باجس حدادين: "موظف تسوية" من الزمن الأميري، ثروته تكمن في نزاهته

باجس حدادين: "موظف تسوية" من الزمن الأميري، ثروته تكمن في نزاهته

نشر: 10/8/2009 الساعة .GMT+2 ) 10:49 a.m )
|


يحمل في ذاكرته قصة تسوية أراضي الأردن وفلسطين، وحراك السكان وانتقالهم وتوزيع الملكيات عليهم، يقدم نفسه موظفا أميريّاً، من الإمارة ثم الاستقلال فزمن الوحدة. كان بوسعه أن يثري ويصبح مليونيرا لو أمات ضميره للحظة "لو فتحت جيبتي كان ما بتقدر تقابلني بس رأس مالي كان نظافة أيدي".

يؤكد أن الدولة لم تكن تختار في زمنه مسؤولاً بقضايا المساحة والأراضي إلا ويكون منوطا به تحقيق العدل بين الناس، يفخر بسجله الوظيفي في المساحة والأراضي والذي بدأ منذ العام 1947 لأنه "بدون أي شكوى".

ولد باجس حدادين العام 1931 في قريته ماعين التي تقع إلى الجنوب الغربي من مادبا، وتبعد عن عمان نحو 56 كيلومترا، وهو من خبرته في مساحات القرى يقول "قريتي مساحتها 250 ألف دونم، وهي أكبر قرية في الضفة الشرقية، وكانت قريتا طوباس وطمون في نابلس ومساحتهما نحو300 ألف دونم هما الأكبر غربا". وماعين كانت قرية زراعية أرضها خصبة "تشابه تربة جنين في الضفة الغربية، الأرض هناك مثل (الشوكلاطه)".

درس في ماعين للصف الثالث في مدرسة طائفة الروم الكاثوليك "كان معي أولاد عمي ومعنا قرايبنا، وقلة من إخواننا العوازم المسلمين، وهم الونديون والحميمات والنجادا وغيرهم".

انتقل إلى عمان حيث التحق بالمدرسة العسبلية مقابل المدرج الروماني " وكنا بجانب الديوان الأميري، بيننا بركة ماء صغيرة، ولما كنا ننشد كان هناك شابان صوتهما حلو، واحد منهما من عائلة شكري، كان الأمير عبد الله يخرج للنظر إلينا.. وكان النشيد عاش الأمير ووطني وطني، وكانت العسبلية خليطا من الأقوام".

في عمان سكن مع مجموعة من أبناء عمه في حي المصاروه فوق حي المهاجرين ولم تكن الحياة يسيرة "كنا نمشي من المدرسة إلى السكن أو من ماعين لعمان مشيا.. كان الوالد دائما يرسل لنا الخيل مع المرابعية".

لم يكن من أبناء اليسر، لكن أهله كانوا ملاكي أراضٍ ومُربّي ماشية، "أنا ما رحت للمدرسة إلا لأنني كنت شاطر، وكان الكهنة الذين يأتون لماعين يوصون أبي بأن أكمل الدراسة".

بعد المدرسة العسبلية، انتقل لمدرسة المطران العام 1942 "بقيت فيها حتى العام 1947"، ويذكر عدة مدراء تعاقبوا على مدرسة المطران، منهم "مستر ساتن وهو أميركي، ومستر بيج وديهوم وهو انجليزي وكان التدريس بالانجليزي باستثناء العربي". ومن زملائه في مدرسة المطران "أسعد حبراق، وكامل أبو جابر، وهو رجل حبّاب، وفي المطران بدأت الأفكار السياسية تدخل حياتنا".

الحياة في عمان كانت بسيطة في الأربعينيات "كان هناك سينما البتراء لم أكن أدخلها كانت غمه تدخل لها، وتطفئ الأضواء، فيفقد المرء الإبصار على من هم حوله، فكنا نخرج".

حي المهاجرين كان صورة مصغرة عن عمان برأيه التي كانت "محلا للأغراب من مختلف النواحي وتعج بالطلاب القادمين من الأرياف، ومعظم سكان الحي كانوا من الشركس وعائلات أردنية من مختلف الأصول ومن سورية..".

في ذاكرة أبي المنذر ما زال يوم إعلان الاستقلال في الخامس والعشرين من أيار العام 1946 " أعلنوا الاستقلال بملتقى شارع منكو من نزلة الشابسوغ مع شارع فيصل أمام عمارة البلدية، وقفنا وصرنا نعيّش للأمير".

حياة الطلبة في عمان لم تكن تخلو من السياسة، بل يؤكد أنهم امتلكوا الوعي بضرورة الاستقلال "كان هناك طلاب ندرة طالبوا بالاستقلال بأسلوب لطيف ومقنع، وكان هناك دعوة للتحرر وتأييد الحكومة وكانت توزع المناشير علينا من قبل طلبة أكبر منا".

بقي باجس في مدرسة المطران للصف العاشر، ولم يتسن له أن يُتم الدراسة "ذهبت للعمل بالأراضي وقابلت مديرها مستر ويل پول"، وبعد المقابلة بدأ العمل العام 1947، ثم دخل في دورة تعليمية في المساحة "أخذونا إلى مدرسة المساحة في حوارة، التي هي اليوم كلية حواره، لدورة تعليمية استمرت ستة أشهر، كان مديرها آنذاك يوسف كمال، وهو شركسي صارم وشديد جداً، وكان عنده مساعدون أحدهم عادل الشرايره".

ضمت مدرسة المساحة مجموعة من الطلبة الذين شكّلوا نواة دائرة الأراضي والمساحة "كان معنا فايز أبو الغنم، ومعالي علي النسور، وعبد الرزاق السلامة، وتوفيق الدلقموني، ونجيب الشرايري".

ويكشف حدادين أن إدارة الانتداب كانت ترفض أن يكون قاضي الأراضي من دون دورة مساحة، فأرسلوا قضاة الأراضي لنفس المدرسة ليعرفوا كيف يحددون الأراضي التي يحكمون بقضاياها "كان الغش في أمور التقدير كبيرا ورهيبا، قبل أن يرسل القضاة في دورات مساحة من قبل المخمِّنين والخبراء، كان القاضي يأخذ معه خبيراً في التقدير، والخبير أحيانا يشير إلى أرض غير الأرض التي كان القاضي يحكم بها".

بداية عمله في المساحة كانت العام 1947 في الكرك، بدأها في بلدة راكين "وهي أول بلدة مسحتها، ومن ثم كانت أول لوحة أنتجتها عن خربة قريفلا من أراضي راكين".

في العام 1951 انتقل لمسح أراضي الغور في قضايا تسوية المياه، وبعد الوحدة بين الضفتين "ذهبنا لفلسطين، كان رئيس فريق التسوية يومها سامي البخاري، وكان معنا زكي هويشل الشوارب، وهو الآن في أميركا يشار له بالبنان في المساحة".

في العام 1955 جاء صديقه زكي وطلب إليه أن يذهب معه لأميركا، لأن الفرص كانت أفضل، اقتنع باجس بجدوى السفر "لكن والدي رفض وقال: إذا بدك تروح أرمي نفسي من على بناية الدير".

العمل بالضفة الغربية له ذكرياته الجميلة، كان يجري إعلان تسوية الأراضي، وتم تشكيل فرق عدة، كل فرقة تختص بإعلان محدد وعدد الفرق 3-4، ولكل فرقة قرية تختص بتسويتها.

بداية العمل لم تلق ترحيبا من الأهالي "استوحش الناس منا، لكن بعد شهر تقبلنا الناسُ وخاصة في طوباس، وكان رئيس البلدية شخصا، اسمه أبو طارق، محبا لبلده ووطنه".

عمله في تسوية الأراضي بفلسطين بعد الوحدة جعله على صلة بالناس مباشرة "ما شعرنا بأي مشاعر ضد الوحدة، كانوا يسألونا كل موظفيكم هيك؟ بسبب سلوكنا الوظيفي الجيد".

أسهم باجس حدادين في قضايا تسوية الأراضي "مسحنا كل أراضي جنين وطوباس وطمون ودير الحطب وقرى شرقي نابلس، ومعظم القرى التي مسحتها دخلت حدود بلدية نابلس فيما بعد".

سكن باجس هو وأسرته في رام الله وبير زيت، وهو الذي أطلق التسميات على شوارع رام الله "كتبتها بخطي على اللوحة الأصلية حتى لا يستطيع أحد أن يلغيها، إلا بقرار من مجلس وزراء، وأذكر أنني سميت الشارع الذي يمر من عند المنارة في رام الله ويتجه غربا لبلدة بتونيا بشارع جمال عبد الناصر"، والسبب عنده "لأنني أحببت عبد الناصر، وطني وقام بثورة محترمة ورفع اسم العرب..".

عُيِّن باجس، بعد ذلك، عضوا في لجنة أملاك الدولة، وكان معه إبراهيم القاسم من السلط وعادل الشرايري من اربد، وهي لجنة لتفويض أراض للناس حسب الطلب والحاجة.

في عمله يبدو أن أصعب شيء كان طي الخلاف بين الناس في ادعاءاتهم بحقوق في الأراضي، وكان يرفض اقتراح مدير الأراضي صبحي الحسن بإرسال جيش معهم.

كان الحل بتبريد أعصاب الناس ومفاوضتهم "كنا نُكثر من الجلسات حتى نصل لنهاية مُرضية وكان الوضع أحيانا يشهد صداما على الأراضي بين العشائر، وذات مرة حصل خلاف بين سعود القاضي وهايل السرور على أراضي أم الجمال في محافظة المفرق، اصطدموا، فسألت انتم وين رايحين إذا انتم شيوخ بدكم تتحاربوا على مين نعتب.. هايل كان لطيفا، وسعود القاضي رجل طيب وحكيم... وفي آخر الأمر أعطينا سعود حقه وأعطينا بدو العيسى جماعة هايل حقهم". عمله في الأراضي منحه معرفة جيدة بالناس، وهو مخزن للذاكرة السكانية ومراحل تحضُّر البلدات.

حزبياً، يصنف أبو المنذر موقفه من الأحزاب بأنه "كان صديقا وفيا للحزب الشيوعي من عند فائق وراد لعند يعقوب زيادين"، وهو يكشف أن الموظفين دعموا في التصويت فائق وراد، عضو اللجنة المركزية بالحزب، بـ 67 صوتاً في انتخابات 1956 ضد عبد الله الريماوي مرشح البعث، وهؤلاء الموظفون الذين مالوا لفائق وراد هم "يحيى سعيد وعواد النسور وكمال قاقيش وفلاح الهواري وأنا".

ينفي باجس أن يكون هناك بيع حصل في الأراضي لليهود " لا سرّاً ولا علناً، والله لو كنت أشوف أحد يبيع أرض لأشنقه، مستحيل، كان أحد يتجاسر ويقول بذلك".

بقي في الضفة الغربية لعام 1962، إذ عاد للعمل في الضفة الشرقية "كانوا يعتبروني من أقوى المسّاحين في المملكة، ولو أني فتحت الجيب كان بدك ساعات لتقابلني اليوم".

عُيِّن في الزرقاء أول الأمر، ثم نُقل لعمان العام 1962، وبقي حتى تم تشكيل فرقة مساحة جديدة العام 1965، " ثم ذهبت للقدس، وبقيت حتى النكسة، صارت المعارك، وكنت في إجازة بالزرقاء، ولم أعد حتى اليوم، وتركنا هناك أصحابا من أحلى الأصحاب، وتركت الراديو الخاص بي".

سكنه في الزرقاء جعله يراقب مجيء العائلات النازحة "جاءت عائلات وأصدقاء للزرقاء ومنهم عائلة وزير الزراعة كامل محيي الدين، سكّنتهم بجانب البلدية بعمارة يونس عز الدين". لكن الزرقاء برأيه "تضخمت بشكل كبير لحد أنك لم تكن تستطيع أن تمشي بالشارع".

بقي باجس يعمل في دائرة الأراضي لغاية العام 1981، ومن ثم عمل في سلطة وادي الأردن حتى العام 1989، خلال تلك الرحلة الطويلة أتيح له مشاهدة الملك حسين في صدف معدودة " مرة بلدية الزرقاء عزمته وعزموني كمدير دائرة.. جاء الملك -رحمه الله- ولما صار جنبي عبطته وقلت للمصور صوّر، قلت له: كيف الحال إن شاء الله مبسوط سيدنا، فأجابني الحمد لله انتو ممتازين؟".

رغبة باجس بالهندسة قادته لتعلم المساحة " المهنة فيها وجاهة وهي ذات صفة قضائية تمرق بالشارع الكل يوقفلك.. كنا نقطع المسافات على الخيل، ولم تكن هناك طرق أحيانا تصلح للسيارات والسيارات ندرة".

أراضيه التي ورثها من والده لا يعمل فيها "بدها وقت، وهي جاهزة، عندي نحو سبعين دونم"، وأول سيارة اقتناها كانت فوكس فاجن بيضاء " كنت أحمل فيها مجموعة تزيد على خمسة أشخاص".

يستمع لأم كلثوم "فلا أحد يعلى عليها" ووديع الصافي، وهو "مواظب على سماع إذاعة البي بي سي منذ أن وعيت من أيام الراديو الأبيض اللي كان عندي واشتريته بفلسطين، ولما صارت المعارك في عام 1967، دشرته عند المصلح، كنت أزُمه لماعين، وكان الناس يأتون لسماع الأخبار في منزل الوالد بالقرية".

في العام 1949 كان عمره خمسة عشر عاما عندما خطب الآنسة جوزفين جريس حدادين، وفي عام 1953 تزوج بها "كنت ناوي عليها، وقال أبوي بدنا نخطبلك. وقلت مين: قال بنت عمك وقلت أصبت.. العرس كلفنا نحو 150 ليرة، لكن الذبايح كانت كلها على أبوي، فالحمولة (العشيرة) كلها كان لازم توكل".

تعددت دراسات أولاده، الكبير منذر مقيم في أميركا درس المحاسبة ويعمل بها، ود. فائق عميد جراح قلب في مدينة الحسين الطبية، وموفق مهندس زراعي يقدم برامج زراعية بالإذاعة الأردنية، والرابع عمار يعمل بوزارة السياحة، والدكتورة عهد تعمل في جامعة الإسراء.

Mohannad.almubaidin@alghad.jo

تعليقات