نمر العريق العبادي..بداية تجليات الوعي السياسي

نمر العريق العبادي..بداية تجليات الوعي السياسي



هزاع البراري - تفاجئنا شخصية نمر باشا العريق العبادي، بوعيها السياسي المبكر، المستند على فهم قومي تحرري عميق، في ظل ظروف عامة في تلك الفترة، أقل ما توصف به: سيادة الأمية وندرة التعليم، واستشراء ممارسات التجهيل من قبل حكومة جماعة الاتحاد والترقي التركية العنصرية.
كان نصيب شرقي الأردن من الإهمال والتنكيل كبيراً، وليس أدل على ذلك من الثورات والاحتجاجات، التي حدث في هذه النواحي، وأبرزها ثورة الكرك المعروفة « بالهية « سنة 1910، غير أن موقع الأردن، وتفاعل سكانه من بدو وفلاحين وحضر، مع الأحداث العامة، وصلاتهم القوية مع المناطق المحيطة، كفلسطين والشام وبيروت، جعلهم أصحاب نهج قومي، يهدف للاستقلال والوحدة، حيث ربطوا مصير بمشروع النهضة العربية، وبضرورة أن يحكم العرب أنفسهم بأنفسهم، وكان الشيخ نمر باشا العريق، مثالاً ناصعاً ومتقدماً لهذا الوعي، الذي قرنه بالمواقف المعلنة، والتي تم توثيقها، حيث بين بشكل لا يقبل الشك، انخراط الأردنيين، في الجهود العربية الساعية إلى توحيد الصف، ورفض سلطة دول الانتداب الغربية.
لقد أغفل كثير من الباحثين والمؤرخين، توثيق سيرة نمر باشا العريق، رغم أن عدداً من المصادر أشارت إلى بعض من مواقفه، التي تعد علامة على صعيد المنطقة العربية، والتي تؤشر على وعي متقدم، في مرحلة مضطربة وضبابية من تاريخ البلاد العربية، منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وما رافق ذلك من أحداث غيرت شكل المنطقة إلى الأبد. ومع ذلك أغفلت مراحل عديدة من حياة هذا الشيخ المناضل، الذي كان له شأن كبير ومشهود في مرحلة التأسيس وما قبلها، ويعد الشيخ نمر من أبرز شيوخ مشايخ قبيلة بني عباد، التي تعد من أكبر القبائل الأردنية عدداً، وترجع بعض المصادر نسب العبادي إلى تميم، ومصادر أخرى تشير إلى احتمالية أن يكونوا امتداداً لسلالة بنو عباد الأندلسية، التي ترجع إلى قبيلة لخم اليمنية، حيث كانت تنوخ تدعى عباد، في حين يذكر كتاب ( شرقي الأردن وقبائلها ) عباد كونها فرع تنوخ من جذمية من جرم الطائية من طي اليمانية، ويسكن العبابيد وسط المملكة في العاصمة عمان وضواحيها كمرج الحمام ووادي السير، وفي محافظة البلقاء في عدد من البلدات والقرى.
ولد الشيخ نمر باشا العريق عام 1868، في فترة المخاضات العسيرة التي واجهتها الأمة من المحيط إلى الخليج، وكانت ولادته في بلدة « عيرا « في محافظة البلقاء، موطن أهله وأجداده، وهي تقع في الجنوب الغربي من مدينة السلط، وقد تكون كلمة سريالية بمعنى مستيقظ، أو بمعنى مدينة، وقيل أنها سميت على اسم ابنة أحد السلاطين القدامى، وفيها وادي عمرو – وادي البيره – حيث يذكر أن القائد المسلم عمرو بن العاص أقام فيها، أثناء فتوحات الشام وحكمها، وهي بلدة جميلة مطلة على غور الأردن، وذات موقع استراتيجي عسكري مهم، حيث كان لرجالها ومرتفعاتها دوراً بارزاً في معركة الكرامة الخالدة، عندما تمركزت المدفعية الأردنية التي دكت العدو فيها.
نشأ نمر العريق العبادي، في بيت والده، الذي كان شيخاً حظي بتقدير كبير، داخل عشيرته وخارجها، وقد ربى ابنه نمر منذ صغره على الفروسية، المتمثلة باستخدام السيف، واستعمال البندقية في أول عهد المنطقة بها، وركوب الخيل، فاتسمت تربيته بالصرامة والشدة، وقد تلقى تعليماً بسيطاً من خلال الكتّاب، غير أن علومه الحقيقية، تلقها من مدرسة الحياة، التي دخلها باكراً، حيث كان ملازماً لوالده، مما أسهم بدرجة كبيرة في نمو شخصيته القيادية، وبروز وعيه من خلال معرفته الكبيرة بالقضايا العامة، وصلاته مع عدد كبير من الشيوخ والوجهاء والشخصيات العربية، وقد مكنه ذلك من بناء مواقفه القومية اللافتة، التي جاور من خلالها مواقف كبار القوميين العرب، وكان على استعداد دائم للدفاع عن مبادئه، وتقدم الثمن المطلوب، ولا يساوم عليها أو يبدلها بتبدل الظروف وتغير الأحوال.
استلم زعامة عشيرته بعد وفاة والده، وسرعان ما ذاع صيته، وقصده الناس من مناطق متعددة، وقد أعتبر شيخ مشايخ بني عباد بعد وفاة شيخ مشايخها ابن ختلان، وكان له دور معروف مع شيوخ البلقاء، في إدارة الأمور فيها خلال الفراغ السياسي والإداري، في أعقاب سقوط الحكومة العربية في دمشق عام 1918، كما كان فاعلاً في حل القضايا بين الناس، سواء بالقضاء العشائري، أو من خلال إحلال الصلح مكان الخصام، وإصلاح ذات البين، وكان دائم التنقل في البلقاء والكرك وجبل عجلون، وكانت له صلات طيبة وعلاقات وثيقة مع شخصيات ووجهاء من فلسطين، حيث تردد على القدس ونابلس وغيرها من المدن والبلدات الفلسطينية، وكان محبوباً ومقرباً من الناس، يتعامل مع الكبير والصغير، ويسعى إلى إحقاق الحق، ورفع الظلم، والعمل للصالح العام.
كرس الشيخ نمر باشا العريق العبادي حياته للعمل العام، وخدمة عشيرته ووطنه خلال تلك المرحلة، ولم يهدف من وراء ذلك لجاه أو مال، بل سعى طوال حياته للدفاع عن الحرية العامة، وتحقيق حلم الاستقلال والوحدة العربية. فعندما أرسلت الحكومة الأمريكية لجنة كنغ – كرين إلى دمشق، لتقصي مطالب ورغبات أهالي المنطقة عام 1919، توجه وفد من شيوخ ورجالات شرقي الأردن، الذين كانوا على تواصل مع أعضاء النادي العربي السوري، وقد تجلت مطالب رجالات شرقي الأردن، بالمطالبة بالاستقلال وبوحدة سوريا الطبيعية، ورفض وعد بلفور، والوقوف في وجه الهجرة اليهودية، والتحذير من مخاطرها المتزايدة، التي يتعدى خطرها حدود فلسطين، وقد وثقت اللجنة حوارها مع الشيخ نمر العريق العبادي، على النحو الآتي:
س: من أجبركم على الحضور؟
ج: أجبرتنا عاطفتنا العربية، وحبنا لمجد قوميتنا، ولو كانت المسافة أضعاف ذلك لما تأخرنا، وإننا مستعدون لفداء مالنا وأرواحنا وأولادنا في سبيل استقلالنا.
س: من أين تأخذون الأموال؟
ج: من المحل الذي يره أبو غازي ( الملك فيصل الأول )
س: وإذا لم يمكنه تدارك الأموال اللازمة؟
ج: نبيع كل ما نملكه ونقدمه له.
س: وإذا لم يكن الاستقلال؟
ج: نطلبه بهذا، وأشار إلى السيف.
ويستمر حوار اللجنة مع الشيخ نمر العريق، حول حقوق الأقليات، فيثب لهم أن لا تفرقة بين أبناء الشعب، ويضرب لهم أمثلة عن وجود أعضاء مسيحيين في مجلس الإدارة في البلقاء، ويرفض في الحوار الموثق، القبول بدولة انتداب، ويؤكد قدرة أبناء المنطقة على إدارة شؤونهم بأنفسهم، ويعلن من جديد رفض الهجرة اليهودية، التي تهدف إلى الاستيلاء على الأرض، وتشريد أهلها. وهذا موقف متقدم لشيخ جليل، قاده وعيه المستنير، إلى التعبير عن ضمير كل عربي حر، في كل زمان وكل مكان.
ساند الشيخ نمر باشا العريق، جهود الأمير عبد الله المؤسس، في تأسيس إمارة شرق الأردن، وكان مقرباً من سمو الأمير، وتقديراً لمكانته العشائرية والوطنية، ولما يحمله من فكر قومي حر، فقد أنعم عليه الأمير عبد الله المؤسس، بلقب باشا، ليكون أول من نال هذا اللقب من شيوخ ووجهاء عباد، وكان ذلك عام 1923 بموجب مرسوم أميري، وقد كان نمر باشا عضواً في المؤتمر الوطني عام 1928، ممارساً لدوره الوطني والسياسي، الذي أسهم في وضع الدولة الأردنية الناشئة، على طريق بناء المؤسسات الوطنية العصرية. ومن صفاته التي عرف بها، قوة شخصيته وكرمه وفكره القومي الواعي، وقد توفي هذا الشيخ المناضل نمر باشا العريق العبادي عام 1936، وقد شكلت وفاته خسارة كبيرة، فلم يعوض فقده غير ذريته الصالحة وعمله الخيّر، الذي يجعل ذكره الطيب دائم الحضور، ومحط فخر واعتزاز عميقين.


تعليقات