عمَّــان.. ميـــاه عزيــــزة وسيارات غزيرة

عمَّــان.. ميـــاه عزيــــزة وسيارات غزيرة

«المياه والحمير» رسما طرق عمان وشوارعها

عمان مدينة مأهولة بالسكان منذ سبعة آلاف سنة

هل تعود عمان إلى عهد «السقايين» كما كانت بداية القرن الماضي؟

لاعبو كرة القدم والمتفرجون كانوا يذهبون إلى ملعب المحطة مشياً على الأقدام

وزراء أيام زمان كانوا بلا سيارات

اللواء - محمد أبو عريضه

هي أودية شكلت المياه المتدفقة فيها سلسلة من السيول إلى ان تلتقي في مجراها الرئيسي، الذي يستمر في جريانه بوادٍ عريض حتى يلتقي بسيل آخر عند ''خربة'' عين غزال، يرفد السيل الكبير أو النهر - كما أطلق عليه عدد من الرّحالة وعدد من سكان عمان- بكميات إضافية من المياه تدفقت من علٍ، وبعد اجتيازه قرية ''مركه'' -ماركا- متجهاً إلى الشمال منحدراً من مرتفعات الرصيفة يلتقي من جديد بمياه شكلت سيلاً آخر، فياخذا السيل الرئيس، خاصة في سنوات الوفرة المطرية،شكل النهر، بل (النهر العظيم) - حسب الرحّالة ياقوت الحموي حينما تحدث عن الزرقاء فقال: إنها موضع بالشام بناحية عمان وهو نهر عظيم.. كما وصفه الرحالة بكريت عام 1630 عند عودته من المدينة المنورة إلى اسطنبول بالنهر العظيم أيضاً-.

سيل عمان كان يتحول إلى سيل الزرقاء أو نهر عمان حينما كان يجمع المياه في طريقه ليتحول إلى نهر الزرقاء العظيم، كلمات وكلمات أمست من التراث، اندثرت أو اندثرت مضامينها بعد ما تحولت أودية عمان التي كانت تحمل أسماء خاصة بها من سيول تتدفق فيها المياه الغزيرة إلى شوارع اسفلتية تحمل أسماء جديدة تمشي عليها المركبات بغزارة، ما بين عام تأسيس إمارة شرقي الأردن واختيار عمان - مدينة السيول والينابيع - عاصمة للامارة الناشئة حديثاً، وبين العام 2011 مرت تسعون عاماً، تحولت فيها قرية عمان الصغيرة التي لم يكن يتجاوز عدد سكانها سبعة آلاف نسمة وفقا لما قامت به نيابة العشائر في ايلول 1922 من احصاء تقديري للسكان، فتبين ان عدد سكان عمان آنذاك 6400 نسمة، بسيلها ومائها الغزير، الذي ظل السكان ''الجدد'' في عمان - هم من أعاد احياء المدينة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر - يطلقون عليه تعبير النهر، إلى مدينة كبيرة يتجاوز عدد الذين يبيتون فيها 5,2 مليون نسمة، وفي أشهر الصيف أكثر من ثلاثة ملايين إنسان.

من قرية صغيرة مياهها غزيرة وشوارعها وسياراتها ظلت عزيزة، فحسب روايات غير موثقة فإن أول سيارة يراها أهل عمان كانت سيارة عسكرية تركية مرت بالقرية مع بدء أعمال الحرب العالمية الأولى عام 1914، ففر الناس من امامها مذعورين، وذلك قبل ان يدخل القرية مع الأمير عبد الله سيارة مرسيدس ذات عجلات تشبه عجلات ''البسكليت'' حسب قول أحد سكان عمان من كبار السن، وسيارة أخرى لا يتذكر نوعها كانت مملوكة لماجد العدوان إلى مدينة يزيد عدد السيارات العمومية والخصوصية من الفئات كافة، المملوكة لأهالي عمان عن 800 ألف سيارة، ويتجاوز طول شوارعها الرئيسية اليوم ثلاثة آلاف كم.. مدينة يعطش سكانها صيفاً شتاءً بعد ان كادوا يدخلون موسوعة (غينتس) للارقام القياسية لشدة فقرهم المائي، ما بين قرية بمياه غزيرة وشوارع وسيارات عزيزة، إلى مدينة بشوارع وسيارات غزيرة ومياه عزيزة، مر ''المكان'' - عمان - بمحطات عدة، لكل واحدة بداية ونهاية، حتى ان بعضهم أطلق على عمان تعبير ''مدينة البدايات المتعددة''، كابرز سمات المدينة، فحسب أحد عشاق المدينة الدكتور المهندس المعماري رامي ضاهر (عمان هي مدينة البدايات المتعددة، إذ كان لها العديد من الانطلاقات، وهذا ما جعل الكثير من الناس ينتقدونها، ولكن هذا اكسبها سمتها).

الماء والحمار

مهندس طرق عماني المولد والعشق فضل عدم ذكر اسمه لأسباب خاصة، يقول ان أول درس يتعلمه طالب هندسة الطرق في الجامعة ان الحمار هو أول مهندس يصمم الطرق، فالحمار بطبعه لا يمشي إلا في المسالك الآمنة، ولأن طبيعة عمان الجبلية، فرضت على سكانها ''الجدد'' استعمال الدواب خاصة الحمير منها في نقل حوائجهم، فإن أول طرق إلى جبال المدينة وفي الجبال ذاتها عبدتها بلدية عمان بعد تأسيس الإمارة هي طرق رسمت الحمير معالمها.

يضيف مهندس الطرق فيقول: ان مهندساً آخر لا يقل أهمية عن الحمار رسم تفاصيل طرق عمان الأولى في الأودية هو الماء، فالمياه تحفر طريقها في الصخور جارفة الاتربة من على حواف الأودية، سالكة كالحمير اسهل وأكثر السبل مرونة للانسياب، وبذلك يضاف إلى جدلية الماء والسيارة لفهم عمق ''المكان''، جدلية جديدة هي الحمار والماء، لإعادة قراءة مشهد القرية الصغيرة عمان، وهي تتحول بعمق بعد اختيارها عاصمة للامارة الناشئة، أي إعادة رسم تاريخ ''المكان'' -عمان- بتفكيك متغيري المياء والمركبات، فعمان الحديثة بعمرها الذي لم يتجاوز مائة عام ظلت محكومة لصورتين أولها ''سيل المياه المتدفقة'' وثانيهما سيل السيارات الهابطة والصاعدة''.

المرجعيات

استند كاتب هذه السطور في معالجة تناقضات صنعت مدينة عمان على مراجع عدة، أولها قصة الكاتب الكبير عبد الرحمن منيف ''سيرة مدينة''، وثانيها اجد كتب موسوعة عمان اسمه ''عمان في العهد الهاشمي 1916-1952'' للمؤلفين د. هند غسان أبو الشعر و د. نوفان رجا السوارية، ورواية المبدع المرحوم زياد القاسم ''أبناء القلعة''، ورواية هاشم غرايبه ''شهبندر التجار'' وكتاب ''عمان.. مدينة الحجر والسلام'' لمريم عبابسه، وهو مترجم عن الفرنسية، وموسوعة الباحث المهندس محمد رفيع '' ذاكرة مدينة'' باجزائها الثلاث، وكتاب ''عمان أيام زمان'' لعمر محمد نزال العرموطي، وكتاب ''الأردن في موروث الجغرافيين والرحالة العرب'' للمهدي عيد الرواضيه، والكتاب التراثي ''المستطرف في كل فن مستظرف'' لشهاب الدين محمد بن احمد الابشيني''، وأخيرا ''القاموس المحيط'' للفيروز ابادي.

أسطورة السيل

ظلت عمان إلى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر خالية من السكان، أو بمعنى أدق ظل وسط البلد مكان يخشاه سكان الجبال التي تحيط بمجرى السيل، وهم بدو رحل من عشائر البلقاء، توطن معظمهم في مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ففي إحدى الروايات الشفوية - ذكرها البعض من دون توثيق علمي - ان البدو من عشائر الحديد والحنيطي وبني صخر والعجارمه والدعجة وغيرهم ظلوا يردون بحلالهم إلى نبع الماء في رأس العين -بجانب مبنى أمانة عمان الحالي-، لترتوي من مائها، وليملأوا ''قِرَبهم'' -جمع قربه وهي وعاء من جلد الماعز لحمل الماء فيه- من مائها أيضاً، وبدلا من استمرارهم بالسير بمحاذاة ضفة السيل القبلية - التي تقع جهة القبلة أي الجنوب- والدخول إلى قلب المدينة، كانوا يصعدون طلوع المصدار، والمصدار اسمه الاصلي ''مسدار عيشه''، وعيشه إحدى بنات بني صخر أكلها الضبع أو الذئب بعد ان تاهت على سفح الجبل، فكلمة مسدار جاءت من الفعل سدر أي عاد، فالبدو ما زالوا يقولون فلان لفى أي جاء وفلان سدر أي عاد.

وتتحدث كتب التاريخ ان البدو كانوا يعتقدون بوجود شياطين في قلب المدينة، فبعد مطلع ''مسدار عيشه'' لا يغوصون أكثر بمحاذاة السيل لأن من يجرؤ على ذلك كان لا يعود بتاتاً، والحقيقة ان الوادي الممتد من ''مسدار عيشه'' إلى المحطة وهو مجرى سيل عمان الرئيس، بل إلى عين غزال وأكثر من ذلك باتجاه الزرقاء، كان يقضي على الذين يصلون إليه لأن جرثومة ''الملاريا'' ظلت مستوطنة فيه مئات السنين، فكان من يدخل الوادي يصاب بمرض الملاريا فلا يخرج حياً، بدليل ان عشائر الشركس حينما استوطنوا في الوادي بعد تنظيفه زرعوا مئات من اشجار ''الكينيا'' التي تعالج هذا المرض، ما زال عدد منها صامداً إلى اليوم.

العمانيون الجدد

لماذا نقول جدد؟ لأن عمان مدينة ماهولة بالسكان على مدى آلاف السنين، والفترة التي خشي الناس من دخول واديها محدودة بالمقارنة مع تاريخها العريق، الذي يتجاوز سبعة آلاف عام حسب المكتشفات الاثرية فيها، والعمانيون الجدد هم الناس الذين اعادوا احياء المدينة، ويقول الزميل الصحافي ''جودت ناشخو'' -شركسي- ان أول افواج الشركس سكنوا بعد وصولهم إلى عمان في عام 1868 الكهوف وفي المدرج الروماني وحوله قبل ان يسكنوا سفح جبل القلعة، وكانوا يشكلون بملابسهم الغريبة ومواشيهم وخيولهم تناقضاً غريبا مع البدو وحيواناتهم الذين يسكنون الجبال حول عمان، وظلت العلاقة بين الطرفين غير ودية، وكان ظهور أي جماعة غير شركسية في عمان يثير مخاوفهم وظلوا من دون علاقات مع البدو إلى ان اشتد عودهم بعد وصول افواج جديدة من قبائل ''قبرطاي'' و''البجدوغ'' و''الابزاغ'' عام 1890، ومع ذلك فقد ظلوا اقلية، فحسب ما ورد في المراجع ان عدد خانات -أسر- الشركس بلغ عام 1884 في عمان 43 خانة ضمت 162 شخصاً منهم 90 ذكراً و72 انثى وفي عام 1890 أصبحت القرية الشركسية قرية نشطة متطورة انشيء فيها شارعان ترابيان، كان احدهما لاقامة الدكاكين، فيما كان الثاني عبارة عن سوق تجارية ومخبز شعبي، وفي هذه السنوات بدأت بواكير التجار من الشام ونابلس والقدس تأتي إلى عمان للاتجار مع سكانها، منهم من استقر واتخذ وما زال احفاده كذلك عمان وطناً له، ومنهم من عاد إلى دياره، ولكنه ظل على علاقة مع عمان.

عمان 1908

ظلت عمان قرية صغيرة لا تثير الاهتمام إلى ان انشأت الدولة العثمانية الخط الحديدي الحجازي، واختارت منطقة بالقرب من عمان محطة رئيسية للقطارات، وهي منطقة المحطة، التي اكتسبت هذا الاسم منذ ذلك التاريخ، فأخذت المدينة تتوسع، وأخذت عربات تجرها بغال أو خيول أو ثيران أو ما كان يطلق عليها ''طنابر'' -جمع طنبر- تنقل الركاب من عمان إلى المحطة وبالعكس، وبعد ذلك أخذت تنقل الركاب داخل القرية الصغيرة نفسها، فشوارع المدينة لم تكن معبدة، بل كانت مرصوفة بالحجارة الكبيرة، وكانت أصوات حدوات -جمع حدوة- الخيول أو البغال المعدنية يسمعها معظم سكان عمان و''الطنابر'' تتجول في الطرقات الصغيرة.

عمان 1925

لا يستطيع أحد الجزم بأن التوافق في العامين 1925 و2025 كان مقصوداً أم جاء مصادفة، فالعام 2025 هو العام الذي اختارته أمانة عمان ليكون عام انتهاء المخطط الشمولي لشبكة المواصلات في المدينة، ابتداء من ''الباص السريع'' وانتهاءً بالـ ''مترو'' وأما العام 1925 فهو العام الذي شهد بدء بلدية عمان بتعبيد طريق المقر - أي الطريق المؤدي إلى القصر العالي أو قصر رغدان الذي تم تشييده عام 1924- فقبل هذا التاريخ لم تكن عمان تعرف الشوارع ''الاسفلتية'' أي المعبدة بالـ ''زفتة''، ويبدو ان بناء المقر العالي استغرق زمنا أطول بكثير مما كان مقرراً له، ما سمح للمجلس البلدي في عمان من تعبيد الطريق ووضع المخططات اللازمة لاستملاك بعض قطع الأراضي وفضلات الطرق، لتوسيع طريق المقر، حسبما أفادت جلسات المجلس البلدي المتعاقبة عام 1925.

شوارع عمان في العشرينات

كانت عمان في أواخر العشرينيات أي بعد تأسيس الإمارة بعدد قليل من السنوات تضم الشوارع والأزقة التالية: شارع الرضا، وشارع السعادة، وشارع الأمير طلال، وشارع البلدية، وشارع الهاشمي، وشارع المحطة، وشارع وادي خريس، وشارع المقر العالي، وشارع النشا، وشارع الشابسوغ، وطريق مادبا، وطريق وادي السير وهما غير معبدتين، وشارع الاشرفية، وشارع ميرزا باشا، وشارع العزيزية، وطريق مصدار عيشه ولم تكن معبدة، وطريق رأس العين وهي غير معبدة أيضاً، وشارع الملك حسين - غير شارع الملك حسين الحالي، والمقصود بالملك حسين هو الشريف الحسين بن علي-، وشارع الملك فيصل، والطريق العمومي لجبل عمان الجديد، وشارع الأمير عبد الله -الأمير عبد الله الأول-.

والأزقة في عمان أواخر العشرينات كانت التالية: زقاق السكر، وزقاق قانون، وزقاق بشقوي، وزقاق الاشرفية، وزقاق الزعمط، زقاق بدير وزقاق نغوي، وزقاق المهدي، وزقاق الشوربجي، وزقاق شاكر، وزقاق عصفور، اما الحارات فكانت حالة الهاشمية الواقعة قرب شارع السعادة، ومحلة الشابسوغ وفيها طريق مدرسة البنات عند جسر الملعب وحارة وادي خريس، وحارة محلة ''قورشا''، وحارة الاشرفية وتقع على طريق الهاشمية، ومحلة جبل الملفوف ''جبل عمان الجديد''، ومحلة ساحة الملعب الروماني، ومحلة سيل عمان، وحي قبرطاي، وحي العزيزية في جبل عمان، ومحلة على طريق وادي السير، وحارة المعانية في المحطة، ومحلة المهاجرين في رأس العين، وحارة الجوفة أو برج عمان وحالة القلعة، وحارة النصر وفيها زقاق القلعة، واما الأسواق فهي سوق الصفدي، وسوق السكر، التي انشاها عام 1924 يوسف السكر، وبلغ عدد الدكاكين فيها نهاية العشرينات أكثر من عشرة دكاكين، تعرض المواد التموينية، وقد اسهمت هذه السوق في استقرار عدد من التجار الوافدين من دمشق ونابلس، والسوق التالية هي سوق الخضار التي لا تزال قائمة إلى اليوم وهي تقع بين شارعي طلال وشارع سقف السيل، وسوق الحلال وهي من أقدم الأسواق في عمان، وكانت تقع عند جسر الحمام -جسر حديدي أنشأه الانجليز عام 1924 على السيل وفي عام 1927 تأسس حمام النصر فأصبح الجسر يُعرف بجسر الحمام-، واشتهرت هذه السوق بالاتجار بالخيول، واشتهر من تجارها نجديون - من نجد- ظلوا يؤمون السوق من عشيرة العقيليين، ولاحقاً ظهرت اسواق جديدة كسوق البخارية، التي اسسها حجاج من ''بخارى'' و''سمرقند'' استقروا في عمان، فاختاروا الساحة امام المسجد الحسيني الكبير مكاناً لعرض بضائعهم من الاحزمة، والسكاكين والمسابح والشباري والخناجر، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية أسسوا سوق البخارية القائمة إلى اليوم، وفي ذات السنوات نشأت سوق جديدة لبيع الملابس القديمة عرفت بسوق اليمانية، وهي اشارة إلى ان أغلبية البائعين هم من أصول يمنية، وهي سوق ما زالت قائمة وتقع في المنطقة الواقعة ما بين الجامع الحسيني الكبير وسوق الخضار.

سقاة عمان

كان الناس في عمان يشربون من السيل مباشرة، فالمياه الجارية ظلت صالحة للاستهلاك البشري قبل ان تتدخل التكنولوجيا الحديثة وتحول ما بين المياه الجارية والبشر، فباتوا لا يشربون إلا من مياه ''الكولرات'' أو من مياه العبوات البلاستيكية، ولعل وصف الشاعر المتنبي للمياه الجارية ابلغ تعبير عن طيبها، حينما قال:

اني ارى وقوف الماء يفسده

فإن سار طاب وان لم يجر لم يطب

والمياه في العشرينيات كانت تباع من السقائين، وهم سقاة - جمع ساقٍ- مرخصون من البلدية، ومعتمدون من الأهالي، كانت البلدية تستوفي وفقاً للمادة 12 من قانونها ثمانية قروش شهريا من السقا الماشي -من المشاه-، واثني عشر قرشا من السقّا الذي يبيع الماء على دابة، وعمان كما تشير الوثائق العثمانية ارتبطت بموقع سيلها ونبع رأس العين، واعتمد سكانها الجدد من الشركس والشوام والنابلسيين والمقادسة والحجازيين وغيرهم على بساتين انتشرت على ضفتي السيل، وكان مجتمع عمان مكتفياً بذاته، معتمدا على ما تنتجه البساتين، من خضار وفاكهة طيبة.

وفرة المياه في عمان ليس امرا طارئاً على المدينة، فقبل العمانيين ''الجدد'' بمئات بل بالاف السنين، اشتهرت عمان ببساتينها اليانعة ومياهها العذبة، فهذا الكابتن الانجليزي ''كوندور'' الذي زار عمان عام 1818 قد شاهد بحدود مائة متر بقيت من سقف السيل الذي كان الرومان قد بنوه، فالسيل كان مسقوفاً أيام الرومان، فيعلق قائلاً (يعتبر اعظم عمل قام به مهندسو الرومان في مدينة ''فيلادلفيا'' التاريخية، فقد كان اتساع القبو تسعة امتار.. ).

تشير الوثائق التاريخية إلى ان الرومان بنوا اضخم وافخم سبيل في ''فيلادلفيا''، وذلك عن التقاء المياه التي تتدفق في الوادي الذي يطلق عليه اليوم شارع فيصل وشارع الرضا، مع المياه المتفدقة في ''السيل'' القادمة من رأس العين، بنى الرومان السبيل على ''سيباط'' من عدة اقبية، واقاموا تحت ''السيباط'' حوضا للسباحة عمقه 26 قدماً، وفوقه الحمامات ونوافير المياه تزينها افاريز ''وكرانيش'' وألواح رخام، وتحول ''السيباط'' في العصور اللاحقة إلى خان للدواب، كما تحول إلى منازل للمسافرين، واليوم لم يبقَ منه سوى برجين وما بينهما وهو ما يطلق عليه سبيل الحوريات.

احتلت عمان في كتب الرحالة العرب حيزاً واسعاً لأسباب كثيرة من أبرزها وقوعها على طريق قافلة الحج الشامي وما يعنيه ذلك من ارتفاع عدد الذين يزورونها، ويقول الرحالة المقدسي عنها (وعمان على سيف البادية ذات قرى ومزارع رستاقها البلقاء معدن الحبوب والاغنام بها عدة انهار وأرحية يديرها الماء، ولها جامع ظريف بطرف السوق مفسفس الصحن، وقد قلنا انه شبه مكة وقصر جالوت على جبل يطل عليها، وبها قبر اوريا.. رخيصة الأسعار كثيرة الفواكه.. واليها الطرق الصعبة.. ونرتفع من عمان الحبوب والخرفان والعسل، ومدى عمان ست كيالج وقفيزهم نصف كيلجة وبه يبيعون الزبيب والقطين) والمد والكيلجة والقفيز أدوات قياس للوزن.

حنفيات عمان

عام 1928 زار رحالة بلجيكي عمان، والتقط صورة لسبيل اندثر كان يقع مقابل المسجد الحسيني الكبير، كان سبيلاً بناه الأتراك لخدمة المصلين، وهو عبارة عن حائط يعلو أكثر من ثلاثة امتار بزخارف اسلامية، تصله المياه عبر قناة رومانية شيدت على حافة سفح الجبل من جهة الضفة الشمالية للسيل -حافة جبل عمان- طولها أكثر من ثلاثة كيلومترات، تبدأ من رأس العين وتتعرج إلى ان تصل إلى المسجد، ولكنها تهدمت، وحينما اراد الأتراك تشييد السبيل اعادوا بناء القناة باستعمال الفخار، فكانت المياه تنساب فيها بسهولة ويسر إلى ان تصل مبتغاها.

حكمت مهيار في شهادته الواردة في كتاب عمان أيام زمان وهو قائد الشرطة في الخمسينيات يقول: (لم يكن أيام زمان في بيوت عمان تمديدات للمياه بل ان سكان عمان القديمة كانوا يشترون الماء من السقّاية، الذين ينقلون الماء على الدواب، وكانوا يحضرون الماء اما من السيل أو من رأس العين، أو من الحنفيات التي وضعتها بلدية عمان وكانت الحنفية مثبتة على عمود من الاسمنت المسلح، وكان في شوارع عمان عدة حنفيات، منها قرب محل فريد خرفان بين شارعي الرضا والسعادة مقابل المسجد الحسيني، وهذه الحنفيات قديمة منذ زمن الأتراك -يقصد السبيل سابق الذكر- واما المساجد فقد كانت تصلها المياه بوسائل شتى، والاحياء تحصل على المياه من السقائيين.

الماء في الثلاثينيات

يقول رفيع في كتابه ''ذاكرة مدينة'': (اعوام كثيرة مضت على بدء سحب الماء إلى البيوت، وإقامة الخزانات على الأماكن المرتفعة لتزويد البيوت الجديدة بالمياه بالانسياب.. ورغم هذه الاعوام فقد استمر تزايد شبكات قساطل المياه -المواسير- المدفونة والمكشوفة للوصول إلى البيوت والاحياء والحارات).

وتفيد الوثائق التاريخية إلى ان أول شبكة مياه نفذتها بلدية عمان كانت في الثلاثينات، وذلك بالترافق مع بدء استخدام البلدية والأهالي على السواء مولدات كهربائية، اخذوا يستخدمونها للانارة وضخ المياه إلى بيوت اخذ الأهالي يبنونها على الجبال بعيداً عن السيل وفيضاناته المتعددة، وما تخلفه من دمار على ''المكان'' والإنسان على السواء.

شبكة 1969

بدأت بلدية عمان في ثلاثينيات القرن الماضي بحفر آبار غير عميقة لضخ المياه منها، كما انشات الخزان تلو الآخر لتخزين المياه فيها حتى أصبح عددها عام 1969 أحد عشر خزاناً تتسع إلى ألف ومائتي متر مكعب من الماء، وهي خزانات كانت تكفي في تلك السنوات لحاجات سكان المدينة التي كبرت وتوسعت كثيرا، ولكن ظهرت مشكلة أخرى في تلك السنوات، وهي تلف شبكة المياه التي مضى على انشائها أكثر من أربعين عاماً، فقد قدرت الأمانة حينذاك ان الفاقد من المياه المضخوخة عبر الشبكة أكثر من 50٪ بسبب اهتراء جزء كبير من انابيبها، كما أشارت الوثائق إلى ان الأمانة كانت تعتمد على الشكل ''الاستطرادي'' في توزيع المياه، وهذا جعلها غير قادرة على تلبية الحاجات المتزايدة من المياه، فأجرت الأمانة دراسة عبر جهات أخرى، اوصت بالاعتماد على المياه الجوفية كمصدر رئيسي لتوفير المياه بعمان، وانشاء محطات ضخ كهربائية، وخزانات إضافية لسد الحاجة الحالية والمقبلة من المياه، وانشاء شبكة توزيع رئيسية جديدة يراعى فيها تقسيم المدينة إلى اربع مناطق ضخ حسب الارتفاعات الطبيعية لهذه المناطق بشرط ان لا تتأثر تغذية منطقة على حساب أخرى، فقامت الأمانة بالتعاون مع سلطة المياه بحفر آبار جوفية في عين غزال لتزويد عمان بالمياه وتركيب شبكة جديدة وانشاء محطات ضخ وبلغت قيمة المشروع 5,1 مليون دينار حينذاك.

سيارات عمان في الثلاثينات

يعتقد الباحث المهندس محمد رفيع كما ورد في موسوعته ذات الأجزاء الثلاث ذاكرة مدينة ان عام 1937 شكل مفصلاً تاريخيا مهما في عمان ''المكان'' والسكان بالسيارات، فقبل تلك الفترة لم يكن عدد المركبات في المدينة وفي إمارة شرقي الأردن يتجاوز عدد أصابع اليدين فحسب شهادة قائد الشرطة في خمسينيات القرن الماضي حكمت مهيار في شهادته الواردة في كتاب ''عمان أيام زمان'' لعمر محمد نزال العرموطي، فيقول ''اتذكر ان السيارات في عمان القديمة كان محدوداً، فكان هناك سيارات القصور الملكية، سيارة الأمير عبد الله - الملك المؤسس- وسيارة الأمير شاكر وسيارة الأمير طلال وسيارة الأمير نايف ومن الأهالي سيارة لحمدي وابراهيم منكو وسيارة لمثقال وشوكت عصفور وسيارة لاسماعيل البلبيسي وسيارة لمحمد أمين شريم وأخرى لصبري الطباع ولمثقال الفايز ولماجد العدوان وكان إبراهيم هاشم رئيسا للوزراء ولديه سيارة بينما كان قائد الشرطة بلا سيارة ويخرج خيالا على الراحلة وكان الوزراء كذلك من دون سيارات يأتون إلى وزاراتهم مشيا على الأقدام، واتذكر ان قائد المعسكر - يقصد معسكرات العبدلي- بهجت طبارة كان قد اشترى سيارة صغيرة على حسابه الخاص''.

ويتابع مهيار فيقول: ''اتذكر ان الجنود وموسيقى الجيش يوم الجمعة أو في الاعياد يأتون من معسكر المحطة مشيا على الاقدام، لعدم وجود سيارات. فمن المحطة إلى عمان لم تكن هناك باصات وكان سكان عمان وزوار السجن -سجن المحطة- يذهبون إلى المحطة مشيا على الاقدام، وكذلك لاعبو كرة القدم والمتفرجون يذهبون إلى المحطة مشيا على الاقدام لأن الملعب الوحيد لكرة القدم في عمان كان في المحطة، وتحديدا بموقع مخيم المحطة.. وأخيرا أصبح للمحطة ثلاثة باصات، الأول لعبدالله أبو قورة والثاني لجميل صالح حتر والثالث لقدري يوسف صالح كلوب''.

المحرر: اعتقد ان الباصات الثلاث بدأت العمل في السنة الأخيرة للحرب العالمية الثانية 1945 وفقا لسياق شهادات أخرى غير شهادة مهيار.

كراجات عمان

يورد رفيع في ''ذاكرة مدينة'' تفاصيل عدد من عقود ايجار تتحدث عن كراجات السيارات التي بدأت تظهر أواخر عشرينيات القرن الماضي، وهذه الكراجات كانت تستعمل مواقف للسيارات وللصيانة على السواء يبدأها بعقد ا يجار يعود إلى عام 1928 جاء في العقد ان (عقد حكومي لاستئجار كراج لسيارات النافعة - الحكومة - ويقع قرب الجامع والايجار 10 جنيهات فلسطيني والمؤجر هو عبد الجواد جاد المصري) وعقد آخر في نفس العام 1928 يقول (الماجور كراج لمبيت سيارة الرش والتنظيفات في وادي خريس والمستاجر هو يوسف عصفور رئيس البلدية والايجار 15 ليرة فلسطيني) وعقد ثالث لنفس العام (المستاجر محمد صالح الشماع صاحب كراج اتومبيلات عمان والماجور دكان ثلاث أبواب -وردت في النص ثلاث وليس ثلاثة- طريق عمان المقر العالي، والايجار 31 ليرة فلسطيني سنوي).

مكتب سيارات

وفي عامي 1934 و1935 يورد رفيع عقداً آخر جاء فيه: (المؤجر السيد عمر موسى من عمان والمستاجر السادة/ احمد محمد شريم وجميل الصالح حتر متضامنان/ والمأجور دكان سكن أبو الخير المفتي سابقا في شارع فيصل لاستعماله مكتب للسيارات والتوابع باب حديد والايجار 52 جنيه و500 مل سنوي لمدة سنة وشهرين وعشرين يوماً:

وعقد آخر عام 1936 جاء فيه المؤجر سيدو الكردي من تجار وملاكي عمان / المستاجر عبد الكريم والرحيم كوكش من سكان عمان مع الكفيل عبد الرزاق كوكش والماجور دكان امام بلدية عمان لاستعماله (لبيع السمان) والايجار 40 جنيه فلسطيني سنوي وفي الشروط الخصوصية ذكر: على المستاجر ان يستعمل الدكان لبيع البنزين والبقالة والسمانة فقط ولا يحق له ان يبيع قطع سيارات قديمة في الدكان وإذا خالف ذلك تعتبر اجرة الدكان خمسين جنيها فلسطينيا بدون انذار إلى ذلك''

التاريخ : 2011/06/07

تعليقات