محمد الجمل: طبيب أعيته السياسة ومتعته التطلع في عقول الآخرين

محمد الجمل: طبيب أعيته السياسة ومتعته التطلع في عقول
نشر: 25/1/2010 الساعة .GMT+2 ) 00:43 a.m )
|


د. مهند مبيضين

لا يذكر الكثير عن مسقط رأسه، وهو حي المحطة الذي أبصر فيه النور العام 1939، في زمن كانت فيه محطة عمان أشبه بميناء بحر جاف، والده كان ناظر محطة، ومع تنامي أهمية محطة القطرانة في تصدير الحبوب لأوروبا انتقل والده للمحطة الجديدة.

أول وعيه وذاكرته بدأت هناك "لا زلت أذكر أكياس الحبوب على مدّ النظر في كل الاتجاهات وهي توضع في أرض الحماد من دون وجود لمستودعات.. كان القمح يصدر من القطرانة لحيفا يوميا برحلتين للقطار، ومن ثم ينقل من حيفا لأوروبا أما الحبوب فترد من سهول الكرك وقراها".

في العام 1946 نقل والده للخدمة في معان ناظرا لمحطة سكة الحديد، وفي مدرسة معان الابتدائية دخل الصف الأول الابتدائي. مدير المدرسة يومها حافظ جاسر "ومن بعده جاء عبدالغني الريماوي".

يذكر أن متصرف معان، محمود الظاهر، عندما كان يدخل لصلاة الجمعة ومعه مجموعة من الموظفين كان يقدم مدير المدرسة عبدالغني الريماوي على نفسه في دخول المسجد، فيتردد الريماوي قائلا: أنت الحاكم وممثل الملك، فيقول المتصرف: "أنا أحكم من خلالك". ذلك زمان كان فيه مديرو المدارس معلمين مقدرين بين الناس، ولهم وزنهم ورسالتهم.

الدكتور محمد جويدان الجمل، لا يتذكر الكثير عن سنوات الدراسة الأولى، بيد أنه يذكر من زملائه في الإعدادية والثانوية سالم المحيسن، ود.محمد الصقور، ومحمود سالم رمضان، ومحمد خليل كريشان، أما أساتذته فمنهم يوسف الجيوسي مدير المدرسة، وعلي صبري وسالم صقر المعاني.

سالم صقر كان معلما فذا برأيه "ولولا الفقر لكان عالما كبيرا، فهو أول من وضع منهاج الفيزياء"، وهو الذي حرضهم على القيام بمظاهرات ضد حلف بغداد من منطلق قومي..وأنا الذي كتبت المنشورات وسرقت من والدي الكربون وقلم الكوبيا".

عوقب د.الجمل بالسجن على خروجه بمظاهرات ضد حلف بغداد في العام 1954، بسبب كتابة المناشير، فدخل سجن معان ومعه رسمي خليل أبو الفيلات، وبقية المجموعة هربت إلى خارج معان". وجد الجمل وأبو الفيلات السجن مليئا ويعج بالأردنيين من مختلف مناطق الجنوب.

كان الجو في شهر شباط (فبراير) بارداً جدا، ودفع الجمل للمعارضة تأييده لحركة الإخوان المسلمين، التي سجن ابرز رموزها العام 1954، ووضعوا في معتقل الجفر، ومنهم المراقب العام محمد عبدالرحمن خليفة ويوسف العظم.

اعتقل لمدة أسبوع في الثالث الثانوي، "وجدنا إخوانا مسلمين من العقبة وبعثيين وشيوعيين"، وهو يشير إلى انهم لم يعذبوا في السجن "مجرد نهر وتوبيخ..".

ظن الجمل ورفاقه أنهم نجحوا "سالم صقر قال لنا النجاح يكمن في أن نخرج الكبار معنا، وهذا الذي حصل، كان سالم صقر رجلا شجاعا، ويعلن علمانيته علناً، لكن يوسف العظم اختطف الشارع لإسلاميته" .

آنذاك بدأت تنتشر في معان أفكار الإخوان، ولكنها قبل ذلك كانت تشهد ثقافة صوفية "دار الإخوان المسلمين كانت ملكا لطريقة صوفية من الدراويش".

امتحن العام 1956 المترك فنجح هو ومحمد الصقور فقط، وكان ذلك إيذاناً بالانتقال إلى عمان، فعين مدرسا في مدرسة الأمير محمد الابتدائية بوادي السرور، حول المستشفى الإيطالي ومدير المدرسة يومها يوسف الزريقات.

عاد الجمل لحي المحطة من جديد، وعمره سبعة عشر عاما. عمان يومها كانت بسيطة "وعيت على عمان والملك عبدالله كان يحضر صلاة العيد على الحصان.. كان التعليم جديا، هتفنا للمناضلة العربية جميلة بوحيرد.. كان المعلمون منقسمين بين الأحزاب".

شهر حزيران (يونيو) العام 1958، كان نقطة تحول في حياته، التقى سالم صقر في وسط البلد، ودعاه للجلوس في مقهى الجامعة العربية، ونصحه بأخذ رواتب الصيف عن أربعة أشهر والسفر لدمشق ثم تركيا ومنها إلى ألمانيا، فوقع الجمل تحت غواية السفر "فعلت ذلك وأشار علي محمود التلهوني أن اذهب لبغداد". لكن ثورة تموز (يوليو) حالت دون سفره للعراق، فاختار دمشق وجهة.

وجد في دمشق مجموعة من الأردنيين الذين وسطوا شفيق ارشيدات في أخذ تأشيرة (الفيزا) لهم للعراق، فاتصل شفيق ارشيدات بجابر العمر، الذي كان قبل ذلك لاجئا سياسيا بدمشق، قال جابر لرشيدات حين اتصل به في بغداد، وكان يومها وزيرا "من تكفله تمنحه السفارة فيزا"، فحصل الجمل على فيزا بكفالة شفيق ارشيدات.

في بغداد قُبل في كلية الطب، فعاصر الخلاف بين الزعيم عبدالكريم قاسم الميال لممالأة الشيوعيين وعبدالسلام عارف القومي الميول، ومعه من الطلبة الأردنيين أديب عوجان ومحمود الكيلاني وسعد الخياط واحمد العلمي في الطب، ومن قادة الإخوان في الجامعة كان فاروق بدران وعبداللطيف عربيات، واستمر الجمل عضوا في تنظيم الإخوان "كان هناك اجتماع أُسر أسبوعي، وتأثرت بشخصية فاروق بدران، كان خارق الذكاء وأديبا شاعرا..".

كلية الطب في جامعة بغداد كانت مليئة بالشيوعيين، الذين خرجوا من معتقل نقرة السلمان الشهير الذي كان يعد "جهنم العراق"، ومع أن بغداد كانت رخيصة جدا إلا أن الصدام بين الشيوعيين والقوميين، اضطر الجمل لمغادرتها إلى دمشق، ومن ثم إلى القاهرة.

سبقهم في مغادرة العراق هاني الخصاونة الذي استصدر قرارا جمهوريا من أكرم الحوراني نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة بقبول كل الطلبة القادمين من العراق في جامعات مصر.

وصل محمد الجمل القاهرة في نيسان (أبريل) 1959، وأقام في مصر الجديدة والتحق بكلية الطب في جامعة عين شمس.

استمر بداية عهده بالقاهرة أخا مسلما، وليلة الانفصال بين مصر وسورية، اجتمع طلبة الإخوان في احد مساجد القاهرة، واتفقوا على سؤال مسؤول التنظيم إبراهيم غوشة، عن رأي الإخوان في الانفصال، وكلف الجمل بالسؤال وذهب لغوشة الذي كان يقطن حي الدقي. والأخير لم يبد رأيا حاسما، ومع إلحاح الجمل ذهب الاثنان إلى المسؤول الأعلى الذي فوجئ بالسؤال، واستنكره قائلا إن جوابه من البديهيات، وأضاف" أننا مع كل ما يؤذي جمال عبدالناصر". عندها عاد الجمل لرفاقه في التنظيم وأخبرهم بالجواب، فما كان من نصفهم إلا أن غادروا تنظم الإخوان.

بذلك، افترق محمد الجمل عن جماعة الإخوان، وبعد التخرج من جامعة عين شمس العام 1965، التحق مباشرة بالقوات المسلحة، وبقي فيها حتى العام 1969.

أول خدمته كانت في المستشفى العسكري في الزرقاء، ثم انتقل إلى المستشفى العسكري الرئيسي في ماركا.

في العام 1967 كان طبيب كتيبة سعد بن أبي وقاص، التي يقودها المقدم عبدالله صايل "كان عبدالله شجاعا، بلا حدود، جمع الجنود مساء السابع من حزيران، وقال خسرنا المعركة ولم نخسر الحرب".

مركز الكتيبة كان في لواء القادسية في منطقة عين السلطان، جنوب بيسان، "كنت مدركا أن الحرب لن تمر بسهولة، فذهبت يوم الثاني من حزيران (يونيو) وودعت المسجد الأقصى.. المأساة كانت كبيرة".

في أوائل آب (أغسطس) 1967 عاد لعمان، وفي شهر تشرين الثاني (نوفمبر) نقل إلى العقبة، وخدم فيها ستة أشهر، ثم عين قائدا لإسعاف ميدان يسند طبيا نصف القوات الموجودة في الفرقة الأولى في عجلون، وظل حتى استقال في حزيران (يونيو) 1969.

حدثان فاصلان في وعيه، نهاية الوحدة المصرية السورية، والنكسة، وما بينهما وداع الأقصى "جلست بالمسجد الأقصى من الصباح حتى المغرب.."، وبعد النكسة "أصابني الانهيار" وتكرر ذلك عندما حصلت "تمثيلية استقالة عبدالناصر".

بعد الخدمات الطبية عاد من شهر العسل العام 1969 ليجد خبر استدعائه ليعمل طبيبا في قوة دفاع أبو ظبي، فعين طبيبا لمركز التدريب العسكري في العين.

في العين، وبسبب عمله كضابط، كان الجمل يرتاد مجالس الشيخ زايد التي كانت تعقد مرتين أو ثلاثة في الأسبوع، الغربة لم تضف إليه الكثير "لكني التفت لبساطة الشيخ زايد وحبه لعمل الخير". وفي فترة عمله هناك حصل على الدكتوراه في الطب من جامعة عين شمس في تخصص الأمراض الجلدية.

عاد في آب (أغسطس) 1984 لعمان، فتح عيادته الخاصة في جبل الحسين، وبدأ التدريس في الجامعة الأردنية التي استقال منها العام الماضي، وكان له الفضل في ان تخرج على يديه جيل من اطباء الأمراض الجلدية في الأردن.

يتذكر الجمل مقولة لعبدالسلام المجالي حين خرج دورة تأسيسية لأطباء في شهر أيلول (سبتمبر) 1965 قال: "انتم أذرع التغيير الاجتماعي إذا أردتم"، وهذه الكلمة زرعت عنده الاهتمام بالشأن العام.

القطاع الطبي، ليس في خطر لو أدير إدارة جيدة، "عبدالسلام المجالي كان عنده تصور لتحسين التدريب الطبي محليا وإقليميا.."، لكن العزف المنفرد للمؤسسات الطبية حال دون ذلك.

من المقولات التي أتعبته في حياته عبارة للخليفة المأمون ونصها "متعتي التطلع في عقول الناس".

لا يؤذيه في الأردن إلا عدم وجود مؤسسة نقل عام، وانعدام الخلق في ثقافة المرور وكثرة النرجسيين في الصفوة.

لا يندم الجمل على شيء فعله، أما إيمانه بالأفكار فلم يتزعزع وحسب، بل "أنا مصاب بإحباط شديد" أما حلمه بوطن عربي ممتد من هرمز إلى فاس فقد بات ضربا من المستحيل، وضاق الأفق ليغدو الحلم في أن يقطع الشارع من أمام عياداته بسلام. هوايته جمع الكتب، "وهذه كانت سببا في عدم اتجاه ابنائي لدراسة الطب".

العام 1969 تعرف إلى السيدة معزز عبدالله زنونه، وأنجب منها خمسة أبناء، هم فارس ويعمل في تلفزيون الحرة بواشنطن، وأحمد يعمل في مؤسسة الموارد، والبنات شادن درست الصيدلة، ومها درست الهندسة الزراعية، ووجد درست علوما سياسية، ومن أبنائه له ثلاثة عشر حفيدا، ينعم باجتماعهم كل صيف.

تعليقات