حران زريقات: جراح القلوب البعثي يحنّ إلى الجيش

حران زريقات: جراح القلوب البعثي يحنّ إلى الجيش
نشر: 21/6/2010 الساعة .GMT+2 ) 00:25 a.m )
|
بورتريه لحران زريقات بريشة الزميل احسان حلمي

د. مهند مبيضين

يقرّ بحاجة الطبيب للأدب، ويرى أن نتائج ابتعاد الأطباء عن القراءة والمطالعة تكون سلبية في مهاراتهم الاتصالية.

شخصية الطبيب وجراح القلب، الذي عالج الكثير من السياسيين والرؤساء، تتوارى وراءها شخصية رجل سياسة، ومثقف ينهل من الشعر العربي قبل الإسلام، أكثر مما يقرأ في الطب.

عقدة الذاكرة تتمحور في حقبة ما بعد النكسة وصولا إلى العام 1970 في الأردن، وأما الوعي فكان كثيفا وثقيلا في حضور الأفكار القومية في طفولته، مما قاده للانتساب لحزب البعث وهو في الرابعة عشرة من عمره.

يتذكر حران زريقات عمان في العام 1948 "كنا نقطن شارع خرفان ببيت من غرفة واحدة ومغارة، وكانت المغارة جزءاً من الاستقبال، والغرفة الوحيدة للنوم". ما يزال يزور الشارع الذي نسج فيه أولى الذكريات "ما يزال يحتفظ بشكله"، ويتذكر "درج الزعامطة" حين كان والده ينتظره، وهو عائد مع شقيقتيه للبيت "من مدرسة اللاتين على آخر الدرج".

في العام 1950 رحلت الأسرة لجبل الحسين "لم يكن المخيم موجوداً"، وهناك "كنا أكثر سعادة". ففي مدرسة اللاتين كان عليهم أن يحضروا مبكرا للصلاة، أما كلية الحسين فبدت "أفضل وأريح". وبعدها انتقل لمدرسة رغدان، ومنها عاد في الرابع الثانوي والخامس الثانوي إلى كلية الحسين ليتخرج منها في المترك.

طفولته الحقيقية في مدرسة رغدان "كانت فترة جميلة، وفيها حراك سياسي في أواسط الخمسينيات". أما زملاؤه في مراحل الدراسة فعديدون، ومنهم سامي قموه وغالب زريقات ومنذر حدادين.

أساتذته الذين أثّروا به، مصطفى الحسن، "تعلمنا منه عشق اللغة"، وفي الرياضة خالد الطاهر، ووليد مورلي في الانجليزي، لكن الفريد منهم محمود العابدي "كان عظيما ومثقفا، ويتحدث في كل شيء، هو مؤلف وأعظم مربٍ مر علينا إذ فتح عيوننا على العالم".

كلية الحسين بدت آنذاك "سوربون الأردن"، فإلى جانب عراقة مدرستي السلط والكرك، ظهرت كلية الحسين، كانت أوسع دمجا وأكثر تنوعا من حيث الطلبة، ونوعية المعلمين، وقربها من مركز الحدث السياسي.

دخل حزب البعث وعمره 14 عاما، حدث ذلك في عجلون"كانت عمليةً سريةً، ذهبت مع سلطي مزاهرة ومحمد فريد الصمادي وحلفنا يمينا، وردّدنا قسم الحزب في الشارع الرابط بين مستشفى الإيمان حاليا –المعمداني سابقا– وعجلون".

آمن بفكر البعث، متأثرا بالتاريخ والثقافة العربية، ومثل هذه الأجواء جعلت حلمه وهو صغير بأن يصبح عسكريا، ففي الصف الخامس سألته المعلمة (love green) ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟ فأجاب بأنه يريد أن يكون عسكريا ليطرد الاستعمار الأنجلو أميركي، "ولم أكن أعي المعنى"، لكنه سمع المصطلح من الناس.

سيرته تشير إلى خلطة تبدو سر نجاحه، فهو معتاد على المطالعة والزراعة، وقديما لما كان شراء الكتب صعبا، كان الحزب يؤمن المجلات لهم، ومنها مجلة الآداب، " قرأت سارتر في مسرحية الذباب، وكان عمري أربعة عشر عاما، كانت النشرات تصلنا عن طريق الشام".

برأيه: وزارة التربية أواسط الخمسينيات دخلت تحت وصاية الإخوان المسلمين، ومن ثم الدولة سلمت الجامعة الأردنية لهم، آنذاك كان الإخوان يعتبرون "أن كل ما نقرأه كفراً، وذلك المناخ ولّد ثقافتين، واحدة اتجاهها غربي، وأخرى إسلامية تراثية، لكن من دون أرضية للحوار بين الثقافتين".

بعد المترك طُلب للابتعاث في وزارة التربية، كان الأول على اللواء، وأصرّ وزير التربية، محمد علي الجعبري، على أن يبتعثه لدراسة الرياضيات، فذهب لبيروت على حساب النقطة الرابعة (برنامج المساعدات الأميركي).

درس في السنوات الثلاث الأولى مواد بالرياضيات، والطب، ثم دخل كلية الطب تحت تأثير الأسرة، فانقطعت بعثة الوزارة، ودرّسه والده لمدة عام على حسابه الخاص، ووصل إلى خيار صعب عندما أخبره والده بعدم وجود المال الكافي للإنفاق عليه "قال ما فيش شي، ومن ثم وصلنا لحابس باشا رحمه الله، الذي أمر أن أُتمّ الدراسة على نفقة الجيش".

في بيروت، ظل على انتمائه القومي "كان علي السحيمات، أبو معن، مسؤولي التنظيمي". وهناك تعلم أكثر في السياسة "في مطعم فيصل، الذي كان ملتقى السياسيين العرب، رحنا لبيروت رعياناً، وبيروت هذبتنا، وكانت أول اتصال لنا بالخارج، وعلمنا عبد العزيز الدوري وقسطنطين زريق وأذكر نزار قباني عندما ألقى سنة 1958 قصيدته الحب والبترول، وأذكر الرئيس نهروا عندما ألقى محاضرة في الجامعة".

عاد للجيش بعد أن أتم الدراسة، لتكون بداية الخدمة في مستشفى ماركا العسكري، ومن ثم بسلاح الجو، وفي العام 1967 "التحقنا بلواء الحسين بن علي بالعقبة"، لكنه عاد وتخصص بالقلب في الجامعة الأميركية ببيروت، ومن ثم بمستشفى سانت جورج بلندن، ومستشفى كليفلند كلينك في ولاية أوهايو، وبقي في الجيش إلى العام 1980، حين غادر إلى القطاع الخاص.

رقمه العسكري 4739، ورقمه بالحزب 1089، ولما أراد السفر إلى بيروت ذات مرة طلب إليه كاتب الأمر رقمه العسكري، فأعطاه رقمه الحزبي ومر الأمر بشكل عادي، ذلك الرقم سيظل محفورا في وعيه، وفيما يؤمن به، "بقيت في الجيش على انتمائي الفكري".

النكسة تشكل الحزن الأكبر في ذاكرته، ليعمل بعد العام 1967 مع حركة فتح "كانت حركتهم صعبة، وإمكاناتهم قليلة، وكنت أنقل المقاتلين بسيارتي، وأنا عسكري" وبقي على ذلك حتى العام 1970.

الطبيب العسكري يصف توجهه السياسي "طول عمرنا معارضون"، وصداقة زوجته مع المرحومة الملكة عليا جعلت الراحل الكبير الحسين يعرف كل شيء عنه "مرة قلت للحسين مليح اللي ما انتصرنا (البعثيين) في الخمسينيات والسبعينيات، كان خربنا الدنيا يا سيدي، وصمت رحمه الله".

يذكر، وهو طيب أنه وبعد توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد، طلبه الملك صباحا، وكان يصيبه رجفان أذيني في القلب "طلعت أنا وسمير فراج وكان منفعلاً في قصر الهاشمية، ولما طلع وضعه مليح، دعانا للفطور، وقال: نحن فقدنا مصر، وهي مهمة، ويجب أن نجد بديلا، وهناك بديل واحد وهو تركيا، ويجب أن نركز على تركيا ونقرّبها إلى الخط العربي".

بالجيش مرضاه عاديون، في القطاع الخاص عالج كثيرين مهمين، لكن أحبهم إليه وأقربهم هم " المرضى البسطاء ارتاح معهم أكثر".

ومن الرؤساء والسياسيين الذين عالجهم الملك حسين، وياسر عرفات، وعبد الحليم خدام "قلبه قوي عملنا له فحص جهد حين كان نائب رئيس جمهورية، وكان معه زيد الرفاعي وقال زيد له وهو يمشي على جهاز فحص الجهد: يا أخ عبد الحليم المشي على الجهاز مثل العمل السياسي".

عالج أغلب رؤساء الوزراء الأردنيين، وأكثر "مَن غلّبه المرحوم عبد المنعم الرفاعي، كان يتصل بي مبكرا الساعة السابعة، وكان يعاني من احتشاء عضلات القلب". أما طه ياسين رمضان فكان يأتي للتشييك"، ومن أهل الأدب عبدالرحمن منيف "كان عنده مشكلة بالقلب والكلى، وهو في منتهى الأدب".

في العام 1972 عمل أول عملية قسطرة للشرايين التاجية في الأردن، وكانت في مستشفى ماركا، " وأكبر إنجاز لي فتح قسم طب في مستشفى الخالدي، كانت مغامرة، وهذا غيّر مسار الطب الخاص في الأردن".

في الجيش يعتز بالخدمة العسكرية، ويرى أن فضل الجيش على قطاع خدمات الطب في الأردن لا يقدر بثمن "لولا الجيش وتمكينه لنا لما وصلنا لما نحن عليه اليوم".

في السبعينيات كانت المدينة الطبية المركز الوحيد في المنطقة، الذي يجري عمليات القلب "أول مريض جاءني من سورية، من دار الكيالي، حُوِّل لنا، وعملنا له عملية تغيير صمام في العام 1973 وما زال إلى الآن يراجعني".

بعد خروجه من الجيش في العام 1980، لم يكن في أي مستشفى غرفة عناية حثيثة "عملنا الغرفة في الخالدي، وعملنا جراحة قلب، وكانت بدايةً فتحت آفاق العمل فيما بعد للقطاع الخاص، وهذا ما أعتقد أنه إنجاز أفخر به". أكثر لحظات الحياة حنينا "فترة الجيش كانت حقبة جميلة جدا"، وأصعب فترة "أيام التخصص".

أبو عامر مغرم بالأدب العربي، وبخاصة العائد لقبل الإسلام، وأعظم شاعر يراه الشنفرى "هو أول وجودي" عندما يقول: "لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ،

سرى راغبا أو راهبا وهو يعقلُ"

ولد حران زريقات في العام 1942 بالسلط، يومها كان والده يعمل بدائرة الأراضي والمساحة، ولا ذاكرة للسلط عنده، فما لبثت الأسرة أن سكنت لفترة وجيزة بصويلح، ثم انتقلت لحي المصدار في عمان، ومن بعده إلى شارع خرفان.

تزوج في العام 1974 من السيدة ريما توفيق أيوب، وأنجبا ثلاثة أولاد عامر، وهو أستاذ بجراحة السرطان بجامعة بتسبرغ بالولايات المتحدة، وعليا تخصصت بالحضارة الأوروبية والإدارة العامة، والصغير كريم درس الحقوق ويعمل محاميا.

زوجته ريما أسست جمعية لأهالي وأصدقاء المعوقين، قبل عشرة أعوام، وهي التي ساعدت ابنته عليا على الشفاء من مرض الشلل الدماغي بحمد الله، و"الآن عليا بكامل عطائها".

حقق ما يريد بالطب، ومزرعته بعجلون طبق فيها حبّه للزراعة وسماها المتعزل نسبة لما قاله الشنفرى:

"وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى،

وفيها لمن خاف القلى متعزل"‏

ذهاب الأطباء أكثر للسياسة يعتبره أمراً طبيعيا "كل أصدقائي ممن ذهبوا أكثر للسياسة ندموا، ولم يحققوا الكثير".

يخشى د. حران أن تفيض ذاكرته بكل شيء، وبخاصة بين عامي 1967-1974 "فترة الهزيمة كانت صدمة، وفتح المتنفس، كنت مستعداً أن أعمل أي شيء، والصدمة الأكبر كانت في أيلول".

mohannad.almubaidin@alghad.jo

تعليقات