اذا لم تكن لديهم رغبة فيه، فبوسعهم إدارة شؤون الفلسطينيين بدونه».

سأل دايان الملك حسين ما اذا كان يرغب في التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل على أساس تقسيم الضفة الغربية بين الأردن وإسرائيل. على حد اعترافه بنفسه، لم يتلق دايان ردا واضحا وجليا فحسب، بل درسا مفيدا من الملك حسين. فقد رفض العاهل الأردني الفكرة بصورة قاطعة وقال ردا على دايان انه بوصفه ملكا عربيا لا يمكن ان يقترح على سكان قرية أن يستأصلوا أنفسهم من أشقائهم العرب ويصحبوا إسرائيليين. وقال له أيضا ان مثل هذا الاتفاق سيعتبر غدرا، وسيتهم بأنه «باع» أرضا عربية لليهود بغرض توسيع مملكته. يتساءل دايان في كتابه بعنوان Moshe Dayan، Breakthrough: A Personal Account of the Egypt-Israel Peace Negotiations: «هل كان الملك حسين لا يزال ملكا للأردن أم مجرد ظل لحاكم؟ هل كان حقا يرعى ويهتم ببلده أم انه كان يقضي غالبية وقته متجولا في الخارج؟ على أية حال، موقفه تجاه موضوع نقاشنا ـ محاولة التوصل إلى ترتيب معقول ومتفق عليه لمشكلة الضفة الغربية وقطاع غزة ـ اتسم باللامبالاة فيما يبدو». يبدو ان الشعور بخيبة الأمل كان مشتركا، فالملك حسين قال حول ذلك اللقاء مع موشي دايان: «التقيت صديقي موشي دايان. كان موقفه متشددا أكثر من قبل، وكانت تلك نهاية الأمر. لم يجر بيننا اتصال على مدى فترة طويلة». لم تكن في ذلك اللقاء أي مفاجآت. فموقف الملك حسين لم يتغير منذ ان التقى دايان عندما كان وزيرا للدفاع وعضوا في حزب العمل. دايان، من جانبه، تلقى الإجابات التي كان يتوقع، وهي الإجابات التي أكدت ببساطة وجهة نظر بيغن، وهي ان الملك حسين لن يوافق على التخلي عن أي أراض لإسرائيل في الضفة الغربية وسيرفض أي احتمال لاقتسام السلطة. وكان بيغن يكرر على دايان في مختلف المناسبات عبارة الملك حسين التي وصف بها مقترح اقتسام الأرض بأنه أمر «غير مقبول تماما». إذاً، المساومة بشأن الأراضي باتت خيارا مستبعدا من جانبي إسرائيل والأردن على حد سواء. «الخيار الأردني» دُفن، الأمر الذي أعطى دايان وبيغن الحرية في استكشاف «الخيار المصري»، وتبعا لذلك ضاعف كل منهما المساعي الدبلوماسية الرامية لإقناع الرئيس المصري أنور السادات بأن إسرائيل ترغب في الشروع في مفاوضات ثنائية. استحدث الرئيس كارتر النهج الشامل بديلا للنهج التدريجي لهنري كيسنغر، وهو نهج كان مناسبا مع إسرائيل، فيما لم يكن النهج الشامل يناسب إسرائيل البتة. كان كارتر ينظر الى المشكلة الفلسطينية كونها محور النزاع في الشرق الأوسط وكان يعتقد ان من مصلحة الولايات المتحدة التوصل إلى حل بشأنها. وكان يفضل على وجه التحديد إقامة وطن للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة يكون على ارتباط بالأردن. كما انه عمل على عقد مؤتمر جنيف مجددا بمشاركة الاتحاد السوفياتي وكل أطراف النزاع، بمن في ذلك الفلسطينيون. بيغن من جانبه نفى ان يكون للفلسطينيين أي حقوق وطنية، وكان يعارض عقد مؤتمر دولي بمشاركة الاتحاد السوفياتي، كما كان يعتبر ان قراري مجلس الأمن 242 لا ينطبق على الضفة الغربية وقطاع غزة. وكان ما يريده هو عقد مفاوضات ثنائية مباشرة بين مصر وإسرائيل دون مشاركة أي أطراف عربية أخرى، خصوصا منظمة التحرير الفلسطينية، التي كان يعتبرها منظمة إرهابية. وبتسبيبه مشاكل إجرائية مستمرة نجح بيغن في عرقلة خطط كارتر لعقد مؤتمر دولي. كانت هناك مشكلة في الجانب العربي أيضا. فالأسد وحسين كانا يفضلان تمثيل العرب بوفد موحد في حال انعقاد مؤتمر جنيف مجددا، فيما كان السادات يفضل ان تكون هناك وفود منفصلة. ووافق الملك حسين على المبادرة الأميركية لعقد مؤتمر لأنه كان قائما على أساس قرارات الأمم المتحدة ولأنه كان يتضمن وعدا بتسوية شاملة وأيضا لأنه خصص دورا رئيسيا للأردن. عارضت إسرائيل مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في المؤتمر، إلا الملك حسين اقترح مشاركة فلسطينيين من غير أعضاء المنظمة كأعضاء في وفد الأردن سعيا للتأكيد على تمثيل الفلسطينيين. قام الملك حسين كذلك بجولة على عواصم الدول العربية سعيا لتشكيل جبهة موحدة. وفي القاهرة لم يكن السادات في مزاج للتشاور أو التناصح حول أي شيء. ومنذ البداية لم تكن هناك ثقة وصلات وثيقة أصلا بين الجانبين. الملك حسين عرض من جانبه على السادات الاستفادة من تجربته في التعامل مع الإسرائيليين وإطلاعه على الصعوبات التي من المحتمل ان تعترض طريقه، إلا انه لم يكن هناك رد فعل من جانب السادات. عند ذلك قال الملك حسين بصورة مباشرة للسادات إنه كان على اتصالات مع «الجيران» ودعا السادات لتوجيه أي أسئلة حول هذه الاتصالات، وهنا رد السادات قائلا انه سيباشر مسؤولياته بنفسه في هذا الجانب.

مساعي الملك حسين للتوصل إلى أرضية مشتركة مع السادات والأسد انتهت إلى لا شيء. فقد قرر السادات العمل بمفرده وفشل في إبلاغ أي من الأطراف الأخرى بشأن المبادرة السياسية الدراماتيكية التي يعتزم القيام بها. وفي 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1977 فجّر السادات مفاجأته أمام البرلمان المصري وقال: «أنا على استعداد للوصول إلى آخر الأرض من أجل السلام، وحتى إلى الكنيست نفسه». وبعد عشرة أيام قام السادات بزيارته التاريخية إلى القدس، وتخلى عن مؤتمر جنيف والنهج الرامي إلى تحقيق سلام شامل. أحدثت زيارة السادات إلى القدس فوضى وانقساما في العالم العربي. بعض القادة العرب أيد المبادرة، وعارضها آخرون، فيما آثر بعض آخر الانتظار ليرى ما يمكن ان تصبح عليه المواقف. الملك حسين كان ضمن الذين آثروا الانتظار كي يروا المواقف المترتبة على خطوة السادات. وعلى الرغم من انه فوجئ تماما بالخطوة التي أقدم عليها السادات في وقت كان يعمل فيه جاهدا لتوحيد الجهود من أجل موقف عربي موحد، فإن الملك حسين لم يقدم على إدانة خطوة السادات رغما عن الضغوط التي واجهها من الدول العربية الراديكالية ومنظمة التحرير الفلسطينية والرأي العام المحلي داخل الأردن. وفي خطاب تلفزيوني موجه إلى الشعب الأردني انتقد الملك حسين مبادرة السادات الأحادية الجانب، كما انتقد أيضا ردود الفعل العاطفية من بعض الدول العربية. وأشاد الملك حسين في كلمته بالسادات لشجاعته في التغلب على العادات والتقاليد والحواجز النفسية، لكنه أعرب عن تحفظاته تجاه شكل ومضمون المبادرة المصرية. وكانت كلمة الملك حسين الموجهة عبر التلفزيون بمثابة مناشدة للقادة العرب بضم الصفوف، وحذر قائلا ان العرب لن يستطيعوا استعادة حقوقهم اذا جاءت مساعي تحرير الأراضي العربية والتوصل إلى سلام عادل بمبادرة من جانب واحد أو جزئي أو غير ملتزمة بموقف مشترك. اللهجة المعتدلة للملك حسين تجاه مبادرة السادات عكست إلى حد ما النفوذ المتزايد للشريف عبد الحميد شرف، رئيس الديوان الملكي، في السياسة الخارجية للأردن. وهو من مواليد بغداد عام 1939 ويتحدر من الفرع العراقي للأسرة الهاشمية وعلى صلة قرابة بالملك حسين. إلا ان العلاقة بينه والملك حسين تراجعت بسبب انتماء شرف القومي العربي. وكان شرف قد انخرط في حركة القوميين العرب خلال دراسته بالجامعة الأميركية في بيروت. وفي وقت لاحق لعب الشريف زيد بن شاكر دورا رئيسيا في التوفيق بن الملك حسين وشرف وفي عودته إلى الأردن، حيث التحق بوزارة الشؤون الخارجية. وعقب حرب يونيو (حزيران) 1967 جرى تعيين شرف سفيرا للأردن لدى واشنطن، حيث بقي لفترة خمس سنوات انتقل بعدها إلى العمل في منظمة الأمم المتحدة بنيويورك. وعقب عودته إلى الأردن عام 1976 جرى تعيينه مديرا للديوان الملكي وأصبحت بعد ذلك العلاقة بينه والملك حسين وثيقة وبات يعتمد عليه في الاستشارات ويثق في حكمه على بعض الأمور. وكان شرف يعتقد في ضرورة ان تكون هناك علاقة متوازنة بين الأردن وبقية الدول العربية. وفيما كان رئيس الوزراء الأردني حينذاك، مضر بدران، يعارض بشدة المبادرة المصرية، كان يرى شرف ان رفض الأردن القاطع للمبادرة سيؤدي إلى عزل السادات وتركه عرضة للضغوط الإسرائيلية وان مصر ستعمل من جانبها على تسريع خطوات عملية تفتيت بقية الدول العربية. وغلبت نصيحة شرف في نهاية الأمر لأنها كانت منسجمة مع أسلوب الملك حسين واستراتيجيته. نجح السادات بزيارته إلى القدس في كسر الحاجز النفسي الذي كان يشكل، على حسب قوله، 90 فيد المائة من النزاع العربي ـ الإسرائيلي. وأقنع السادات غالبية الإسرائيليين بأن السلام مع العرب احتمال حقيقي ولكن يمكن تحقيقه فقط من خلال انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة. إلا ان السادات لم ينجح في اختراق الحاجز السياسي للسلام، وعلى وجه التحديد رفض حزب الليكود الانسحاب من الضفة الغربية. وفي هذا الجانب فشلت زيارة السادات، وهذا ما رفض مرارا الاعتراف به. وفي صيف عام 1978 تقدم الرئيس الأميركي جيمي كارتر بمبادرة من جانبه دعا على أساسها كلا من مصر وإسرائيل لمؤتمر سلام تحت رعاية الولايات المتحدة في منتجع كامب ديفيد الرئاسي في ميريلاند. لم يتلق الملك حسين دعوة، لكنه تسلم خطابا من الرئيس كارتر يتضمن الخطوط العريضة لخططه بشأن مبادرة السلام. ورد الملك حسين على كارتر بخطاب طويل تمنى له من خلاله النجاح وأشار فيه أيضا إلى العقبات المحتملة في هذا الطريق. بدأ الملك حسين خطابه إلى كارتر بالقول ان مبادرة السادات الشجاعة زادت من اعتقاد العرب بمعارضة اسرائيل للانسحاب من الأراضي التي احتلت بالقوة عام 1967 تحت أي ظرف من الظروف وانها لا تعتزم السماح بالوصول إلى حل معقول للمسألة الفلسطينية. وكتب الملك حسين أيضا ان الحكومة الإسرائيلية زادت من العقبات الموجودة اصلا في طريق السلام برفضها الاعتراف بأن الضفة الغربية أراض أردنية محتلة. وجاء في خطابه أيضا ان الأردن على استعداد للمشاركة بصورة ايجابية في مساعي التوصل إلى سلام، ولكن قبل الدخول في أي مفاوضات لا بد من مؤشرات واضحة ومباشرة إلى ان النتيجة ستكون انسحابا كاملا من كل الأراضي المحتلة، وتضمن الخطاب أيضا تحذيرا ضمنيا بأن أي تسوية منفردة لن تكون مقبولة من جنب الأردن وحلفائه العرب. أوردت بعض التقارير الإخبارية في الصحافة الأميركية ان الأردن رفض الدعوة للمشاركة في قمة كامب ديفيد. تلك التقارير لم تكن صحيحة، لكنها ربما تكون نابعة من تقلبات موقف الملك حسين عشية القمة عندما بدا انه غير رافض للدعوة، لكنه مصر على جعلت مسألة مشاركته أمرا صعبا. استمرت قمة كامب ديفيد 13 يوما ابتداء من 5 حتى 17 سبتمبر (أيلول)، وبقي الملك حسين خلال تلك الفترة في العاصمة البريطانية وهو يشعر بأنه استبعد منها، لكنه كان يتابع تطوراتها بقلق. وتصادف خلال تلك الفترة وجود اشرف مروان، وهو رجل أعمال مصري ثري، صهر جمال عبد الناصر وعلى علاقة وثيقة بالسادات. طلب الملك حسين مقابلة أشرف وأبلغه في سرية تامة رغبته في المشاركة في قمة كامب ديفيد وطلب منه ان يبلغ السادات بذلك. سافر مروان إلى واشنطن وتحث مع واحد من كبار مستشاري السادات ثم عاد إلى لندن ليبلغ الملك حسين برد سلبي. لم يكن السادات يرغب في وجود الملك حسين في القمة، لأنه لا يشعر تجاهه بالارتياح من ناحية، وكان لا يثق فيه من الناحية الأخرى. إلا ان الأمر الأكثر أهمية هو ان السادات كان يعتقد ان وجود الملك حسين في كامب ديفيد سيعقّد العملية ويقفل الطريق أمام أي تقدم. كان السادات يدرك أيضا ان الملك حسين سيطرح مسألة تقرير مصير الفلسطينيين ويصر على التوصل إلى تسوية شاملة للنزاع. وعندما سأل السكرتير الخاص لمناحيم بيغن السادات عن السبب وراء رفضه لحضور الملك حسين القمة، رد السادات ببساطة قائلا: «لأن الملك حسين اذا وصل إلى كامب ديفيد، فلن نتوصل إلى أي اتفاق».

غدا:

* شعر الملك حسين بغضب بالغ واعتقد أن السادات قد خدعه متعمدا

* قمة بغداد بداية لعلاقة صداقة شخصية وثيقة وشراكة مع صدام حسين


أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة العاشرة) ـ الملك حسين غضب واعتبر أن السادات خدعه متعمدا

رد فعل واشنطن جاء شرسا على رفض الأردن لاتفاقيات كامب ديفيد.. وإدارة كارتر كثفت ضغوطها

الملك حسين يتوسط الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر وشاه إيران الراحل
لندن: «الشرق الاوسط»
في اليوم العاشر لمفاوضات كامب ديفيد المصرية ـ الاسرائيلية اتصل الملك حسين، بتشجيع من رجل الاعمال المصري اشرف مروان، بالرئيس الراحل انور السادات هاتفيا في المنتجع الرئاسي بكامب ديفيد. وأبلغ السادات الملك حسين خلال تلك المكالمة بأن المفاوضات تعثرت فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وانه يشعر بالإحباط ومن المحتمل ان يحزم حقائبه عائدا إلى مصر. وهنا حيا الملك حسين السادات على محاولته وشجعه على التمسك بموقفه وتحميل مسؤولية الفشل للمتسببين فيه. أجرى الملك حسين كذلك ترتيبات بغرض التقاء السادات في المغرب في طريق عودته من الولايات المتحدة ووعده بمرافقته في جولة على عواصم الدول العربية لإطلاع زعمائها ومسؤوليها بما حدث.

وبعد ثلاثة أيام فقط علم الملك حسين من تقرير بثته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) ان اتفاقا تم التوصل إليه في كامب ديفيد. شعر الملك حسين بغضب بالغ، واعتقد ان السادات خدعه متعمدا، وبدلا من التوجه إلى المغرب عاد الملك حسين إلى الأردن. وفي حلقة اليوم من كتاب «اسد الاردن» الذي سينزل الى الاسواق قريبا باللغة الانجليزية، وتنفرد «الشرق الاوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر «بنغوين» ومؤلفه آفي شليم المؤرخ والاستاذ في جامعة اكسفورد، تفاصيل المواقف الاردنية حول الاتفاق المصري ـ الاسرائيلي وضغوط ادارة الرئيس الاميركي الاسبق جيمي كارتر وقمة بغداد.

لم يكن السادات يرغب في حدوث خلاف بينه والملك حسين. فالسادات كان يرى ان تأييد العاهل الأردني من المحتمل ان تكون له قيمة في مواجهة المعارضة العربية المؤكدة للتوصل إلى سلام جزئي مع إسرائيل، فضلا عن ان السادات كان في حاجة إلى واجهة شرعية. بمعنى آخر، لم يكن السادات يرغب في ان يلعب الملك حسين دورا في محادثات السلام وإنما فقط كي يضفي بعض الشرعية على عملية ينظر إليها العرب كونها اتفاقيه مشبوهة. وكان السادات يعتمد في هذا الجانب على ان الضغوط المصرية ـ الأميركية لن تترك أمام الملك حسين من خيار سوى الانخراط وراءهما. بصورة عامة، كانت للسادات وجهة نظر سلبية تجاه الحكام العرب. وفي لقائه مع المسؤولين الأميركيين كثيرا ما قلل السادات من شأن الملك حسين، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى تجاهل تحذيراته بشأن إبرام أي اتفاق سلام منفصل. القدس، وحقوق الفلسطينيين، ومستقبل المستوطنات في الضفة الغربية، كانت من أكثر القضايا الشائكة في محادثات كامب ديفيد. وأوردت وسائل الإعلام ان التفاوض بشأن كل هذه القضايا وصل إلى طريق مسدود. وفي 14 سبتمبر، وعلى وجه التحديد في اليوم العاشر للمفاوضات، اتصل الملك حسين، وبتشجيع من اشرف مروان، بالسادات هاتفيا في المنتجع الرئاسي بكامب ديفيد. وأبلغ السادات الملك حسين خلال تلك المكالمة بأن المفاوضات تعثرت فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، انه يشعر بالإحباط وان من المحتمل ان يحزم حقائبه عائدا إلى مصر. وهنا حيا الملك حسين السادات على محاولته وشجعه على التمسك بموقفه وتحميل مسؤولية الفشل للمتسببين فيه. أجرى الملك حسين كذلك ترتيبات بغرض التقاء السادات في المغرب في طريق عودته من الولايات المتحدة ووعده بمرافقته في جولة على عواصم الدول العربية لإطلاع زعمائها ومسؤوليها بما حدث.

وفي واقع الأمر عرض الملك حسين على السادات مساعدته في معالجة الانقسام الذي حدث واستعادة موقعه في العالم العربي. وبعد ثلاثة أيام فقط علم الملك حسين من تقرير بثته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) ان اتفاقا تم التوصل إليه في كامب ديفيد. شعر الملك حسين بغضب بالغ واعتقد ان السادات خدعه متعمدا، وبدلا من التوجه إلى المغرب عاد الملك حسين إلى الأردن. تضمن اتفاق كامب ديفيد جزءين، الأول عبارة عن إطار لاستكمال معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وترتكز المعاهدة على أربعة مبادئ، هي انسحاب إسرائيلي كامل من سيناء والاعتراف بسيادة مصر على أراضيها وجعل غالبية سيناء منطقة منزوعة السلاح وإرسال قوات تابعة لمنظمة الأمم المتحدة للإشراف على نزع السلاح وضمان حرية الملاحة في خليج وقناة السويس والتطبيع الكامل للعلاقات بين مصر وإسرائيل. ويشتمل الجزء الثاني من الاتفاق على إطار للسلام في الشرق الأوسط، وهو يتعلق بالقضية الفلسطينية. ويشتمل هذا الجزء على انتخاب ممثلين فلسطينيين للتفاوض مع إسرائيل حول تأسيس حكم ذاتي محلي محدود في الضفة الغربية وقطاع غزة. وعلى الرغم من ان هذا الاتفاق كان قائما على أساس قرار مجلس الأمن رقم 242، فإنه لم يحسم مسألة انسحاب إسرائيل وتركها لمفاوضات «الوضع النهائي» بعد فترة انتقالية للحكم الذاتي تكون السيطرة العسكرية خلالها لإسرائيل. لم يرد في ذلك الاتفاق أي ذكر لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولا تقرير المصير للفلسطينيين، ولا أي اتفاق على التزام بانسحاب إسرائيل فيما عدا سيناء، ونتيجة لذلك قوبل اتفاق كامب ديفيد برفض فوري من جانب منظمة التحرير الفلسطينية وسورية ودول عربية أخرى. كان الملك حسين في حالة صدمة عندما قرأ نص الاتفاق، خصوصا في ضوء التأكيدات التي تلقاها من السادات قبل ثلاثة أيام فقط. وبذلك أصبح واقعاً كابوسُ توصل مصر إلى اتفاق سلام منفصل مع إسرائيل. استبعد الفلسطينيون والأردنيون وأصبح العالم العربي في حالة من الفوضى والارتباك. كان الملك حسين يخشى من أن يؤدي اعترافه بالاتفاق الذي توصل إليه السادات إلى إفساد العلاقات مع الفلسطينيين وبقية العالم العربي. كان يشعر بالإهانة إزاء الطريقة الفجة التي حاولت الولايات المتحدة من خلالها جعله جزءا من العملية، ورفض إعطاء شرعية للاحتلال الإسرائيلي أو لعب دور الشرطي التابع لإسرائيل في الضفة الغربية. وشعر باستياء خاص تجاه افتراض أن الأردن يمكن ان يلعب الدور الذي رسم له في وثيقة كامب ديفيد. فقد ورد اسم الأردن ما لا يقل عن 14 مرة في جزء الاتفاقية تحت عنوان «إطار للسلام في الشرق الأوسط» من دون مشاورة الأردن بشأن الدور الذي حدده له الذين صاغوا الوثيقة. وأكد الملك حسين وحكومته مرارا أن الأردن غير ملتزم قانونيا أو أخلاقيا بأي اتفاق لم يشارك في صياغته، مشددين على ان الأردن سيتسمر في الإصرار على الانسحاب الإسرائيلي من كل الأراضي المحتلة وعلى حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. شعر الملك حسين بأن السادات خدعه، إلا ان تسلسل الأحداث باتجاه نهاية قمة كامب ديفيد يدل على ان بيغن هو الذي خدع جميع المشاركين الآخرين.

ففي صباح الجمعة 15 سبتمبر أبلغ السادات وزير الخارجية الأميركي سايروس فانس بأنه سيغادر القمة عائدا إلى بلده لأنه لا يرى أي أمل في التوصل إلى اتفاق، إلا ان كارتر نجح في إقناع السادات بالبقاء والاستمرار في المفاوضات. وفي مساء السبت التقى كارتر وسايروس فانس وبيغن وكبار مستشاريه لمدة ست ساعات وشعروا بأنهم حققوا تقدما رئيسيا، وبدأ بيغن في كتابة خطاب إلى كارتر بغرض إعلان مضمونه، وأكد في الخطاب وقف إسرائيل لبناء أي مستوطنات جديدة خلال الفترة الانتقالية المحددة بخمس سنوات للحكم الذاتي الفلسطيني. وكان هذا الالتزام من جانب بيغن كعامل رئيسي لإقناع السادات بالتوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد في واشنطن يوم الأحد 17 سبتمبر 1977. وصل خطاب بيغن يوم الاثنين واكتشف ان ما جاء فيه حول المستوطنات يتضمن تحديد تأجيل بناء المستوطنات الجديدة لفترة ثلاثة أشهر، وهي فترة المفاوضات حول السلام بين مصر وإسرائيل. كانت ملاحظات كارتر واضحة ومحددة وتلخصت في تجميد بناء المستوطنات إلى حين استكمال كل المفاوضات، وأكد سايروس فانس على هذا التفسير. وهنا قال بيغن انه لا بد ان يكون قد حدث نوع من سوء الفهم. ولكن لم يكن هناك أي سوء فهم، فقد تصرف على نحو يفتقر إلى قواعد الأمانة والشرف. شعر كارتر بغضب بالغ تجاه بيغن ووصفه بأنه «معتوه». فتجميد بناء المستوطنات في الضفة الغربية كان بمثابة واحد من التنازلات التي ربما أقنعت العرب بجدية الولايات المتحدة في التوصل إلى سلام عادل. وبسحبه لهذا التنازل يكون بيغن قد ألحق ضررا بالغا بالموقف الأميركي في نظر العالم العربي، فحتى العرب الأكثر اعتدالا والمؤيدون للولايات المتحدة أحجموا عن الاعتراف بالاتفاق المنقوص الذي وقعته مصر. على الرغم من ذلك عملت الولايات المتحدة بجدية للحصول على تأييد السعودية والأردن. فقد أورد كارتر في مذكراته انه اتصل بالملك حسين في عمان وعلم انه يتعرض لضغوط من بعض الدول العربية كي يرفض لعب أي دور في المفاوضات المقبلة حول تطبيق اتفاقيات كامب ديفيد. وأورد كارتر أيضا انه شرح للفلسطينيين والملك حسين فوائد الاتفاق، ووعد الملك حسين، على مضض، بعدم اتخاذ أي قرار أو بقطع التزام رسمي إلى حين الإطلاع المفصل على وثائق الاتفاقيات، ولكن لم ترد في مذكرات كارتر أي معلومات حول الخطاب الذي أرسله له الملك حسين في 27 أغسطس (آب) محذرا إياه من النتائج التي يجري توصل إليها في نهاية الأمر. وبمجرد انتهاء المفاوضات أرسل كارتر سايروس فانس إلى الأردن والمملكة العربية السعودية بغرض الحصول على التأييد اللازم للاتفاقيات، غير ان زبيغنيو بريزينيسكي، مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي كان له رأي آخر. فقد تدخل عقب انتهاء المفاوضات وتبنى لهجة تهديد وتخويف، وقال إن صاحب الحاجة لا قرار له في اختيار ما يحتاج. وتجاهل بريزينيسكي تحذيرات وزارة الخارجية الأميركية من ان الأردن والسعودية سيحتاجان إلى بعض الوقت لقبول الوضع الجديد، كما انه ضلل الصحافة الأميركية بتصريحات زعم فيها ان الدولتين أبدتا معارضة اسمية قبل الانضمام في محادثات موسعة. لهجة الانتصار لدى وسائل الإعلام الأميركية جاءت في غير صالح سايروس فانس خلال زيارته إلى منطقة الشرق الأوسط. فقد كان كل من الملك حسين وولي العهد السعودي وقتها الأمير فهد بن عبد العزيز يشعران بالغضب تجاه السادات لأنه تعهد لهما بالتزام واضح بالتفاوض من أجل تسوية شاملة يشارك فيها بقية العرب، بمن في ذلك الفلسطينيون، أو يؤيدونها على الأقل. أبلغ كل من الملك حسين والأمير فهد سايروس فانس بأن غالبية الدول العربية هاجمت السادات وان القادة الفلسطينيين ليسوا على استعداد للمشاركة في المفاوضات الخاصة بالحكم الذاتي. وقالا له إن السادات قد خذلهما بإبرامه اتفاقا منفصلا مع إسرائيل مقابل إعادة سيناء إلى مصر. سايروس فانس رد من جانبه قائلا ان ترتيبات الحكم الذاتي ربما تقود في نهاية الأمر إلى حق تقرير المصير للفلسطينيين. يضاف إلى ذلك ان الملك حسين والأمير فهد شككا في ان تلتزم إسرائيل بشروط وروح الاتفاقية. وفي نهاية النقاش المطول ابلغ الملك الحسين سايروس فانس بأن لديه أسئلة إضافية يريد إجابات عليها قبل إعطاء رده الذي وعد بإرساله بعد وقت قصير. ساد التردد بين غالبية مستشاري الملك حسين إزاء الانخراط في مفاوضات كامب ديفيد. فمن ناحية، كانوا لا يريدون الإضرار بالعلاقات مع الولايات المتحدة، كما انهم كانوا يشعرون في نفس الوقت بان الانضمام إلى كامب ديفيد ربما يسفر عن مخاطر سياسية وشخصية غير مقبولة على الملك حسين، أكبرها الانضمام إلى جانب السادات والخروج في نهاية الأمر صفر اليدين، وكان الملك حسين ومستشاروه يدركون جيدا ان ما يحدث هو عملية تتألف من مراحل، لكنهم كانوا يريدون التأكد من النتائج النهائية قبل ابتداء الرحلة. على وجه التحديد كان مستشارو العاهل الأردني في حاجة إلى التأكد من ان النتيجة النهائية ستكون تسوية سلمية تنتهي بانسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة. واصدر الملك حسين قرارا بتشكيل لجنة من خمسة مسؤولين، برئاسة الشريف عبد الحميد شرف، لصياغة الأسئلة التي تحتاج إلى رد من جانب الإدارة الأميركية، وأعدت اللجنة 14 سؤالا يتعلق معظمها بتفسير الإدارة الأميركية لاتفاقيات كامب ديفيد والدور الأميركي في تطبيقها. وقع الرئيس كارتر بنفسه على الإجابات وأرسلها إلى هارولد سوندرز، مساعد وزير الخارجية، لتوصيلها إلى الملك حسين في 16 أكتوبر (تشرين الأول). جاء في الإجابات ان تفسير الولايات المتحدة على قرار مجلس الأمن 242 لم يتغير منذ عام 1967، كما تضمنت الإجابات إيضاحات لوجهات نظر واشنطن تجاه قضايا محددة متضمنة في اتفاقيات كامب ديفيد، بيد ان الإجابات لم تشتمل على أي من الضمانات التي كان يسعى إليها الأردن. لم تكن هناك، على سبيل المثال، إشارة إلى ان إدارة الرئيس كارتر على استعداد لممارسة ضغوط على إسرائيل مثل الضغوط التي تمارسها على العرب. وجاء في الوثيقة ان كل القضايا الشائكة يجب ان يجري التوصل إلى حل بشأنها من خلال مفاوضات مباشرة بين الأطراف نفسها. يضاف إلى ما سبق ان الردود الأميركية لم تتضمن أي إشارة إلى عدم التوازن بين الأطراف المعنية. وأجمع مستشارو الملك حسين على أن إجابات واشنطن مبهمة وغير مقنعة وتفتقر إلى إبداء أي التزام من جانب الولايات المتحدة. قضى سوندرز ساعات مع مستشاري الملك حسين وعقد اجتماعين مع الملك نفسه، الذي ابلغ سوندرز بأن الأردن لا يستطيع المشاركة في المفاوضات الخاصة بتطبيق بنود اتفاقيات كامب ديفيد بدون تأييد من الجانبين الفلسطيني والسعودي. والتقى سوندرز أيضا قادة الضفة الغربية لكنه لم يستطع الحصول على تأييد لمشاركة أردنية. توجه سوندرز بعد ذلك إلى المملكة العربية السعودية لكنه لم يكن أفضل حظا من سايروس فانس. وجه سوندرز سؤالا مباشرا إلى ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز مستفسرا إياه حول ما إذا كانت السعودية ستؤيد الأردن في حال إعلان الملك حسين تأييده لاتفاقيات كامب ديفيد، إلا أن الأمير فهد لم يرد على سوندرز بإجابة قاطعة، ثم غيّر موضوع الحديث. عاد سوندرز مرة أخرى إلى عمان للقاء الملك حسين واعترف بفشل مهمته. على الرغم من كل هذه الإحباطات لم يكن الملك حسين يرغب في استبعاد كل احتمالات المناقشة في المستقبل. وجاء في مذكرات كارتر انه لم يتلق إجابة قاطعة من الملك حسين، الذي ترك احتمالات مشاركة الأردنيين أو الفلسطينيين مفتوحة حسبما تم الاتفاق عليه في كامب ديفيد، لكنه لم يبد أي نوع من الالتزام. وفي مناقشات على الصعيد الشخصي والخاص استخدم كارتر لغة اقل دبلوماسية ووصف الملك حسين بأنه ملك ضعيف لدولة ضعيفة. كان الأردن يعتمد بصورة كبيرة على مساعدات دول الخليج العربي، لذا سيكون هناك ثمن اقتصادي لخروجه على الإجماع العربي. يضاف إلى ذلك ان الخطر العسكري من كل من العراق وسورية على الحكم الهاشمي في الأردن سيزداد في حالة الخروج على الإجماع العربي، فضلا عن الخطر الذي سيتهدد الاستقرار الداخلي للأردن في حال تحدي الأردن قرار قمة الرباط وإثارة غضب النازحين الفلسطينيين في الأردن. في ظل تلك الأوضاع آثر الملك حسين التقارب مع العرب الرافضين لاتفاقيات كامب ديفيد، وقبل الدعوة للمشاركة في قمة عربية في بغداد استبعدت مصر منها. لم تكن بغداد المكان الأنسب من بين كل العواصم العربية لزيارة الملك حسين، ذلك ان بغداد هي المدينة التي شهدت طرد الأسرة الهاشمية بصورة عنيفة قبل حوالي عشرين عاما من ذلك الوقت. وكانت تلك أول زيارة للملك حسين إلى بغداد منذ عام 1958. اتخذت السلطات العراقية كل الخطوات اللازمة كي يشعر الملك حسين بأنه محل ترحيب وحفاوة، وأرسل مسؤولو حزب البعث إلى المقابر الملكية لقطع الحشائش التي نمت بغزارة حول قبور أفراد الأسرة الهاشمية تحسبا لاحتمال زيارة الملك حسين لها خلال أيام مشاركته في القمة. تحدث الملك حسين في القمة ووضع الأردن في قلب الإجماع العربي الجديد، وتقدم بإطار لعمل عربي مشترك لحماية العالم العربي في مواجهة التوسع الإسرائيلي ولتأمين استعادة الأراضي العربي المحتلة. وأكد العاهل الأردني ضرورة حشد الدول العربية لكل مواردها وإمكانياتها لمواجهة الخطر المشترك. قررت قمة بغداد تعليق عضوية مصر ونقل المقر العام لجامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس. كما اعلنت القمة ان اتفاقيات كامب ديفيد مناقضة لقرارات قمة الرباط، وأكدت تأييدها لمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد للشعب الفلسطيني، فضلا عن تصويتها لصالح مواصلة الدعم المالي لمدة عشر سنوات لكل من سورية والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، وخصص للأردن ثلث هذه المساعدات (1250 مليون دولار على مدى 10 سنوات). وكان ذلك الدعم من جانب الدول العربية المنتجة للنفط للجبهة الشرقية يهدف إلى إعادة توازن القوى الذي سببه خروج مصر. كانت قمة بغداد بمثابة بداية لعلاقة صداقة شخصية وثيقة وشراكة سياسية بين الملك حسين وصدام حسين، نائب الرئيس العراقي الشاب في ذلك الحين. وكان صدام حينها الرجل القوي في نظام حزب البعث، وتسلم الرئاسة بعد ذلك من أحمد حسن البكر. لعب صدام حسين دورا رئيسيا في إقناع الدول العربية الثرية في تقديم مساعدات مالية لبقية دولة المواجهة التي تجمعها حدود مشتركة مع إسرائيل. وأبدى الملك حسين إعجابا بالنائب الشاب النشط للرئيس العراقي وببلاغته في الحديث حول الحاجة إلى وحدة بين الدول العربية والتأكيد على مسؤوليتها الجماعية في التأكد من عدم وجود عربي جائع. صدام حسين من جانبه تعامل مع جاره الملك حسين بتهذيب ولطف بالغين، وأبدى تفهما كاملا وتعاطفا مع محنته. وشأن بقية أفراد الأسرة الهاشمية نظر الملك حسين إلى العراق بمزيج من الإعجاب والنفور. الإعجاب بثروة وقوة العراق، والنفور بسبب المذبحة البشعة لأقربائه عام 1958. وفي نهاية الأمر رجحت الصداقة الوليدة بين الملك حسين والزعيم العراقي الكفة في صالح الإعجاب وساعدته على تجاوز الذكريات المريرة للماضي. جاء رد فعل واشنطن شرسا على رفض الأردن لاتفاقيات كامب ديفيد، وكثفت إدارة كارتر الضغوط على الأردن بغرض إجباره على تغيير موقفه والانضمام إلى مفاوضات كامب ديفيد. قطعت واشنطن مساعداتها للأردن ونصحت حلفاءها في منطقة الخليج بعدم مساعدة الأردن. واجه الأردن أيضا صعوبات في الحصول على منح من البنك الدولي لدعم مشاريع التنمية، بل واجه الأردن خلال فترات عدم توفر السيولة لدفع رواتب الجيش. وفي مارس 1979 زار زبيغنيو بريزينيسكي عمان وهدد بفرض قيود على إمدادات السلاح للأردن إذا لم يغير موقفه تجاه عملية السلام التي دعمتها الولايات المتحدة. واعتقد المسؤولون الأردنيون ان الولايات المتحدة ربما لا توفر الحماية للأردن في وجه أي هجوم من إسرائيل مستقبلا. اتهم الملك حسين الولايات المتحدة بازدواجية المعايير في تشجيعها المقاومة الإسلامية ضد الغزو السوفيتي لأفغانستان، وتصويرها ـ في نفس الوقت ـ الفلسطينيين كمجرمين بسبب مقاومتهم لاحتلال أرضهم من جانب إسرائيل، ووصلت العلاقات بين واشنطن وعمان إلى أدنى مستوى لها لأول مرة. قرر كارتر خفض المساعدات الأميركية للأردن من 40 مليون دولار عام 1978 إلى 20 مليون دولار عام 1980، وتجاهلت الولايات المتحدة طلب الأردن طائرات F-16. علاوة على ذلك أجاز مجلس النواب الأميركي مشروع قرار مساعدات عسكرية بحرمان الأردن من أي مساعدات إلى ان يلعب الدور المحدد له في اتفاقيات كامب ديفيد، واعتبرت عمان مشروع القرار المذكور ابتزازا. فرضت الولايات المتحدة أيضا الكثير من الشروط على طلب الأردن شراء 300 دبابة M60A3، مما اضطر الملك حسين إلى شراء 274 دبابة بريطانية من طراز Chieftainبمساعدة من المملكة العربية السعودية. تراجعت العلاقات الشخصية بين الملك حسين وكارتر، ووصف الأخير الملك حسين بأنه «أضعف من ان يعتمد عليه» في عملية السلام. وفي 17 يونيو (حزيران) 1980 زار العاهل الأردني واشنطن لإجراء محادثات مع كارتر، وشرح له أهمية الأسلحة التي حرم منها الكونغرس الأردن على الرغم من كونه عرضة للمخاطر. وكرر الملك حسين مجددا خلال محادثاته مع كارتر اعتراضه على اتفاقيات كامب ديفيد، مؤكدا الحاجة إلى عقد مؤتمر دولي تحت رعاية الأمم المتحدة يؤكد تمثيل الفلسطينيين ويعالج مسألة تقرير المصير لهم. دارت عملية السلام برمتها حول التوتر بشأن التسوية النهائية والتسوية المنفصلة. الاتفاقيات التي جرى التوصل إليها في نهاية المطاف بكامب ديفيد تعارضت مع المبادئ الأساسية للأردن في مجال السياسة الخارجية. وكان الملك حسين يدرك ان مصر وإسرائيل تحتلان مرتبة أعلى من الأردن في قائمة حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. لكنه شعر بأن جيمي كارتي، في خضم سعيه جاهدا لتحقيق نجاح في مجال السياسة الخارجية، أجبر العرب على دفع ثمن تعصب إسرائيل.

* غدا: الملك حسين قال لأبو عودة: ألا تعتقد أن الوقت جاء لفك الارتباط بالضفة الغربية ؟


أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة الحادية عشرة) ـ «البيان العاشر» دفع الملك حسين نحو فك الارتباط بالضفة الغربية

الانتفاضة الفلسطينية تحولت إلى تأكيد لتأييد منظمة التحرير واتخذت بسرعة بعدا مناوئا للأردن

لندن: «الشرق الأوسط»
اصبح الاردن، نتيجة للانتفاضة الفلسطينية والنتائج التي ترتبت عليها في إسرائيل، مضطرا لإعادة النظر في وضعه في الضفة الغربية ودوره في عملية السلام في الشرق الأوسط. فنفوذ الأردن في الأراضي المحتلة ظل في تدهور مستمر خلال العقدين اللذين سبقا اندلاع الانتفاضة، وشكل هذا التصاعد المفاجئ للحس الوطني الفلسطيني انتكاسة أخرى للأردن، بل انه رجح كفة منظمة التحرير الفلسطينية في الصراع على السلطة بينها والنظام الملكي الأردني. وكانت البيانات تؤكد بصورة واضحة أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الوحيد للفلسطينيين وأن الملك حسين لم يكن لديه تفويض للتحدث باسمهم. ومن ضمن النتائج الأخرى للأوضاع التي استجدت في ذلك الحين في الضفة الغربية زيادة التأييد في أوساط اليمين الإسرائيلي لفكرة خطيرة مؤداها تحويل الأردن إلى وطن بديل للشعب الفلسطيني. وفي حلقة اليوم من كتاب «أسد الاردن» الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه قبل نزوله الى الاسواق باللغة الانجليزية بالاتفاق مع دار نشر «بنغوين» ومؤلفه المؤرخ والبروفسور في جامعة اكسفورد آفي شليم، الأجواء التي سبقت وصاحبت قرار الاردن بفك الارتباط مع الضفة الغربية عام 1988 وقمة الجزائر التي وجد فيها الاردن نفسه في موقف دفاع.

أشعلت شرارة الانتفاضة الفلسطينية حادثة متعمدة فيما يبدو قتل فيها سائق شاحنة إسرائيلي في 9 ديسمبر (كانون الأول) أربعة فلسطينيين من سكان مخيم جباليا، اكبر مخيمات اللاجئين بقطاع غزة. تسببت الحادثة في اندلاع احتجاجات في مخيم جباليا وبقية قطاع غزة وانتقلت إلى الضفة الغربية. وخلال بضعة أيام فقط اجتاحت شوارع مدن الأراضي المحتلة مظاهرات احتجاج وإضرابات على مستوى غير مسبوق، كان حجم المشاركة الشعبية فيها بصورة لم يسبق لها مثيل، فقد شارك في تلك المظاهرات آلاف المدنيين، بمن في ذلك النساء والأطفال. واستخدمت القوات الإسرائيلية من جانبها كل وسائل تفريق التجمعات من هراوات وغازات مسيلة للدموع وخراطيم المياه والأعيرة المطاطية والذخيرة الحية، إلا ان الاحتجاجات اكتسبت زخما متزايدا. اندلعت الانتفاضة بصورة تلقائية تماما، ولم يكن هناك تحضير أو تخطيط لها بواسطة النخبة الفلسطينية المحلية أو منظمة التحرير الفلسطينية، التي سارعت إلى الانضمام إلى موجة الاحتجاجات الشعبية ضد الحكم الإسرائيلي والى لعب دور قيادي إلى جانب «القيادة الوطنية الموحدة» التي تشكلت حديثا في ذلك الوقت. ولكن في نفس الوقت لم تكن الانتفاضة قد اندلعت بدون أسباب أو انطلقت من فراغ. فقد كانت مخيمات اللاجئين تعاني من الفقر وبؤس الأوضاع المعيشية، بالإضافة إلى كره الاحتلال، وأكثر من ذلك، الذل الذي كان يعانيه الفلسطينيون خلال فترة العقدين السابقين للانتفاضة. أهداف الانتفاضة لم تعلن منذ البداية، لكنها ظهرت خلال سير الأحداث والتطورات، وكان في مقدمتها تقرير المصير وتأسيس دولة فلسطينية مستقلة. وفي هذا السياق يمكن النظر إلى الانتفاضة كونها حرب تحرير. كانت للانتفاضة الفلسطينية آثار واسعة ومتعددة على الأردن. فقد بدأت كتمرد ضد الحكم الإسرائيلي، لكنها تحولت إلى تأكيد لتأييد منظمة التحرير الفلسطينية واتخذت على وجه السرعة بعدا مناوئا للأردن. وعلى الرغم من ان أمن الأردن لم يتأثر بصورة مباشرة، فقد كان هناك خطر واضح من احتمال اتساع رقعتها بامتداد شرارتها من الضفة الغربية لنهر الأردن إلى ضفته الشرقية. نفوذ الأردن في الأراضي المحتلة ظل في تدهور مستمر خلال العقدين اللذين سبقا اندلاع الانتفاضة، وشكل هذا التصاعد المفاجئ للحس الوطني الفلسطيني انتكاسة أخرى للأردن، بل انه رجح كفة منظمة التحرير الفلسطينية في الصراع على السلطة بينها والنظام الملكي الأردني. فعقب حرب لبنان خسرت منظمة التحرير الفلسطينية في مواجهة الأردن، إلا أن الانتفاضة قلبت هذا الوضع. الملك حسين كان يرى من جانبه ان قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي تم فرضها بقرار اتخذته جامعة الدول العربية على الفلسطينيين، خلافا لرغبتهم، أمر لم يعد بالإمكان استمراره. إلا ان البيانات نصت بصورة واضحة على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الوحيد للفلسطينيين وأن الملك حسين لم يكن لديه تفويض للتحدث باسمهم. ومن ضمن النتائج الأخرى للأوضاع التي استجدت في ذلك الحين في الضفة الغربية زيادة التأييد في أوساط اليمين الإسرائيلي لفكرة خطيرة مؤداها تحويل الأردن إلى وطن بديل للشعب الفلسطيني. ويمكن القول إنه نتيجة للانتفاضة والنتائج التي ترتبت عليها في إسرائيل، بات الأردن مضطرا لإعادة النظر في وضعه في الضفة الغربية ودوره في عملية السلام في الشرق الأوسط. أسفرت الانتفاضة أيضا عن إعادة واشنطن تقييم سياستها تجاه النزاع العربي ـ الإسرائيلي، واعترفت واشنطن في نهاية عام 1988 بمنظمة التحرير الفلسطينية طرفا شرعيا في محادثات السلام، وظهر في ذلك الوقت تحول ملحوظ على كل المستويات في أوساط الرأي العام الأميركي من تأييده التقليدي لإسرائيل إلى التعاطف مع الفلسطينيين. وللمرة الأولى، منذ حرب لبنان، دفع ذلك التحول قادة أميركيين يهودا لطرح تساؤلات حول الحكمة وراء سياسات إسرائيل والجانب الأخلاقي للوسائل التي تستخدمها. وعلى صعيد الدوائر الحكومية كانت هناك مخاوف من ان تترتب على ارتباط الولايات المتحدة الوثيق بإسرائيل نتائج سلبية تنعكس على المصالح الأميركية في مختلف مناطق الشرق الأوسط. يضاف إلى كل ذلك ان خطة الملك حسين وبيريس الخاصة بعقد مؤتمر دولي تعثرت بسبب معارضة حزب الليكود من جهة وبسبب سلبية الولايات المتحدة من الجهة الأخرى. وبتزايد الزخم الذي أوجدته الانتفاضة الفلسطينية تدخل جورج شولتز بصورة شخصية، وظهرت نتيجة ذلك أول مساع أميركية رئيسية لحل النزاع العربي ـ الإسرائيلي لأول مرة منذ خطة الرئيس ريغان عام 1982. وطرح شولتز علنا في 4 مارس 1988 ما بات يطلق عليه «مبادرة شولتز» التي نادت بحكم ذاتي فلسطيني على غرار اتفاقيات كامب ديفيد، لكنها تضمنت ضرورة ان يكون هناك قيد زمني. ثمة عنصر جديد في تلك المبادرة تلخص في المطالبة بالربط بين المحادثات حول الفترة الانتقالية للحكم الذاتي والمحادثات حول الوضع النهائي. وكان الغرض من ذلك إعطاء ضمانات للفلسطينيين في مواجهة المماطلة من الجانب الإسرائيلي على أمل إحراز تقدم سريع على أساس أربعة جوانب مهمة. أولا، دعوة الأمين العام للأمم المتحدة لجميع أطراف النزاع العربي ـ الإسرائيلي، بالإضافة إلى الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، لعقد مؤتمر دولي، على ألا تكون لذلك المؤتمر سلطة في فرض الحلول على أطراف النزاع أو الاعتراض على اتفاق تتوصل إليه هذه الأطراف. ثانيا، بدء المفاوضات بين الجانبين الإسرائيلي والأردني ـ الفلسطيني في أول مايو (أيار) وانتهائها في أول نوفمبر (تشرين الثاني). ثالثا، بدء الفترة الانتقالية بعد ثلاثة أشهر واستمرارها ثلاث سنوات. رابعا، بدء المفاوضات حول الوضع النهائي قبل بدء الفترة الانتقالية واستكمالها خلال فترة عام. بمعنى آخر، بدء المفاوضات حول الحل النهائي بغض النظر عن نتيجة المرحلة الأولى من المفاوضات. أيد بيريس «مبادرة شولتز» وأعلن ذلك رسميا، وكذلك فعل الرئيس حسني مبارك، وكرر الفلسطينيون مطالبتهم بأن الجهة الوحيدة المعنية بأي أمر يهم الفلسطينيين هي منظمة التحرير الفلسطينية في تونس. رفض اسحق شامير فكرة المؤتمر الدولي ورفض الربط بين الفترة الانتقالية للحكم الذاتي للفلسطينيين والمحادثات حول الوضع النهائي، وقال أيضا إنه على استعداد للتفاوض حول السلام مع الملك حسين وأي فلسطينيين يصطحبهم معه، لكنه أكد انه غير مستعد للتنازل عن أي أراض مقابل السلام. تقبل الملك حسين مبادرة شولتز بعقل منفتح ووافق على المبدأ العام، الأمر الذي زاد من أمل وزارة الخارجية الأميركية في اقتناعه بالمساهمة في الخطة. إلا ان رد فعل المسؤولين في دوائر صناعة القرار في الأردن كان فاترا، ورأوا في واقع الأمر ان المبادرة لا تعدو ان تكون تجسيدا معدلا للمبادئ التي أعلن عنها في نصوص اتفاقيات كامب ديفيد. وعلى الرغم من ان المبادرة لم تلب متطلباتهم، فإنهم لم يرفضوها تماما وإنما رحبوا بمشاركة إدارة الرئيس ريغان مرة أخرى في العملية الدبلوماسية لكنهم كانوا يعتقدون في نفس الوقت ان الأحداث قد تجاوزتها. الجانب الأميركي كان يدرك جيدا ان الأوضاع قد تغيرت جذريا بفعل الانتفاضة، لكنه فشل في إدراك أبعادها وتبعاتها، وتبعا لذلك استمرت مبادرة شولتز في الترويج للدور الأردني في المفاوضات مع استبعاد منظمة التحرير الفلسطينية. إلا ان تفكير الجانب الأردني كان قد تغير في جانبين مهمين. أولا، بدأ الأردن في التأكيد على ان أي تسوية للنزاع مع إسرائيل يجب ان تمنح الفلسطينيين حق تقرير المصير. ثانيا، أكد الأردن أيضا على الحاجة إلى مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر دولي وتوضيح ان الأردن لا يمكن ان يصبح محاورا بديلا. عندما زار شولتز عمان في فبراير (شباط) 1988 ابلغه كبار المسؤولين الأردنيين انهم يشعرون بالارتياح تجاه أفكاره إلا ان القضية، كما أكدوا له، أمر يهم منظمة التحرير الفلسطينية. والتقى شولتز الملك حسين في اليوم الأول من مارس (آذار) في منزله في لندن واطلع على مبادرته بالتفصيل في حضوره وطرح قضيتين هما ضرورة ان تلعب منظمة التحرير الفلسطينية دورا رئيسيا وأن تجرى المفاوضات المباشرة في إطار مؤتمر دولي يتناول المسائل الجوهرية في النزاع. لم يصرح الملك حسين بموافقة مباشرة أو رفض مباشر للمبادرة، وبالتالي لم يشعر شولتز بأي مؤشرات مشجعة من خلال تعليقات الملك حسين حول مبادرته. وبصورة عامة، لم يدرك شولتز التغييرات على الأرض التي كانت وراء موقف الملك حسين. ولعل التحليل الأقرب إلى الواقع للوضع في ذلك الوقت هو ان عدم إلمام شولتز الكامل بالعوامل المحلية التي كانت سائدة آنذاك كان بمثابة واحد من الأسباب وراء فشل مبادرته. أعلنت «القيادة الوطنية الموحدة» للانتفاضة تأييدها منذ البداية لمنظمة التحرير الفلسطينية وهاجمت مفهوم وفكرة الوحدة بين ضفتي نهر الأردن واتهمت النظام الأردني بالتعاون مع الحكومة الإسرائيلية في استمرار الاحتلال. وكانت القيادة الموحدة تصدر من حين إلى آخر بيانات تتضمن إرشادات وتعليمات لأتباعها. ففي 11 مارس 1988 أصدرت بيانها العاشر الذي ناشدت فيه الفلسطينيين بـ«تصعيد الضغط الشعبي ضد جيش الاحتلال والمستوطنين وضد المتعاونين وأفراد النظام الأردني»، وناشد البيان أيضا ممثلي الضفة الغربية في البرلمان الأردني بـ«الاستقالة والوقوف إلى جانب الشعب».

الملك حسين وصف من جانبه ذلك البيان بأنه مؤشر على نكران الجميل وأكد ان استراتيجيته للشراكة مع منظمة التحرير الفلسطينية كبديل للشراكة مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة قد فشلت. كما ان كل مساعيه للعمل مع الفلسطينيين من أجل التوصل إلى تسوية سلمية مع إسرائيل انتهت إلى لا شيء، وظل هناك هاجس رئيسي هو ان يصبح الأردن وطنا بديلا للفلسطينيين. كان هناك قسم من الأردنيين ظل ينتقد باستمرار محاولات الملك حسين الخاصة بالعمل مع الفلسطينيين وكانوا يرون ان الأردن سيكون أكثر أمنا بدون الضفة الغربية وبدون الفلسطينيين. وكانت أي هزيمة واجهها الملك حسين في مسألة الشراكة مع الفلسطينيين مصدر ارتياح بالنسبة لهؤلاء. عقب قراءته للبيان العاشر للقيادة الموحدة للانتفاضة بدأ الملك حسين نفسه ينظر بصورة جدية في أمر فك الارتباط بالضفة الغربية. وفي 11 مارس تحدث الملك حسين معبرا عن استيائه حول البيان العاشر مع مستشاره السياسي عدنان أبو عودة، وهو أصلا فلسطيني من نابلس. تلخص رأي أبو عودة تجاه البيان في انه لا يجب ان ينظر إليه ببساطة كونه دليلا على نكران الجميل من جانب فلسطينيي الضفة الغربية وإنما في سياق كونه مؤشرا على النضج السياسي. فلأول مرة منذ عام 1967 نهض الفلسطينيون لمقاومة الاحتلال والتأكيد على استقلالهم وكرامتهم. لم يرفض الملك حسين أو يتحدى تحليل أبو عودة، بل شجعه على الاستمرار في الحديث. ويتذكر أبو عودة ذلك الحديث مع الملك حسين قائلا: «سألت الملك حسين: هل تستطيع التوصل إلى سلام مع إسرائيل بدون استعادة الضفة الغربية بكاملها؟ أجاب الملك حسين بالنفي. ثم سألته: هل ستتوصل إلى سلام مع إسرائيل بدون استعادة القدس الشرقية؟ وأجاب الملك حسين مرة أخرى بالنفي. سألته أيضا: هل تعتقد ان الإسرائيليين سيتوصلون إلى سلام معك على إعادة الضفة الغربية بكاملها والقدس الشرقية؟ فكر الملك قليلا ثم رد بالنفي أيضا. قلت له عند ذلك يجب في هذه الحالة ان نكون صريحين واننا إذا فعلنا ذلك لن نتوصل إلى سلام مع إسرائيل. لم يعلق الملك حسين. واصلت الحديث وقلت له ان إسرائيل وأميركا والغرب يعتقدون انك الشخص الذي بإمكانه التوصل إلى سلام مع إسرائيل، واننا اتفقنا على انك لا يمكن ان تتوصل إلى سلام مع إسرائيل. هذا الوضع لن يؤدي سوى إلى المزيد من المعاناة على الفلسطينيين. قلت له أيضا ان هذا الوضع سيؤدي فقط إلى استمرار الاحتلال والمزيد من العذاب على الفلسطينيين. ظل الملك حسين صامتا لبعض الوقت، ثم قلت له: ألا تعتقد ان الوقت قد حان للنظر في فك الارتباط مع الضفة الغربية؟ أجاب قائلا: ولكن نترك الضفة الغربية لمن؟ قلت له: لن تتركها لأحد، ستتركها لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقلت له كذلك إن العالم العربي بكامله اعترف في قمة الرباط بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا وحيدا للشعب الفلسطيني، وان المنظمة ظلت تصارعنا على مدى سنوات لتأكيد هذا الدور. أكدت له أيضا اننا بفك الارتباط سنستجيب للعالم العربي وللفلسطينيين على حد سواء. الفلسطينيون في الضفة الغربية لا يتحدون المنظمة، والطرفان الوحيدان اللذان لا يعتبران المنظمة ممثلا للشعب الفلسطيني هما إسرائيل والغرب. بفكنا للارتباط لن نساعد الفلسطينيين فحسب، بل سنساعد أنفسنا أيضا. عند نهاية الحديث خرج الملك حسين من المكتب».

بعد حوالي أسبوعين جرى لقاء جمع بين الملك حسين ورئيس الوزراء زيد الرفاعي وزيد بن شاكر، القائد العام للقوات المسلحة الأردنية، ومراون قاسم، رئيس البلاط الملكي، وطارق علاء الدين، مدير الاستخبارات، وعدنان أبو عودة، المستشار السياسي للملك. التفت الملك حسين إلى عدنان أبو عودة وطلب منه ان يبلغ الحضور بما قاله له في لقائهما قبل حوالي أسبوعين بشأن فك الارتباط مع الضفة الغربية. واستعرض أبو عودة وجهة نظره والحجج التي ساقها في ذلك الشأن، وكان أول من علق زيد الرفاعي الذي أشاد بالفكرة ووافقه الآخرون أيضا. ويلاحظ ان كل هؤلاء من سكان الضفة الشرقية أصلا باستثناء أبو عودة. إلا ان غالبية الفلسطينيين الذين كانوا يشغلون مناصب رفيعة في الحكومة الأردنية ولم يشاركوا في ذلك اللقاء، بمن في ذلك طاهر المصري وزير الخارجية، عارضوا فكرة فك الارتباط. وبعد ثلاثة أشهر أعلن الأردن فك الارتباط مع الضفة الغربية. وواصلت مجموعة الخمسة المكونة من الرفاعي وزيد بن شاكر ومروان قاسم وطارق علاء الدين وعدنان أبو عودة لقاءاتها وإعداد أفكار ومقترحات وخطط فك الارتباط. وكانوا في كل مرحلة ينتظرون الضوء الأخضر من الملك حسين قبل الانتقال إلى المرحلة التالية.

تركزت المرحلة الأولى في توضيح موقف الأردن من مبادرة شولتز. وفي هذا السياق يمكن القول إن الأردن وافق على المبادرة لكنه أعلن عن قلقه إزاء أي خطوة تهدف إلى وقف الانتفاضة أو احتوائها. فالأردن لم تكن لديه رغبة في الظهور بمظهر من يريد إنقاذ إسرائيل والولايات المتحدة من الصعوبات التي كانت تواجههما في ذلك الوقت من خلال التعاون في ما يمكن ان يعتبره الفلسطينيون خطوة تهدف إلى إحباط تطلعاتهم الوطنية. وصل شولتز مجددا إلى منطقة الشرق الأوسط مطلع ابريل بغرض إعطاء دفعة لمبادرته، لكنه لم ير في القدس أي ميل من جانب اسحق شامير لمساعدته في مساعيه. وعرض شولتز على شامير حمل رسالة منه إلى الملك حسين، وحمّل شامير شولتز رسالة بالفعل للعاهل الأردني مكونة من فقرة حث شامير من خلالها الملك حسين على إجراء مفاوضات إسرائيلية ـ أردنية مباشرة. إلا ان ذلك على وجه التحديد أمر لم يكن الملك حسين على استعداد للموافقة عليه في ذلك المنعطف بالذات. تصاعد الزخم بفعل الانتفاضة الفلسطينية أدى إلى عقد قمة طارئة للجامعة العربية في الجزائر في 7 ـ 9 يونيو (حزيران)، وحث الملك حسين الدول المشاركة على عدم رفض مبادرة شولتز، إلا ان تأثيره في ذلك الوقت كان في تراجع مستمر، وكان جدول أعمال تلك القمة الطارئة قد تركز حول النظر في الانتفاضة وسبل دعمها ماليا. ووجد الأردن نفسه في موقع دفاع، مثلما حدث في قمة الرباط قبل 14 عاما.

في خطابه أمام القمة الطارئة حاول الملك حسين تبديد الشكوك في ان الأردن لا يزال يأمل في استعادة الضفة الغربية وانه لا يزال ينافس منظمة التحرير الفلسطينية، إلا ان كلماته قوبلت بتشكك. الهدف الثاني للملك حسين كان الدفاع عن دور الأردن كقناة لمساعدات العرب للأراضي المحتلة بالتعاون مع منظمة التحرير الفلسطينية. كما سلط الضوء في معرض الكلمة التي ألقاها أمام القمة على تذكير المشاركين بأن القانون الأردني لا يزال ساريا في الضفة الغربية وان جوازات السفر الأردنية وعملته لا تزال مستخدمة هناك وأن الأردن لا يزال يدفع رواتب 18000 موظف في الضفة الغربية و6000 آخرين في قطاع غزة. أشار الملك حسين أيضا في نفس السياق إلى ان بعض دول الخليج لم تف بالالتزامات المالية التي وعدت بها في قمة بغداد عام 1978، الأمر الذي ترتب عليه تراكم ديون كبيرة على الأردن، وحذر من انه في حال عدم تلقي الأردن دعما في هذا الجانب فإنه ربما يضطر لإنهاء دوره في الأراضي المحتلة. لم يكن لكلمة الملك حسين أي تأثير، بل ان قرارات قمة الجزائر الطارئة تجاهلت الأردن وأكدت على العمل العربي لحق الفلسطينيين في إقامة دولة فلسطينية مستقلة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية. شرع الأردن غداة قمة الجزائر في اتخاذ خطوات عملية باتجاه فك الارتباط بالضفة الغربية. ففي مطلع يوليو (تموز) جرى حل وزارة شؤون الأرضي المحتلة وتم تحويل أعبائها إلى إدارة الشؤون الفلسطينية المرتبطة بوزارة الخارجية الأردنية. تلك الخطوة أثارت قلق زعيم حزب العمل الإسرائيلي، شيمعون بيريس، لأن تخلي الأردن عن مسؤوليته تجاه الضفة الغربية لصالح منظمة التحرير الفلسطينية كان يعني في نظر بيريس احتمال ان تضطر إسرائيل للتعامل مع منظمة لا تعترف أصلا بوجودها. مضت قدما إجراءات الأردن الخاصة بفك الارتباط مع الضفة الغربية، وباتت خطوة لم يعد التراجع عنها ممكنا. وفي 28 يوليو (تموز) أعلنت الحكومة الأردنية إلغاء الخطة الخمسية لتنمية الضفة الغربية بدعوى السماح لمنظمة التحرير الفلسطينية بالاضطلاع بالمزيد من المسؤوليات في هذا الجانب. وبعد يومين صدر مرسوم ملكي حل بموجبه مجلس النواب، وبالتالي ألغي تمثيل الضفة الغربية في الهيئة التشريعية. وفي 31 من نفس الشهر أعلن الملك حسين رسميا في خطاب نقله التلفزيون قطع الأردن ارتباطه القانوني والإداري بالضفة الغربية. لقي قرار الأردن بفض الارتباط مع الضفة الغربية ترحيبا من سكان الضفة الشرقية، ولكن ليس من الفلسطينيين الذين يقطنون الضفة الشرقية. وشعر بعض ساسة الضفة الشرقية انهم في نهاية الأمر لم يجدوا شيئا سوى نكران الجميل تجاه جهودهم في مساعدة الفلسطينيين وان الوقت حان للتقليل من الخسائر في هذا الجانب. رحب هؤلاء أيضا بفرصة جعل الضفة الشرقية أولوية في قائمة اهتماماتهم والتخلي عن أي مسؤولية تجاه الضفة الغربية وسكانها. الملك حسين نفسه شعر بأن الأردن يخوض معركة خاسرة في الدفاع عن مواقع ومواقف كانت قد آلت مسبقا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وشعر أيضا بأن الوقت حان للتأكيد على ان الضفة الشرقية ليست فلسطين، وان الأمر متروك للفلسطينيين ليقرروا ما يريدون بشأن الضفة الغربية والتعامل مع إسرائيل بصورة مباشرة بشأن مستقبل الضفة الغربية. يقول الشعار الهاشمي القديم ان «الأردن هو فلسطين، وفلسطين هي الأردن»، إلا ان ذلك الشعار حل محله فيما يبدو شعار جديد: «الأردن هو الأردن، وفلسطين هي فلسطين».

* غدا: روايتان، ملكية وجمهورية، لملابسات غزو العراق للكويت


أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة الثانية عشرة) ـ الملك حسين فكر في التنازل عن العرش خلال أزمة حرب الخليج

روايتان متناقضتان عن الدور الأردني في أزمة غزو العراق للكويت

لندن: «الشرق الأوسط»
توجد روايتان متناقضتان حول الأردن في أزمة الخليج والحرب يمكن تسميتهما بالرواية الجمهورية والرواية الملكية. تقول الرواية الأميركية إن الأردن خان الحلفاء وانحاز للمعتدي وإنه كان يعلم سلفا بخطة صدام حسين لغزو الكويت، أما الرواية الملكية الأردنية فتؤكد انه لم يكن للملك سابق علم بخطة صدام وانه عمل على تعزيز الوصول إلى حل عربي للنزاع.

وفي خضم هذه الأزمة تحدث الملك حسين مع زوجته حول التنازل عن العرش، وفكر في ما إذا كانت معاناة الأردن ستكون أخف وطأة إذا ما سلّم مسؤولية الحكم لشخص آخر لكن التدفق المستمر للرسائل والمحادثات الهاتفية عليه أوضحت له أن البلاد بأكملها تسانده. كما ساهمت الملكة نور في التشجيع والدعم.

وتروي حلقة اليوم من كتاب أسد الاردن الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر بنغوين ومؤلفه آفي شليم تفاصيل الاتصالات التي اجراها العاهل الاردني الراحل خلال هذه الازمة التي فجرها صدام حسين بغزو الكويت يوم 2 أغسطس 1990، وكذلك الرواية الاردنية للاحداث بينما كانت هناك شكوك من جانب دول عربية وغربية بانه كان يعلم بمخطط صدام حسين.

فجّر الغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990 أزمة إقليمية ودولية هائلة. وبلغ الفشل في حل الخلاف بالطرق الدبلوماسية، بعد ستة أشهر، مستوى حرب شاملة بتفويض من الأمم المتحدة لإخراج العراق من الكويت.

هناك روايتان متناقضتان لدور الأردن في أزمة الخليج والحرب يمكن تسميتهما بالرواية الجمهورية والرواية الملكية. تقول الرواية الأميركية إن الأردن خان الحلفاء وانحاز للمعتدي في تحد حاسم للوضع الدولي ما بعد الحرب الباردة. وتتضمن قائمة اتهامات هذه الرواية للملك حسين التهم التالية: كان يعلم سلفا بخطة صدام حسين لغزو الكويت، أعطى صدام دعما صامتا خلال الأزمة، وساعده في تطويق أثر عقوبات الأمم المتحدة ضد العراق. أما الرواية الأردنية فتؤكد انه لم يكن للملك سابق علم بخطة صدام، وان المملكة الأردنية ظلت تعارض بشكل مستمر غزو وضم الكويت، وأنها عملت على تعزيز الوصول إلى حل عربي للنزاع، وأنها التزمت بعقوبات الأمم المتحدة رغم إضرار العقوبات بها، وأنها ظلت طوال الوقت معارضة لأي استخدام للقوة. ولتأييد الرواية الأردنية اتخذت حكومة الأردن خطوة غير عادية بنشر ورقة بيضاء في أغسطس 1991 تتكون من 78 صفحة تضمنت روايتها للأزمة و15 وثيقة رسمية. ويضعف الفحص النقدي لكل الأدلة المتاحة من مصداقية الرواية الاميركية في عدة نقاط دون أن يساند بشكل كامل الرواية الأردنية.

جاء الغزو العراقي للكويت مفاجئا تماما للملك حسين. وكانت الموضوعات الأساسية الأربعة هي الديون العراقية التي تعود إلى مرحلة الحرب العراقية ـ الإيرانية، وسياسة أسعار النفط الكويتية، وحصص إنتاج النفط من حقل الرميلة المشترك، والنزاع الحدودي. ورغم أن النزاع بين العراق والكويت قد تصاعد بشأن هذه وغيرها من الموضوعات، فإن صدام أكد للملك حسين انه لن يلجأ لاستخدام القوة ما دامت المفاوضات مستمرة، ونقل الملك حسين هذه التأكيدات لصديقه القديم (جورج بوش الأب) الذي كان يجلس وقتها في البيت الأبيض. في الساعة الخامسة والدقيقة الخمسين صباح 2 أغسطس اتصل العاهل السعودي الملك فهد هاتفيا بالملك حسين ونقل له الأنباء المروعة بان قوات العراق قد عبرت الحدود إلى داخل الكويت. كان الملك حسين في ذلك الوقت رئيسا لمجلس التعاون العربي، ولذلك فان الغزو وقع خلال فترة رئاسته للمجلس. كانت الدول الأخرى الأعضاء في المجلس هي العراق ومصر واليمن الشمالية. طلب الملك فهد من الملك حسين أن يناشد الزعيم العراقي بان يتوقف عن التقدم في الكويت. سأل الملك حسين عن إلى أي مدى تقدمت القوات العراقية، وقد صعق من أنها صارت على بعد 6 كيلومترات من مدينة الكويت وما زالت تتقدم نحو العاصمة. اتصل الملك حسين فورا بصدام لكن صدام لم يرد على اتصاله إلا بعد منتصف النهار حيث كان الجيش العراقي قد وصل إلى مدينة الكويت. ناشد الملك حسين صدام بالانسحاب، فقال صدام انه إذا أمسكت الحكومات العربية عن إدانة العراق وتهديده فان الجيش سيبدأ في الانسحاب بعد أيام ويكمل انسحابه خلال أسابيع. بعد أن عرف الملك حسين عن التحرك العراقي من الملك فهد دعا الجنرال إحسان شردم وأمره أن يقوم، كإجراء احتياطي، بوضع القوات الجوية الأردنية في حالة تأهب قصوى تبلغ درجة التأهب للحرب.

كان الملك حسين هو الزعيم الوحيد في العالم الذي يستطيع أن يصف نفسه بأنه صديق لصدام حسين، وكان شديد الاهتمام بالحديث معه. وقد شعر الملك حسين أيضا بان من واجبه أن يقوم بكل ما يستطيعه لاحتواء الأزمة، وبعد أن تحادث مع صدام مباشرة سافر جوا إلى الإسكندرية لاجتماع طارئ مع الرئيس المصري حسنى مبارك. واتفق الاثنان على أن الموضوع يجب أن يُحل داخل الأسرة العربية من دون تدخل من الخارج وناشد مبارك الملك حسين أن يذهب إلى بغداد بأقصى سرعة ممكنة. وأيد الملك فهد، الذي تمت استشارته هاتفيا، هذه الخطوة. وتحدث الملك حسين ومبارك إلى الرئيس بوش أيضا. وابلغ الملك حسين بوش بأنه على وشك الذهاب إلى المملكة العربية السعودية والعراق. وقال «رجائي منك حقيقة يا سيدي أن تحتفظ بهدوئك. ونود أن نتعامل مع هذه المسألة في السياق العربي لإيجاد طريقة تسمح بتأسيس مستقبل أفضل». وابلغ بوش الملك حسين بان العالم لن يقبل بتغيير الوضع القائم بآخر جديد وان ذلك غير مقبول من جانب الولايات المتحدة. وأردف بوش قائلا «أنا متأكد أن صدام حسين يعرف ذلك لكن يمكنك أن تنقل له ذلك مني». ورد الملك على ذلك بان العراق «مصر على الانسحاب بأقصى ما يمكن وربما خلال أيام»، ووعد الملك بالدفع في اتجاه الانسحاب، وقال انه يحتاج لـ48 ساعة للسفر إلى بغداد والحصول على التزامات محددة من صدام حسين، وأنهى المحادثة الهاتفية تحت شعور بان بوش متفق معه على ذلك. وافق مبارك أن ترجئ الجامعة العربية إصدار إدانة للعراق حتى تتاح للملك فرصة معرفة ما إذا ستقوم الحكومة العراقية بتقديم التزام بالانسحاب في أسرع وقت ممكن وحضور قمة مصغرة لمناقشة كل مظاهر النزاع مع الكويت. وكان أساس الموضوع هو إيجاد معادلة لحفظ ماء الوجه، بمعنى تسهيل انسحاب صدام من خلال التعهد بان تتم مناقشة فورية لكل شكاواه مع الكويت. في اليوم التالي، 3 أغسطس، طار الملك حسين إلى بغداد في الصباح للاجتماع بصدام حسين. وحصل الملك حسين على موافقة صدام على حل النزاع داخل الإطار العربي، وذلك بان يحضر العراق قمة مصغرة تعقد في جدة يوم 5 أغسطس وان يبلغ الملك حسين بتفاصيل انسحابه قبل أن تهبط طائرته في عمان. ولكن صدام عاند بإصرار الاستجابة بشكل ايجابي لمقترحات قادة الدول العربية الثلاث إلا في حالة أن تبتعد الجامعة العربية عن إدانة العراق. وبكلمات أخرى، كان صدام مستعدا للبدء في سحب قواته لكن من دون أن يكون ذلك تحت التهديد. وكان صدام يعتقد أن له أسبابا مشروعة لغزو الكويت وأراد أن ينسحب طوعا وبطريقة تحفظ له كرامته. وكان صدام، حسب وجهة نظر الملك حسين، يبدو مهتماً حقيقة بنزع فتيل الأزمة في هذه المرة. وفي نفس اليوم أعلنت الحكومة العراقية عن نيتها في البدء في سحب قواتها من الكويت في السابعة من مساء 5 أغسطس.

شعر الملك حسين بابتهاج شديد: كان قد طلب 48 ساعة لإيجاد حل عربي ويبدو انه على أعتاب إحداث اختراق خلال تلك الفترة الزمنية.

عند عودة الملك حسين إلى عمان اتصل بمبارك لإبلاغه بنجاح مهمته فوجد الموقف قد تغيّر. وفي الحقيقة فانه حين كان الملك حسين في طريقه إلى بغداد أصدرت الحكومة المصرية بيانا تدين فيه الغزو العراقي للكويت. اتصل الملك حسين بمبارك لإبلاغه بالاتفاقية التي توصل إليها والتعبير عن عدم ارتياحه للبيان المصري. أوضح مبارك انه تحدث مع الملك فهد عن الوضع، ورفض التفاهمات التي توصل إليها الملك حسين وأصر على الانسحاب العراقي غير المشروط من الكويت والإعادة الفورية للعائلة الحاكمة الكويتية لموقعها في قمة السلطة. وفي اجتماع الجامعة العربية ذلك المساء في القاهرة دفع وزير الخارجية المصري بقوة في اتجاه إصدار قرار بإدانة العراق بينما حذر وزير الخارجية الأردني مروان قاسم من أن القرار سيضر بخطة الملك حسين في عقد قمة مصغرة لاحتواء الأزمة. لكن المجلس تبنى القرار بأغلبية 14 صوتا. في صباح يوم 4 أغسطس اتصل الملك فهد بالملك حسين وابلغه بورود مزاعم أميركية بان القوات العراقية تتقدم نحو الحدود مع المملكة العربية السعودية. لم يصدق الملك حسين هذه المزاعم لكنه طلب أن يتحقق منها من صدام. أبدى صدام أيضا استغرابه وبعد ان تباحث مع كبار قادة جيشه أبلغ الملك بان اقرب قواته من الحدود مع المملكة العربية السعودية توجد على بعد ثلاثين إلى أربعين كيلومترا من الحدود. وأضاف صدام انه أصدر أوامره لجنرالاته للتو أن يكونوا، على الأقل، على مسافة 50 كيلومترا من الحدود. نقل الملك حسين هذه التأكيدات إلى الملك فهد واقترح عقد اجتماع ثنائي. لم يبد الملك فهد رغبة واقترح بدلا عن ذلك إرسال وزير خارجيته الأمير سعود الفيصل إلى عمان. وصل الأمير سعود عمان اليوم التالي يحمل أخبارا بان الأميركيين أعطوا الملك فهد صورة فوتوغرافية تظهر أن القوات العراقية تتقدم. كرر الملك حسين تأكيداته التي قدمها له صدام وأضاف أن العراق اخطر الأمم المتحدة رسميا بنيته في الانسحاب من الكويت. وكدلالة على ثقته في تأكيدات صدام عرض الملك حسين أن يرسل نصف جيشه ليقوم بدوريات لخفر منطقة الحدود بين الكويت والمملكة العربية السعودية كي تكون قواته هي أول قوات تواجه القوات العراقية المتقدمة. لم يستجب السعوديون لطلب الملك حسين مما لا يستغرب إذا أُخذت شكوكهم في الاعتبار. وهكذا ذهب طلب الملك حسين مع الريح.

أما الذي لم يكن يعرفه الملك حسين هو أنّه، وبسبب الشكوك حول وجود تحركات للقوات العراقية نحو الحدود السعودية، تقدم الأميركيّون للرياض بعرض بإرسال قوات أميركية إلى المملكة العربية السعودية. أمضت إدارة بوش الفترة من 2 إلى 6 أغسطس تتفاوض مع المملكة العربية السعودية حول حجم وتركيب القوات الأميركية التي يجب إرسالها. ووصلت أول فرقة عسكرية أميركية في 6 أغسطس. أبلغ مبارك بالمفاوضات فالتزم هو أيضا وأرسل قوات إلى المملكة العربية السعودية. لم يكن هناك وجود لاحتمال أن يحضر مبارك والملك فهد قمة مصغرة مع صدام في الوقت الذي كانت القوات الأميركية والمصرية تصل إلى المملكة العربية السعودية لمجابهة صدام.

خلال اقل من يومين كان شرط العراق بعدم الإدانة وعدم جلب قوات أجنبية قد تمت مجابهته، كما أن الحوار مع العراق قد تم تجميده. تحطمت مصداقية الملك حسين كمفاوض كما تقوضت إمكانية الوصول إلى حل عربي. أصيب الملك حسين بغم شديد حين علم بوصول القوات الأميركية إلى المملكة العربية السعودية، فقد تحول الصراع بين عشية وضحاها إلى أزمة دولية واضعة أميركا وحلفاءها ضد العراق. وفجأة فقد صدام «اعتباره» وحلت المواجهات محل المصالحة. لقد انتهى دور الملك حسين كوسيط: صار خارج الخيمة. ولم يعد الأردن لاعبا في الموضوعات التي تهم أميركا. وفي الأشهر الخمسة التالية غرقت أميركا في بحر العمليات اللوجستية المتعلقة بنشر القوات في الخليج وبناء تحالف عسكري عريض ضد العراق. وفي 6 أغسطس فرض مجلس الأمن حظرا على العراق، وكرد على ذلك أعلن صدام أن الغزو لا رجوع عنه. وبعد يومين من ذلك أعلن العراق ضم الكويت بأكملها.

وقد شرح صدام فيما بعد للملك حسين عن رؤيته حول ضم الكويت قائلا: «عرفت أن الأميركيين مصرون على الدخول في حرب»، وشعر انه إذا لم تصبح الكويت جزءا من العراق فان القوات العراقية هناك لن تكون في موقع قوي للدفاع عنه. فمن الممكن توقُّع أن يدافع الجيش العراقي عن العراق حتى الموت ولكن لا يمكن توقع أن يقوم بالدفاع حتى الموت عن الكويت. فإذا صارت الكويت جزءا من العراق فان الأمر سيكون متسقا، و«هذا هو السبب الذي جعلني أقدم على ما فعلته في ذلك الوقت»، حسب قول صدام. ولكن من وجهة نظر المجتمع الدولي فان ضم الكويت كان بمثابة نقطة اللاعودة: لقد أزال الدكتاتور العراقي الدموي سيادة دولة عضو في الأمم المتحدة ولا يمكن أن يسمح له بالاستمرار في ذلك. أما الأردن فقد رفض، كغيره من أعضاء المجتمع الدولي، الاعتراف بنظام صدام الدمية في الكويت.

شعر الملك حسين بان صديقه العراقي قد خذله وليس هناك ما يستطيع أن يفعله لتعديل الوضع. ثم قُطع العون الأميركي للأردن، كما قطعت دول الخليج التي التحقت بالتحالف العسكري عونها هي الأخرى. وكان لفرض العقوبات من مجلس الأمن على العراق من خلال القرار 661 آثار مدمرة بالنسبة للأردن. وكانت الضربة الأولى التي شلت الاقتصاد الأردني هي التدفق الكبير للاجئين المبعدين من الخليج. لذلك فان معاناة الملك حسين بلغت شأوا عاليا جعله يتحدث يوم 8 أغسطس مع زوجته حول التنازل عن العرش. وبسبب الدرجة التي استهدف بها فانه فكر في ما إذا كانت معاناة الأردن ستكون اخف وطأة إذا ما سلّم مسؤولية الحكم لشخص آخر لكن التدفق المستمر للرسائل والمحادثات الهاتفية عليه أوضحت له أن البلاد بأكملها تسانده. كما ساهمت الملكة نور في التشجيع والدعم.

بلغت شعبية الملك حسين في الداخل الذروة وتعاطفت الأغلبية العظمى من الأردنيين، في البلاد وفي الجيش، مع الشعب العراقي. ولأول مرة في تاريخ الأردن سمح النظام بل وشجع تسيير مظاهرات معادية للغرب في الأماكن العامة. وأطلقت يد الأخوان المسلمين تماماً لحشد التأييد الشعبي لسياسة الملك المعادية للتدخل العسكري الغربي في الخليج. وكانت أزمة الخليج إحدى الفصول القليلة في تاريخ الأردن التي حدث فيها ما يكاد يبلغ التوافق الكامل بين مواقف النظام والجيش والبرلمان والرأي العام.

تحققت شعبية حسين في الداخل على حساب خسارة قدر كبير من علاقاته مع الغرب. كان الغرب مدركا لأن العراق والأردن كانا حليفين مما استدعى وجود سياسة خارجية أكثر براغماتية. ومع ذلك فان الإرادة الطيبة للغرب كانت معاقة بشكل كبير بسبب الدعم المادي الأردني لصدام في تحاشي وطأة عقوبات الأمم المتحدة وبما اعتبر بمثابة فشل قيادة الملك حسين في الأيام الأولى للازمة. كان هناك شعور بأنه لو كان الملك قد فكر بدهاء اكبر لكان قد اكتشف أن المصلحة الحقيقية للأردن توجد في الانضمام إلى باقي المجتمع الدولي ضد من يخرق القانون. كان يمكن للملك حسين أن يقول لشعبه أن قبول احتلال الأراضي بالقوة يعتبر أمرا حاسما بالنسبة للأردن، وان موقف الأردن في الأزمة الراهنة يستند إلى هذا المبدأ. لذا لم يكن لصدام أن يتوقع أي دعم معنوي أو مادي من الأردن.

* غداً: نقطة الافتراق بين بوش والملك حسين

أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة الثالثة عشرة) ـ الملك حسين قال لصدام: سأعود إلى بلادي وإذا كان هناك ما يمكنني أن أفعله تعرف كيف تتصل بي

اجتماع سري بين العاهل الأردني الراحل وشامير ومساعديهما سبق الحرب

لندن: «الشرق الأوسط»
فشل الملك حسين في تحاشي وقوع مواجهة عسكرية بين العراق والتحالف الدولي، وتركز اهتمامه في تحاشي أن يزج بالأردن في حرب ليس طرفا فيها. وكان الملك حسين متخوفا من أن تتحطم مملكته بين الطرفين المتحاربين. ويوم 31 ديسمبر(كانون الاول) 1990 ارسل عدنان أبو عودة إلى بغداد في طائرة خاصة لنقل رسالة شفوية من الملك حسين إلى صدام. وعندما وصل ابلغ انه لا يستطيع مقابلة صدام لأن الأخير خارج بغداد فالتقى بطه ياسين رمضان نائب الرئيس وطارق عزيز وزير الخارجية ونقل لهما الرسالة التي كانت من جملتين هي «أحمل تحيات صاحب الجلالة للرئيس. ويود صاحب الجلالة أن تعلموا انه في حالة نشوب حرب فان جلالته لا يريد أن تنتهك الأجواء الأردنية بواسطة أي طرف». وتكشف حلقة اليوم من كتاب «أسد الأردن» الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر «بنغوين» ومؤلفه آفي شليم المؤرخ والأستاذ في جامعة اكسفورد، الكثير من اسرار الاتصالات والتحركات الاردنية قبل حرب الخليج ولقاءات ورسائل الملك حسين إلى صدام حسين ومباحثاته مع الرئيس الأميركي الاسبق جورج بوش الأب ومارغريت ثاتشر رئيسة الوزراء البريطانية وقتها وكذلك الاجتماع الذي عقده مع اسحاق شامير رئيس الوزراء الاسرائيلي.

بعد يومين، أي في 22 أغسطس، اقترح صدام أن العراق سينسحب من الكويت إذا انسحبت إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، وانسحبت سورية من لبنان، وكان هذا المقترح هو الذي ادخل مفهوم إقامة الصلة بمفردات الشرق الأوسط الدبلوماسية. حفز مقترح بغداد بوجود صلة بين نزاع الخليج والنزاع العربي ـ الإسرائيلي الملك حسين على القيام بجولة في العواصم الغربية، مما أوحى للأوساط الإعلامية بأنه جاء يحمل رسالة من صدام. قال الملك حسين انه لا يحمل أي رسالة، لكنه طرح نفسه على الفور كوسيط. لقد كان الملك حسين هو القائد العربي الوحيد الذي ما يزال يستطيع الحديث مع صدام، وكان يأمل أن يستخدمه الأميركيون كقناة اتصال مع بغداد. عند عودة الملك حسين من جولته اتصل هاتفيا بالرئيس بوش (جورج بوش الاب) وطلب الاجتماع به. كان بوش حينذاك في كينيبنكبورت في منتجعه الصيفي في مين وقد تحدد أن يعقد الاجتماع في 16 أغسطس(آب). وصلت مجموعة ملكية صغيرة على متن طائرة مروحية إلى المنتجع الصيفي. كان بوش نفسه متحفظا، لكنه لم يكن موافقا أو رافضا بشكل حاسم لأن يجري الملك مفاوضات مع صدام من اجل تسوية سلمية. كان بوش يتوقع رسالة من بغداد، الشيء الذي لم يذكره الملك حسين له أبدا. وبدا الملك حسين وكأنه يسعى للعب دور وسيط لكن بوش لم ير أن هناك شيئا يستدعي المناقشة. وقد سجل بوش في مفكرته اليومية: «تحدثنا بصراحة شديدة عن الخلافات. ظللت أحاول القول إن الصداقة بيننا متينة.. (ضغط) هو في اتجاه حل وسط يمكن به حل المشكلة وظللت أقول انه لا يوجد شيء كهذا ـ يجب أن يتم انسحاب وعودة الحكم الكويتي ـ لا يوجد حل وسط لأن الغد قد يأتي باعتداء جديد من معتد آخر.. رفض حسين الاعتراف بأن هذا شخص مجنون. تحدث عن الذين يملكون والذين لا يملكون».

شدّد بوش على انه بالنسبة لأميركا، فان النفط هو طريقة حياة وأراد من الملك حسين أن يتفهم موقف أميركا. ربما كان الملك يأمل، وبسبب الصلات التاريخية بين الأردن وأميركا وبسبب صداقتهما الشخصية، أن تكون أميركا معتدلة أو تتحرك تحركا ولو قليلا، لكن رغم أن بوش يقدر صداقته إلا انه رفض أن يتزحزح عن موقفه. وقد اعتبرت جهود الملك حسين في التوسط بمثابة خيانة شخصية لصداقته لبوش وأخذ ذلك شكل: إما انك معنا أو معهم. ومن المرجّح أن يكون بوش قد اعتقد أنه قد وضع الأردن في زاوية ضيقة. كان يعرف أن الأردن يعتمد اقتصاديا على العراق حيث يستورد منه 95% مما يستهلكه من نفط ويبيع له 45% من صادراته. وقد سمع بوش من الرئيس مبارك أن صدام وعد حكام الأردن واليمن بمنحهم حصصا من نفط الكويت مقابل الحصول على تأييدهم للغزو. لكن هذه القصة لا أساس لها بتاتا، لكنها كانت إحدى العوامل في تفكير بوش. ولكي تبعد إدارة بوش الأردن عن ذلك بدأت في التفكير بتقديم مساعدة مالية دولية للأردن بالإضافة إلى تقديم مساعدة نفطية عربية عاجلة مقابل تنفيذ عقوبات الأمم المتحدة. وقال بوش انه أدرك أن الملك حسين كان قلقا على الوضع الاقتصادي للأردن، واقترح أن تقوم الدول العربية الأخرى بالمساعدة. وذُُكر أن الملك حسين رد على ذلك قائلا «لم احضر هنا لطرح ذلك الموضوع. لقد أتيت لطرح أمر أكبر هو موضوع السلام».

وبالنسبة للمسؤولين الأردنيين كان ذلك بمثابة محاولة لإقناع ملكهم بالانضمام إلى التحالف ضد العراق عن طريق تقديم إغراءات مادية، فقد انتابهم شعور باهت بهذه المحاولة خصوصا بعد الفشل الأميركي في تقديم مساعدة مالية للأردن حينما كانت الأزمة المالية في أوجها بعد ذلك بعام. أما الملك حسين فانه ظل مخلصا لإيجاد حل عربي لمشكلة عربية ولم تغره الجزرة التي كان يلوح به تحت أنفه.

في كينيبنكبورت كان الاجتماع مخيبا لآمال بوش، لكنه كان أكثر خيبة لآمال الملك حسين. وكان نقطة افتراق للطرق التي سيسلكها الصديقان القديمان. تحول بوش إلى مهمة بناء تحالف عسكري ضد «الدكتاتور العراقي الصغير» بينما واصل الملك حسين سعيه لحل سلمي للنزاع. صار سلوك واشنطن تجاه عمان متشددا وصارت نبرته تدريجيا أكثر عداء. ووقع العبء الصعب للمحافظة على الصلة بين العاصمتين على السفير الأميركي الجديد لدى الأردن روجرز هارسون. وقد سلّم هارسون الملك حسين، عقب اجتماع كينيبنكبورت الرسالة التالية: «نعتقد أن الأردن، بسبب موقعه الجغرافي، ضعيف أمام الضغط العراقي. لكن يجب ألا ينتابكم أي شك في أن نجاح العراق في غزوه للكويت سيلبي طموح صدام حسين في الهيمنة على المنطقة، ولن يكون أي جار في مأمن منه. من الأمور الحيوية للمصالح الأردنية الأساسية ألا يقف الأردن محايدا في الصراع بين العراق والأغلبية العظمى من الدول العربية. إن ملاحظة وجود تحالف أمر واقع بين العراق الأردن قد اضر سلفا بسمعة الأردن في الولايات المتحدة وغيرها. ونحن نأمل مخلصين أن تتخذوا خطوات حازمة لوضع حد لهذا التدهور».

وصف الملك حسين هذه الرسالة بأنها «بغيضة» و «فظة جدا جدا». في الأسبوع الأخير من أغسطس زار الملك حسين اليمن والسودان وليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا والمغرب. كان هدفه إيجاد أرضية مشتركة بين الدول العربية المعارضة للتدخل الأجنبي. وفي الأسبوع الأول من سبتمبر(ايلول) زار الملك حسين اسبانيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وايطاليا. وقد التقى في هذه الدول برؤساء الدول أو رؤساء الحكومات وقدم لهم الرواية الأردنية لأصل وأسباب الأزمة. وكان هدفه الوحيد هو إقناعهم بحل سلمي. وفي كل هذه البلاد، عدا بريطانيا، وجد التشجيع للمثابرة على جهوده في الوساطة. كانت رئيسة وزراء بريطانيا حينذاك هي مارغريت ثاتشر وكان للملك حسين علاقات وثيقة بها في الماضي. لقد كان الملك حسين رجل سلطة ونفوذ وحنكة يعرف كيف يحصل على تعاطف ثاتشر ودعمها. وكان من الجلي أنها تكن له الود. لكن الأحداث الأخيرة في الخليج تسببت في إحداث تعسر خطير في علاقتهما. لقد قادت ثاتشر بلادها بنجاح في حرب جزر الفوكلاند وتعتبر نفسها خبيرة في التعامل مع الدكتاتوريين. كانت ثاتشر تؤيد بحزم فكرة انه لا يجب التفاوض مع الدكتاتوريين.

خلال غداء العمل بين ثاتشر والملك حسين في مقر رئيسة الوزراء في داوننغ ستريت، وجد الملك حسين أنها متصلبة وشغوفة للحرب لدرجة أن الشكوك ساورته حول سلامة عقلها. لقد اتخذت هيئة تشرشلية وحملقت فيه وبدت كشخص مصاب بجنون العظمة. وافتتحت حديثها بسؤال الملك حسين عن سبب «مساندته» لصدام حسين الذي وصفته بأنه «رجل شرير». قال لها «أنا لا أساند أي شخص وإنما أحاول أن أحافظ على السلام في منطقتي» وقال لها بصراحة إن دبلوماسية البوارج العسكرية تنتمي للقرن التاسع عشر. اشتعلت عيناها الشهيرتان بالغضب وقالت «أنت تساند الخاسر وأريدك أن تعرف ذلك قبل فوات الأوان» ووصفت صدام بازدراء بأنه «دكتاتور من الدرجة الثالثة» وأضافت بصوت متغطرس «يا جلالة الملك، لم يبق لك من دور تلعبه في الشرق الأوسط». كتب عدنان أبو عودة الذي كان يسجل محضر الاجتماع في النهاية «يا الهي؛ كأنها الملكة فيكتوريا تتحدث إلى مهراجا هندي». وشعر كأنه أهين مثل بقية الوفد. انتهت الصداقة بين الملك حسين وثاتشر خلال ذلك الغداء. وافتقرت الرسائل اللاحقة بينهما إلى التهذيب، على الأقل من جانبها.

بعد جلسة الغداء مع ثاتشر عقد الملك حسين اجتماعا سريا مع مسؤولين إسرائيليين في لندن. وقد وردت ومضات مثيرة لتلك العلاقة المتطورة في كتاب من تأليف ايفريم هاليفي الذي كان نائبا لمدير الموساد في ذلك الوقت والذي يعتبر الصلة الإسرائيلية الأكثر قربا من الملك. كان الإسرائيليون يراقبون ما يجري من الخطوط الجانبية بقلق متزايد. وكانت لدى الإسرائيليين معلومات استخبارية تقول إن هناك طيارين أردنيين يتدربون مع طيارين عراقيين في العراق. حينما قدمت هذه المعلومات أول مرة للملك حسين لم ينفها، لكنه أوضح أنها تتعلق بتوفير تكاليف التدريب، وهي لا تعني تغييرا في السياسات تجاه إسرائيل. بعد غزو العراق للكويت اكتشف الإسرائيليون أن طائرة عراقية تحمل شارة سلاح الجو الملكي الأردني تقوم بجولة على الحدود بين الأردن وإسرائيل جنوب البحر الميت على مقربة من المفاعل النووي في ديمونا. ومن المستبعد أن تتم عمليات تحليق كهذه دون موافقة الملك. وفي القدس ارتفعت أصوات عالية تنادي بإنهاء شهر العسل السري بين إسرائيل والأردن. ورأى مؤيدو إقامة دولة فلسطينية في الضفة الشرقية في الحرب المقبلة فرصة لتحقيق أمرين في وقت واحد: الانتقام من هجوم صاروخي عراقي على إسرائيل وتوجيه ضربة للقوات الجوية الأردنية. وكانوا يعلمون أن هذا السيناريو إذا مضى لنهايته المنطقية فانه سيؤدي إلى نهاية الملكية في الأردن. تم اتخاذ قرار بمواجهة الملك فيما يتعلق بتبعات هذه التطورات الأخيرة، وواجه الملك تحذيراً شديداً بان تتوقف التحليقات الجوية العراقية فورا. جاء التحذير للملك في يوم غداء العمل في داوننغ ستريت مع ثاتشر. وفي حديث لاحق لاحظ الملك حسين انه بينما كانت لهجة ثاتشر مريرة وغير لطيفة فان الرسالة الإسرائيلية كانت أكثر تهديدا من حيث المحتوى.

اغتنم الملك الفرصة ليشرح للإسرائيليين بعض حقائق الحياة كما يراها. كان صدام في نظر الجماهير العربية بطلا حقيقيا. لقد أنقذ المسلمين السنة من انقضاض الشيعة الإيرانيين عليهم. ولم يحقق الاحترام وحده وإنما حقق أيضا الهيبة والخشية. لقد جسّد في شخصه حلم المجد والتضحية والنجاح. وكان ما ينظر إليه الغرب كانعدام للرحمة والقسوة يمثل في أعين العرب شجاعة وقوة وكبرياء. وظل الملك يكرر القول إن على المرء ألا ينسى أهمية الكبرياء وكان يشعر بمرارة خاصة للمعاملة التي لقيها من بوش. لقد عرف كل الرؤساء الأميركيين منذ ايزنهاور وقد بذل جهدا مضنيا في تنمية الصداقة مع بوش حينما كان بوش مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. ولكنه الآن لا يستطيع أن يستسلم للضغط العاري لبوش فيما يتعلق بموضوع العراق. وبعد سنوات من الرعاية الصبورة للعلاقات مع الولايات المتحدة وصل إلى طريق مغلق. وها هي علاقته بحليف قديم تنهار. وبالنسبة للأردن وللملك حسين شخصيا فان هذا يعتبر بمثابة كارثة لكنه يقف عاجزا أمام انحدار الأمور نحو الحرب. وفي كل مرة يلتقي فيها ايفريم هاليفي خلال هذه الشهور كان الملك يكرر له انه مقتنع بأنه تصرّف بشرف وانه متأهب لمواجهة قدره كما ظل من قبل في العديد من المرات في الماضي حين واجه تهديدات على حياته وعلى بقاء مملكته. وخلال حرب الخليج رأى هاليفي فيه زعيما يتسم بمزاج قاتم وقدري لكنه في سلام مع نفسه ومستعد لقبول أي شيء يقدره الله له.

في 5 سبتمبر عاد الملك حسين من جولته في العواصم الأوروبية وطار مباشرة إلى بغداد محاولا مرة أخرى إقناع صدام بالانسحاب من الكويت. وكانت هذه الرحلة هي الثانية من ثلاث رحلات قام بها إلى بغداد سعيا لتحقيق تسوية سلمية. وفي رحلته نقل لصدام قناعته الراسخة بان القادة الأوروبيين وحلفاءهم لن يسمحوا له بالبقاء في الكويت. ونصح حسين صدام قائلا «اتخذ قرارا شجاعا بسحب قواتك وإذا لم تفعل ذلك فستُجبر عليه». ولكن صدام ظل على موقفه. كان صدام اقل قلقا على مستقبل العراق منه على مستقبله هو. ربما توصل في حساباته إلى انه إذا أقدم على تنفيذ انسحاب مهين لقواته فان قيادته نفسها ستصير موضع تساؤل.

إن حفاظ الملك حسين على لعب دور صانع السلام في وجه أشكال الصدود العديدة التي واجهها تفوق كل تصور. كان يشعر شعورا عميقا بأن الشرق الأوسط لا يتحمل حربا أخرى وان العالم يجب ألا يفرضها عليه. وجاءت مغامرته التالية في مبادرة سلام مغربية.

في 19 سبتمبر استضاف الملك الحسن الثاني في الرباط اجتماعا دعا إليه الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد. ولم تكن التوقعات في الوصول إلى حل عربي كبيرة لكن رؤساء الدول المجتمعين وافقوا على بذل محاولة أخرى. بعد ثلاثة أيام من ذلك وجه الملك حسين رسالة مطولة إلى الزعيم العراقي نقل فيها رأيهم الجماعي. كان الجانب الأساسي في الرسالة بمثابة نصح لصدام بالانسحاب من الكويت وتحاشي الحرب الوشيكة. وأوضحت الرسالة لصدام أن الحكومات العربية لا تقبل احتلال الأراضي بالقوة ليس فقط بوصفها مبدأ وإنما لأن الفشل في التمسك به سيفيد إسرائيل. وقد مست الرسالة وترا في غرور صدام بإثنائها على قيادته وعلى الإنجازات التي تحققت في ظل تلك القيادة. لكنها تحدثت أيضا عن طموحات القوى الصناعية الكبرى في الهيمنة على المنطقة وحذرته بأن الحرب قد تعود بكارثة ليس على العراق وحده وإنما على العالم العربي بأكمله. وطلبت الرسالة من صدام أن يطرح مطالبه المحددة حول موضوع الكويت لمساعدة القادة الثلاثة للعمل من اجل حل عربي. وبعد أن عرض الملك حسين مخاوفه وضع نفسه في خدمة صدام في هذا الشأن فكتب يقول «لقد غادرت بغداد إلى الأردن قلقا وحزينا وكنت آمل في مواصلة نشاطاتي لوقف التدهور الذي ظل مستمرا منذ ذلك الحين. فهل لنا من استجابة منك لندائنا ونداء كل العرب المخلصين، قبل أن يفوت الأوان؟».

جاء رد صدام إلى عمان مع وزير الخارجية العراقي يوم 29 سبتمبر. لم يستجب صدام للنداء. كان صدام مستعدا لقبول تحدي الحرب لأنه يعتقد أو، على الأقل، قال انه يعتقد، أن الحرب ستكون كارثة ليس فقط على العراق وإنما على الولايات المتحدة وحلفائها. في أكتوبر(تشرين الاول) تم اتخاذ قرار زيادة عدد القوات الأميركية في المملكة العربية السعودية إلى 400 ألف نسمة. وقد تغيرت مهمة هذه القوة العسكرية الضاربة من الدفاع إلى الهجوم. وترافقت مع إرسال هذه القوات البرية والبحرية والجوية إلى المملكة العربية السعودية حملة دبلوماسية مكثفة. في 29 نوفمبر(تشرين الثاني) أجاز مجلس الأمن القرار 678 الذي خوّل استخدام «كل الوسائل الضرورية» ضد العراق إلا إذا انصاع لكل القرارات السابقة في غضون ستة أسابيع. أنع التحول الجذري في الموقف الأميركي الملك حسين بان المواجهات العسكرية صارت وشيكة، ومع ذلك فانه أصر على مواصلة جهوده لاحتواء الأزمة مركزا بصورة مجددة على تأمين الإفراج عن الرهائن الأميركيين المحتجزين في العراق منذ انفجار الأزمة.

عقدت قمة مصغرة في بغداد في 4 ديسمبر. وكانت تلك هي الزيارة الثالثة والأخيرة للملك حسين إلى بغداد خلال فترة الأزمة. كان ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وسالم البيض نائب الرئيس اليمني هناك. وناشدوا جميعا صدام حسين أن يتراجع عن حافة الحرب لكن مسعاهم لم يثمر. وتحججوا بأن تبعات الصدامات المسلحة ستكون كوارثية على العراق والكويت وعلى المنطقة كلها، لكن ذلك كله لم يحرك صدام. تدخل الملك حسين وقال لصدام ان تقييم مستشاريه للأوضاع خاطئ وانهم سيتعرضون لضربة قاسية من الحلفاء وانه يجب الانسحاب قبل فوات الأوان.

احد الموضوعات العاجلة كان مصير الرهائن الغربيين أو «الضيوف» الذين يحتجزهم العراق. وقال الملك متذكرا تلك القمة المصغرة «تجادلنا وتجادلنا، وأخيرا استطعنا أن نخرج ما يسمون بالضيوف من العراق وكان ذلك هو الشيء الايجابي الوحيد الذي خرجنا به».

بعد القمة أعلنت الحكومة العراقية أنها ستسمح لكل الأجانب الموجودين في العراق بمغادرة البلاد. وقام صدام شخصيا، في خطوة تحمل دلالات الاحترام، بمصاحبة الملك حسين إلى المطار. وفي الطائرة قال للملك «لا تقلق يا أبا عبد الله . العالم كله ضدنا لكن الله معنا وسننتصر» فرد الملك حسين قائلا: «هذا شيء يفوق قدرتي على الإدراك أو التعامل. أغادرك وأنا أشعر بحزن وقلق شديدين واعلم أن النتائج، كما تبدو لي، ستكون كارثية في أي مكان. لكن سأعود إلى بلادي فإذا كان هناك ما يمكنني أن افعله بعد فانك تعرف كيف تتصل بي». لم يتصل به صدام بعد ذلك واندلعت الحرب في الشهر التالي.

بعد فشل الملك حسين في تحاشي وقوع مواجهة عسكرية بين العراق والتحالف ذي القيادة الأميركية، تحول اهتمامه إلى الحد من تبعات النزاع على الأردن. كان همه الأساسي هو تحاشي أن يزج بالأردن في حرب ليس طرفا فيها، وكان الملك حسين متخوفا من أن تتحطم مملكته بين الطرفين المتحاربين. وفي ساعة متأخرة من عصر 31 ديسمبر 1990 طار عدنان أبو عودة إلى بغداد في طائرة خاصة لنقل رسالة شفوية من الملك حسين إلى صدام. وعندما وصل ابلغ انه لا يستطيع مقابلة صدام لأن الأخير خارج بغداد فالتقى بطه ياسين رمضان نائب الرئيس وطارق عزيز وزير الخارجية ونقل لهما الرسالة؟ وكانت الرسالة التي تتكون من جملتين هي «احمل تحيات صاحب الجلالة للرئيس. ويود صاحب الجلالة أن تعلموا انه في حالة نشوب حرب فان جلالته لا يريد أن تنتهك الأجواء الأردنية بواسطة أي طرف». وبكلمات أخرى فان الأردن لا يريد أن يكون متورطا في أي خطوة عسكرية، وانه سيدافع عن أراضيه ومجاله الجوي ضد أي اعتداء من أي طرف. أعقب التحذير الشفوي إرسال لواء مدرع إلى الجبهة الشرقية.

نجحت إسرائيل في التقاط علامات التأهب القصوى في الأردن، ومع بوادر ظهور الحرب على الأفق اكتسب الأردن أهمية متزايدة كأرض معارك محتملة بين العراق وإسرائيل. وفجأة اكتشف قادة الليكود قيمة وجود دولة مستقرة يديرها حاكم معتدل على حدودهم الشرقية. وبدلا من إصدار التهديدات بدأت الحكومة الإسرائيلية في إرسال رسائل مطمئنة عبر وسيط ثالث إلى عمان للتأكيد للملك حسين بأنه لا توجد خطط للهجوم على بلاده وحثه على ألا يسمح بدخول قوات عراقية إلى الأردن. وبمجرد انفجار النزاع كتب شامير إلى بوش محذرا بأن دخول أي قوات إلى الأردن سيكون تعديا لـ«خط أحمر» من وجهة النظر الإسرائيلية، كما أوضح شامير أيضا وبجلاء أن إسرائيل ليست لها نوايا عدوانية تجاه الملك حسين، وطلب من بوش ألا يدفع الملك حسين لخدمة الأهداف العدوانية للدكتاتور العراقي.

في بداية 1991 بادر افريم هاليفي نائب مدير الموساد بمحاولة الترتيب للاجتماع بهدف حرمان العراق من استخدام التسهيلات الأردنية للهجوم على إسرائيل في حالة نشوب حرب. وافق حسين على الاجتماع، لكن انتابته الشكوك حول إمكانية مشاركة شامير نظرا للخلافات التي كانت قد ظهرت في لقائهما الوحيد في يوليو(تموز) 1987. لكن شامير رحب بالفكرة عندما طرحها هاليفي.

عقد اللقاء في حديقة بوكهيرس وهي مكان إقامته المعزول والحصين في آسكوت. وصل المدعوون قبل مغيب يوم الجمعة 4 يناير(كانون الاول) 1991 وغادروا المكان نهاية اليوم التالي. رافق شامير كل من الياكيم روبنستاين وزير شؤون الحكومة ويوسي بن اهرون المدير العام لمكتب رئيس الوزراء والجنرال ايهود باراك نائب رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي. أما الوفد الأردني فضم إلى جانب الملك حسين الشريف زيد بن شاكر وعدنان أبو عودة المستشار الخاص للملك حسين والكولونيل علي شكري مدير المكتب الخاص للملك. ذكر الملك حسين أن شامير هو الذي طلب الاجتماع للحصول على تأكيدات بألا يقوم الأردن بشن هجوم على إسرائيل. تمت تسوية موضوع التهديد المحتمل من الأردن على إسرائيل في نهاية الأمر بشكل أرضى الطرفين. والتزم الملك التزاما قاطعا بمنع أي استخدام عسكري لبلاده بأي شكل من الأشكال ضد إسرائيل. أما الموضوع الآخر المتعلق باحتمالات تعرض إسرائيل لهجمات صاروخية من خلال خرق عراقي للأجواء الأردنية وحق إسرائيل في الرد عبر الأردن، فان الزعيمين افترقا من دون أن يتوصلا لاتفاق حول هذا الموضوع الذي يعتبر موضوعا حاسما.

سجّل الاجتماع نجاحا فاق كل تصور. فتأسست علاقة صداقة متبادلة بين الزعيمين. كما تم التوصل إلى تفاهم استراتيجي بان الأردن سيكون محايدا إذا بدأت القنابل تتساقط في الخليج وان إسرائيل ستحترم هذا الحياد. وهكذا نجح الملك حسين في أن يحافظ على بلاده خارج دائرة حرب الخليج بالرغم من كل الضغوط الخارجية عليه للانضمام للتحالف والضغوط الداخلية للوقوف إلى جانب العراق.

* غداً: الأردن ومشاكل ما بعد حرب الخليج واكتشاف إصابة الملك بالسرطان


تعليقات