وجدان الجمعاني نموذج أردني في الصبر والكفاح والإنجاز


وجدان الجمعاني نموذج أردني في الصبر والكفاح والإنجاز
نشر: 19/7/2010 الساعة .GMT+2 ) 23:59 p.m )
|
بورتريه لوجدان الجمعاني بريشة الزميل احسان حلمي

د. مهند مبيضين

عمان - خلف كل مناضل مناضلة، إن لم تكن على قدر المهمة ضاعت الدنيا والأسرة، ولكن حين تكون السيدة صلبة راغبة في الإبحار في التجربة لأقصى مدى، تكون التجربة أغنى وأجمل.

أربعة وثلاثون عاما قضاها زوجها في المعتقلات السياسية، من اعتقال متقطع في المحطة والجفر إلى اعتقال استمر أربعة وعشرين عاماً في سجن المزّة بدمشق، أقل ما تصفه بذاكرتها بأنها "يا ابني الله يرضى عليك... كانت أيام صعبة الله لا يوريها لصديق".

جرّ الزوج ضافي الجمعاني عضو حزب البعث في آذار 1956م متاعب طويلة إلى الأسرة، وبالأخص الزوجة، تقدم ضافي في الحزب وصار عضواً في اللجنة العسكرية التابعة للقيادة القُطرية، ما أودى به بعيدا، فغاب طويلا منذ العام 1970، عندما قاد الرئيس حافظ الأسد الانقلاب واعتقل قادة الحزب.

كثيرا ما لقيت سيرة هذا الزوج المناضل اهتمام الإعلام، لكن كثيرين لا يعرفون أنه ترك وراءه سيدة عظيمة الصبر وخمسة أبناء، تقدموا في العلم والمعرفة واعتلوا بعض أهم المواقع العامة، وكان ذلك جزاء كفاح الأم التي لم تترك زوجها ولم تتوقف عن زيارته وشدّ أزره حتى خارج حدود الوطن في سجن المزة.

واجهت السيدة وجدان الجمعاني الكثير من الصعاب في تربيتها لأولادها الخمسة في ظل غياب رب الأسرة، غياباً قسرياً شكّل محنة ألمّت بهذه الأسرة. وكانت طريق زيارته إلى دمشق مرة طعماً وعصيبة في الذاكرة، رغم أنها تبدو لمعظم الناس مجال ترويح وفرح، إلا أنها في ذاكرتها "كانت الحدود صعبة جدا".

لا ترغب أم موسى بذكر التفاصيل، لكن عينيها تفيضان بحكايات الطريق وزيارات السجن والطعام الذي كانت تأخذه لزوجها من مطعم أبو كمال في دمشق "كنت آخذ طعاماً لسبعة عشر شخصاً هم مجموعة أبو موسى، كان الدور مرتبا على كل أسرة، "وأحياناً، عندما كنت لا أتمكن من الزيارة، كنت أتصل بمطعم أبو كمال بدمشق وكان هو يؤمن إرسال الطعام".

"زيارات سجن المزة كانت صعبة، كنت أروح وكان أخي يروح معي أحيانا لأجنِّب أبنائي متاعبها، وكنت أذهب لإحضار إذن الزيارة من القابون على طريق حمص، وأعود لسجن المزة وكانت معي بعض الحاجات من اللبن والجبنة والشفرات والبويا". وفي الزيارة الخاصة كانت أم موسى تنقل أخبار الأبناء والأهل "كان لما يقرأ نتائجهم في الدراسة يرتاح"، والزيارات لم تبدأ إلا بعد عامين من اعتقاله "بقينا لعام ونصف لا نعرف شيئاً، وبعد ذلك طلبوا أن نحضر لأبي موسى ملابس وبعض الحاجات الخاصة".

لم تبخل السيدة وجدان على زوجها بالدعم، كانت وفية للغياب، بقدر ما استطاعت، الأم التي زوجت أبناءها جميعا في ظل غياب والدهم، صبرت واصطبرت كثيرا في بيئة مجتمعية تقليدية "كنت أتمنى أن أسوق السيارة لأقضي حاجات البيت، وكان موسى قد سافر للدراسة وترك سيارته، وكذلك إحدى أخواته، ولأني لا أعرف القيادة قمت ببيع سيارتيهما".

حين كان أحد أنسبائها يأتي لطلب يد واحدة من بناتها، كانت تطلب منه الانتظار حتى تزور زوجها، تقدم له المعلومات وتستشيره، ويتأخر الرد إلى ما بعد الزيارة الثالثة حتى يتسنى لأبي موسى دراسة طلب الزواج.

تدبير اقتصاد المنزل كان يحتاج لحكمة وتعب مضاعف "تعلمت الخياطة عند معلمة لهذه المهنة" وكان على السيدة وجدان أن تدبر أملاك الزوج الغائب "زوجي يكون ابن عمي، توفي والده مبكرا وعمره عامان، زوجني إياه والدي وقسم له رزقا بقدر ما طلع له، كانت له أراضٍ بالشفا ومزرعة في الواله".

قدّر أبناؤها، برأيها، غياب والدهم فتفوقوا في الدراسة، لكن عبد الله كان "الأكثر غلبة" والأكثر كلفة في التدريس، أما موسى فكان "حنونا وكنتُ أهدد الأبناء به".

ولدت وجدان الجمعاني في "الحارة الشرقية" بمدينة مادبا العام 1933، كان والدها- الشيخ سلمان- ميسوراً، وكان واحداً من شيوخ بني حميده، أما والدتها فكانت من أصول دمشقية.

أراد لها والدها أن تتعلم فأرسلها لمدرسة مادبا التي درست بها حتى الصف الخامس "لم يكن في المدرسة صف أعلى في ذلك الحين في مدينة مادبا". وحين سمعت بأن النية تتجه لافتتاح صف سادس قررت وجدان أن تعيد الصف الخامس كي لا تغادر المدرسة وعلى أمل إتمام الدراسة، وفي أيامها "كانت مديرة المدرسة من عائلة رمضان، وكان مصروفي قرشا، وكان ثمن الست دفاتر قرشا". أحبت وجدان الرياضيات والجغرافيا والتاريخ "كنت أكره الإملاء" أما تدريس اللغة الانجليزية فكان غير موجود.

سجلها والدها بعد ذلك بالمدرسة الأهلية للبنات "دفع الرسم دينارا، لكن العالم لجّوا عليه، كيف ترسلها للمطران؟ ورضخ والدي لضغط الناس".

اضطرارها للكتابة لأبنائها الذين سافروا للدراسة في الخارج ومراسلتهم شجّعها على مواصلة تعليمها، فكانت تكتب كل يوم خميس أربع رسائل: لموسى ومريم في بغداد، وعبد الله في إيطاليا، وكفاح في الإسكندرية، وسليمان في بلغاريا.

في سيرتها تحب وجدان الجمعاني أن تخرج بحديث الذاكرة إلى حياة الناس ومجتمعها فتتحدث عن الحالة الاقتصادية في ذلك الحين "أضرب لكم مثلاً بسيطاً، كان ثمن صاع القمح قرشين، وصاع الشعير بقرش وكان ثمن الخروف أربعة دنانير، أما الحالة الاجتماعية فمعظم الناس يعرفون بعضهم، وعلاقاتهم مع بعضهم البعض كانت جيدة للغاية وأهم شيء يميز ذلك الوقت أنك لا تكاد تشعر أن هناك سلطة".

انتسبت عام 1949 لجمعية الهلال الأحمر الأردني، وما زالت عضواً فاعلاً فيها حتى الآن، حيث تشغل حالياً منصب نائب رئيس جمعية الهلال الأحمر الأردني/ فرع مادبا.

تزوجت من ابن عمها ضافي الجمعاني العام 1950، وكان قد تخرج من مدرسة المطران، وعمل ضابطاً في الجيش الأردني، انتقلت للعيش معه في معسكرات الجيش بمدينة الزرقاء حتى العام 1957 حين عادت للعيش في مادبا على إثر اعتقال زوجها اعتقالا سياسياً، وبقيت عند أهلها في مادبا حتى أفرج عن الزوج العام 1962، وكان لديها آنذاك من الأطفال أربعة (ولدان وبنتان)، وفي آذار عام 1963 اعتُقل زوجها مجدداً، وأمضى في السجن أربعة عشر شهراً، عاد بعدها للعمل مديراً إدارياً في مجلس الإعمار انتقل بعدها للعمل مديراً للمبيعات في شركة الفوسفات التي بقي فيها حتى العام 1968 حيث استقال والتحق بالمقاومة الفلسطينية.

بعد أيلول عام 1970، خرجت المقاومة من الأردن، وخرج زوجها إلى سورية، حيث اعتُقل عام 1971 على إثر انقلاب الرئيس حافظ الأسد، وبقي في السجن حتى عام 1994.

عند اعتقال زوجها للمرة الثالثة في سورية عام 1971 كان عدد أولادها قد بلغ خمسة، وكانت أعمارهم تتراوح بين الخامسة والثامنة عشرة، وكانوا على مقاعد الدراسة "تمكنت من تربيتهم وتعليمهم ومساعدتهم في تكوين بيوت خاصة بهم".

تخرج ولدها الكبير، موسى، مهندساً مدنياً من بغداد وحصل على الماجستير في إدارة مصادر المياه وعمل أميناً عاما لسلطة وادي الأردن، اما ابنها الثاني، عبدالله، فيعمل طبيباً مختصاً في النسائية والتوليد، ودرست ابنتها الثالثة، مريم، المحاسبة، وتخرّجت الرابعة، كفاح، طبيبة أسنان وتشغل الآن منصب عميدة لكلية طب الأسنان بالجامعة الأردنية، فيما يعمل الخامس، سليمان، مهندساً في شركة الفوسفات.

ترى أم موسى أن تربية الأولاد وزيارة السجن كانت من أصعب المهمات التي يواجهها أي انسان و"لكن بالعزم والصبر والإرادة وتوفيق الله تمكنت من الصمود وربيت أولادي وتحملت جميع مسؤولياتي".

يرى ابنها البكر، موسى، أن أصعب السنوات التي عاشتها والدته كانت بين عامي 1970-1975 حيث: "كانت بداية اعتقال الوالد، وفجأة كبرنا ودخلنا الجامعات مما رتب مسؤوليات كبيرة على الوالدة وكانت إدارتها جيدة لمصادر الدخل الذي يأتي من مزرعة الواله وفلاحة الأرض".

أصعب لحظات العمر عند أم موسى كانت: " لمَّا رُحت لعنده مرة وكان طالع في مجموعة من اللي عنده وطلعت ولقيته ضعفان وسألته عن صحته، وقال لي إذا بيصير لي إشي، يعني بموت، بتحطوني عند أهلي في مسقط رأسي.. تألمت كثيراً".

"ومن اللحظات التي لا تنساها "عندما كنت في زيارة له في وقت الثلج وكان معنا رجل مسن في السيارة ولحيته طويلة أخذونا للمزة وكان الرجل يوحد الله وقام شرطي بضربه وأُدخل غرفة خرج منها منكسر الخاطر وقد وُبخ وأُهين من قبل أفراد الشرطة الصغار.. كل ما أرى رجلا ملتحيا أتذكر تلك الإهانة الصعبة للرجل المسن".

الزوجة لم تكن لتلوم زوجها أبدا على خياراته السياسية وهي تؤكد لو أنه أتيح لها أن تستعيد التجربة لمضت على نفس الطريق: "كنت سعيدة رغم التعب، ولم يكن هناك شيء معيب، بل أفتخر بإنجاز الأسرة".

الحياة بعد خروج أبي موسى من الاعتقال عادت لجمالها "نعيش الآن معا مع زوجي منذ خروجه عام 1994 في واقع اقتصادي فيه صاع القمح بتسعين قرشاً وصاع الشعير بخمسين قرشاً وثمن الخاروف بمائة دينار وسلطة الدولة تحيط بك من كل جانب".

تعليقات