عبدالعزيز الدوري: عذوبة الرافدين وعطاء المعرفة العراقي في الأردن

عبدالعزيز الدوري: عذوبة الرافدين وعطاء المعرفة العراقي في الأردن

نشر: 15/3/2010 الساعة .GMT+2 ) 08:42 a.m )
|
بورتريه للاكاديمي عبد العزيز الدوري بريشة الزميل احسان حلمي

د. مهند مبيضين

عمان - "تفتقده الجامعة الأردنية جداً" ذلك ما تراه رئيسة قسم التاريخ بالجامعة الأردنية، د.غيدا خزنة كاتبي. فالأستاذ الذي ظل متقدا وهاجاً وما زال، يطول غيابه أحيانا عن الجامعة، وقد مر على وجوده فيها أستاذا وباحثا ومعلما كبيرا، مواصلاً مسيرة عطاء امتدت لأربعة عقود، مؤكدا أنه صاحب حرفته ويملك أسرار الصنعة.

أردنيته العظيمة ليست في محل تولده، فكثيرون ممن لا تسعفهم شجرات نسب كاملة في التقاط لحظة عطاء واحدة للبلد، بقدر ما يعطون لذاتهم فقط، بيد أن عطاءه تجلى في تأسيس جيل من الباحثين وعنايته وعضويته بمختلف لجان العمل العلمي بالجامعة الأردنية، وهو الذي أمد الأردن بوجوده بخيط من حكمة الرافدين في عالم الجامعة الأردنية.

عمل الدوري في الجامعة الأردنية بصمت كبير، وكان مواظبا على البحث والمحاضرة، ودرسه من أصعب الدروس، لأنه المعرفة طوع بنانه ولا تغادره، صرامته وحدته تظهران حين لا يحتمل الجهل، إلا أن اللطف والسماحة لا تغادرانه فيجعلان معرفته مفتوحة للطلبة، يصغي للطالب جيداً ويحاوره، ولا يدعي مثل كثيرين من الأساتذة انه ديمقراطي، وفي داخله قنبلة من العنف.

مشواره المعرفي طويل من كتابة مقدمة في تاريخ صدر الإسلام وتاريخ العراق الاقتصادي، فالتكوين التاريخي للأمة العربية ورسالته عن القومية العربية وغيرها، مما يصعب حصره في هذا المقام، هذا إلى جانب إثرائه للبحث التاريخي والمشهد الثقافي الأردني عبر مساهماته الثقافية، وعضويته للجان تأسيس الجامعات ومنها جامعة آل البيت، أو في تأسيسه لمؤتمر تاريخ بلاد الشام إلى جانب مؤرخين آخرين أمثال الراحل إحسان عباس ود.عدنان البخيت والمرحوم مصطفى الحياري وعلي محافظة وغيرهم فترة طويلة.

بين مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي والجامعة الأردنية، كان للدوري مشوار مطول في البحث وجمع النصوص من مصادرها سواء في عمله على فهارس الاقتصاد الإسلامي، الذي لازمته به الدكتورة غيداء كاتبي ومجموعة من الباحثين الذين كان يكلفهم "ممن يثق بهم" إلى جانب عمله على فهارس الفكر التربوي وأعمال أخرى.

في العام 1968 تعاقد عميد كلية الآداب الدكتور عبدالكريم غرايبة، مع عبدالعزيز الدوري الذي ترك العراق وقرّ في بيروت بالجامعة الأميركية، يقول غرايبة: "جاء الدوري وذهبت أنا في إجازة تفرغ لتركيا، ومن ذلك العام شرع في التدريس وبفضله عملنا الدراسات العليا في الجامعة الأردنية".

أجمل ما في حديث الكبيرين غرايبة والدوري أنه حديث ثقيل موزون، فغرايبة يقول: "سبقني الدوري للخير والمروءة، عندما عدت من لندن، ولم أجد عملاً، وكنت (ميتا من الجوع)، فأرسل لي الدوري عقد عمل بجامعة بغداد العام 1951". وعن حدود الزمالة يرى غرايبة أن زمالة الدوري كانت رائعة "وكنا نغار منه لتقدير رئاسات الجامعة له".

عندما جاء الدوري سكن بداية في جبل اللويبدة "في فندق سليكت، وكان محمود السمرة وحسن النابلسي وصدقي القاسم يذهبون لصالونه صباح كل جمعة". ومن ثم انتقل في عدة منازل منها في ضاحية الرشيد، وهو اليوم في شارع المدينة المنورة، ومع حبه لعمان إلا أن حنينه للدار الأولى ما زال كبيرا.

الصدق هو وجه الرجل، المحبب لجميع من عمل معه من طلبة وموظفين وزملاء، فابن "الدور" المولود العام "1919م" حمل اسم منطقته والتصق بها، درس الثانوية في بغداد. وعلى الرغم من رغبته بدارسة الطب إلا أنه وجد نفسه دارساً للتاريخ الاقتصادي، وكان من أوائل المبعوثين إلى لندن في الأربعينيات، ثم عاد ليعمل في دار المعلمين، وبعد ذلك في جامعة بغداد، التي تبوأ مقعد الرئاسة فيها حتى غادر الوطن بعد وصول البعثيين. وخلال تلك الفترة كان يرى أن الجامعات لا بد لها أن تتمتع باستقلالية كاملة ولذلك عارض إنشاء وزارة تعليم عال في بلده، واتُّهم بأنه "يقيم دولة داخل دولة".

اشتبك مع السلطة ونقدها على طريقته، ولكنه رفض السياسة والحزب، ومع ذلك يتهمه البعض بأنه كان يعين الوزراء، وحدث مرة أن ذهب للعلاج في بيروت "وقال لي الطبيب: لمن تركت العراق؟ وفي ذلك إشارة لدور سياسي لي فيه، وفي الحقيقة أنني ابتعدت ما استطعت..".

واتُّهم أنه يخفي خلف شخصية المؤرخ الأكاديمي آخر سياسياً. وقد دفعه نقده للسلطة أن يدخل السجن، وأن يُتّهم بالتحريض على الثورة والفوضى، وكان ذلك إبان حكم عبدالكريم قاسم، ولم يخرج إلى عند الانقلاب الذي أطاح بعبد الكريم القاسم، وما يزال الدوري اليوم قابضاً على "روح الأمة وهويتها"، يؤمن بالتاريخ كعنصر وعي في الهوية، ويرى أن العراق سائر على طريق أفضل على الرغم من صعوبة المرحلة.

الدرس التاريخي عند الدوري دقيق، والثقافة التاريخية الواسعة المثقلة بهموم الراهن تجعله أحيانا يفر منها للأدب. فالأدب عنده ملاذ للروح من نكد الحياة، وقد يكون استراحة للعقل، كما يعتقد بأن القول بنهاية التاريخ أمر بعيد عن واقع الفعل الإنساني وعن حركة التاريخ، لذا يرفض الحديث عن النهايات.

ارتبط الدوري بعلاقات وطيدة مع العائلة المالكة خلال حكم الأسرة الهاشمية للعراق، وكان بين مدرسي الملك فيصل الثاني، إذ قام بتدريسه التاريخ الأوروبي، وربما يكون ذلك من أسباب اختياره، فيما بعد، عمان داراً يبذل فيها من الجهد والمعرفة، مما أغنى الكثير من أبناء الجامعة الأردنية وغيرها.

علّم طلبته أن التاريخ مجال الضرورة ومحكمة العقل، ولكن صوت الحكمة القادمة من أصداء دجلة وخلود الفرات، ظل يرى أن العراق ينهض من كبواته التي مرت به قد يغيب عن الحضور لكن روحه عصية على الخروج من الجغرافيا، وقد عاش (أبو زيد) بعد استلام البعث عراقياً من دون غربة عن الوطن على الرغم أن الطريق إليه قد بعدت.

عراقي، أردني، عربي؟ ليس ذلك ما يسأل عنه الرجل. فهو في عطائه الكبير رجل للأمة، ميزته عن أقرانه أنه لا يدعي فضلاً أو يتمسك بالكرسي، وعلى كثيرين أن يتعلموا منه مرتين، الأولى في عبرته من التاريخ، والثانية حين يحدق بهم مطولا مستحضرا حكمه الذي لا يخطئ، لكنه يطاوله صبرا وممانعة فيرفق بهم ويقول "زين ما يخالف ويبتسم.

يُقر بأن ما حدث للعراق أصاب الكل بالدهشة أو بلغ فيهم حدّ الذهول. وهذا لا يترك مجالاً لكتابة التاريخ الرصين، لكن من المهم تسجيل ما جرى، ومن زاوية أخرى يرى أن علينا "أن نعترف بأن الأحداث تمر بسرعة، وما يرافقها من تبعات ومآس"، وكان حذّر في حوار مع "الغد" العام 2006 بأن ما جرى للعراق "قد يحدث نوعاً من الإحباط، وفي الوقت نفسه فما حدث هو عامل تحدٍ يجب أن يدفع للدراسة ورصد الأسباب والتساؤل عن دواعي ما وصلنا إليه ويجب أن ننتبه إلى رأي الشعوب لأنها هي التي تحيا وتستمر..".

لا يُعرف عنه الشغف بكتابة المذكرات، كان يفكر بذلك لكن لا يعرف إذا ما انجز شيئا منها وحين يسأل عن ذلك "هذا سؤال يراود الإنسان بين حين وآخر، أحاول أحياناً لكن كلما بدأت واجهتني صعوبة، فالذاكرة ممتلئة فأتوقف".

يرى أن كتابة المذكرات سبيل للإبقاء على العلاقة مع التاريخ، وذلك بتسجيل أحداث عادية. أما أنا فأفهم المذكرات بأنها تعطي صورة عن المرحلة والأحداث وفيها رؤية لمسيرة المجتمع.

يتذكر أنه في يوم 19 آذار 1917م، وعقب احتلال الإنجليز للعراق أصدر الجنرال مود بياناً للعراقيين، قال فيه: إننا لم ندخل بغداد فاتحين، إنما دخلناها محررين. هل نقول أن اليوم شبيه بالبارحة؟

حين كان تلميذا كان يفكر بدراسة الطب "بدأت المرحلة الثانوية في دراسة فرعي الرياضيات والعلوم، لكن ظروف العائلة لم تسمح لي بالدراسة العلمية، وبقي أمامي خيار الأدبي، وقد أحببت دراسة الاقتصاد عندما صعب خيار الطب، ولكن لم يكن هناك ابتعاث إلا في التاريخ فاخترت ذلك، لكنني لم ابتعد عن رغبتي في الاقتصاد، فقد كتبت أطروحتي بالتاريخ الاقتصادي".

كان معه في لندن نقولا زيادة "زميلي وصديقي كان معي في كل المرحلة"، وبعد العودة التحق بالعمل في دار المعلمين العالية، وكان ذلك في العام 1943م "كان التدريس جيداً، وكانت دار المعلمين تجمع اختصاصات متعددة، وبعد ذلك دخلتُ في جامعة بغداد كمدرّس أصبحت عميداً لكلية الآداب، ثم رئيساً للجامعة".

في عهد عبدالكريم قاسم كان رئيساً لجمعية المؤلفين والكتاب "حدث أن تم التضييق على الجمعيات والنقابات، فقررنا إرسال رسالة للرئيس، وكنت الأصغر سناً بين الأعضاء، وفعلاً حملت الرسالة إلى مكتب الرئيس، فسألني مدير مكتبه بما معناه أمدرك أنت لما قمت به؟ فأجبت: نعم، وعندما عدت للمنزل، جاءت الشرطة فأخذوني للسجن، وتم اقتيادي إلى المحكمة العسكرية وأزعجني منظر القيد في يدي، فقلت للشرطي أن يخلعه وهو يقودني فقال: لي عيني أنت منزعج منه، فقلت نعم قال: هذا زينة!".

تزوج في بغداد من السيدة راجحة الدوري، وأنجبا أربعة أبناء هم "د.زيد وهو طبيب، ود.طه ويحمل دكتوراه في هندسة العمارة، وهدى وهي طبيبة، وبشرى تحمل درجة دكتوراه في الهندسة الكيماوية".

mohabad.almubaidin@alghad.jo

تعليقات