مثقال الفايز: جمع بين الزعامة العشائرية والعمل الوطني الحر


مثقال الفايز: جمع بين الزعامة العشائرية والعمل الوطني الحر



هزاع البراري - يعد الشيخ مثقال الفايز شيخ مشايخ بني صخر(أعلى منصب عشائري) في مرحلة حاسمة من تاريخ المنطقة، وهي الفترة المكتنزة بالأحداث، التي أعادت تشكيل الجغرافيا السياسية، بعد قرون من الحكم التركي شبه المستقر للبلاد العربية، بالأخص في شرق المتوسط والعراق، وقد واكب الفايز معارك الثورة العربية الكبرى، وكانت له ولقبيلته إسهاماتهما فيها خلال توجهها شمالاً عبر البادية الأردنية، وكانت هذه التحولات وما تلاها من سقوط للحكم العربي في دمشق، شكلت الإرهاصات الأولى لتأسيس إمارة شرق الأردن، كنقطة ارتكاز متقدمة في سبيل تحرير سوريا من الاستعمار الفرنسي، وكان لرجالات الأردن دور مؤثر في التمهيد لقيام الدولة الأردنية، ودعمها في مواجهة التحديات التي وجهتها، وهنا برز دور واضح للشيخ مثقال الفايز، الذي عاضد الدولة الناشئة، ومدها بالعون، خاصة أنه يتزعم قبيلة تمتد من أطراف عمان، حتى عمق البادية شرقاً، بالإضافة إلى امتدادها شمالاً وجنوباً، وبالتالي كان لها دورها المؤثر في مرحلة التأسيس.
البادية الأردنية منبت للرجال الأشداء، الذين حملوا كاهلهم أعباء يصعب وصفها، كانوا كالحصن المنيع الذي تكسرت على أسواره، كل المؤامرات والحملات المشككة، ومن بين هؤلاء الرجال يبرز مثقال الفايز كأحد رموز مرحلة مازلنا ننعم بنواتجها ونحن ماضون نحو المستقبل، ولد الشيخ مثقال الفايز في أوائل الربع الرابع من القرن التاسع عشر، في فترة تحرك القبائل الأردنية على طول البلاد وعرضها، في متابعة الكلأ والماء، مما أدخل القبائل والعشائر في صدامات تنافسية على هذه الموارد، خاصة قبل مرحلة قيام الدولة والحكومة المركزية في عمان، نشأ الفايز في كنف والده الشيخ سطام بن فندي بن عواد الموح الفايز، وتلقى علومه الحياتية من حياة البدو، ومن ( شق ) والده وشقيقه الأكبر (فايز)، والشق هو جزء من بيت الشعر مخصص اجتماع الرجال، وهو المكان الأنسب ليتعلم الصغار مبادئ الحياة، وأساليب الرجال في التعاطي مع المشاكل والصعاب، والاستماع للشعر وقصص البطولة التي تميز البادية.
تلقى مثقال الفايز تدريباً مبكراً وقاسياً، على ركوب الخيل والمبارزة بالسيف، واستخدام البندقية، فلقد كانت القبائل تعتمد عل أبنائها للدفاع عن نفسها، وبناء هيبتها ومكانتها، وعلى زعيم القبيلة أن يكون في مقدمة الرجال الزاحفين إلى المواجهة، ورأس الحربة في الإغارة التي كانت تفرضها طبيعة الحياة البدوية سابقاً، قبل استقرار القبائل في مضاربها، لذا شب مثقال الفايز على الشجاعة والإقدام، وقوي ساعده رغم صغر سنه، بحمل السلاح، حتى صارت شجاعته مضرب المثل، وصار خبيراً في الشؤون العشائرية، حيث أتاحت له بيئة والده الشيخ وهو بيت زعامة، من التفقه في حل المشاكل، والحكم بالخلافات التي تنشأ بين أبناء عشيرته والعشائر الأخرى، فلقد توسعت شهرته في مجال القضاء العشائري، حتى أصبح لا يشق له غبار في هذا الجال.
تسلم مثقال الفايز (الشيخة) بعد وفاة شقيقه فايز، وسرعان ما أصبح من أبرز زعماء العشائر في الأردن، خلال النصف الأول من القرن العشرين، وقد لعب دوراً سياسياً وطنياً، مما جعله زعيماً وطنياً فاعلاً، صاحب حضور ملموس في الأحداث التي تلت الثورة العربية الكبرى، لقد كان صاحب شأن كبير حتى في أواخر الدولة العثمانية، التي لم تستطع تجاهل تأثيره وقوة زعامته، فمنحه الباب العالية لقب (باشا) استرضاء له، واعترافاً بمكانته في بادية بلاد الشام، وكانت القبائل الأردنية في تلك الفترة من ضعف الدولة التركية، تقوم بدور كبير في الإدارة المحلية، وتعويض غياب الدولة ومؤسساتها، بالإضافة إلى حماية قوافل الحجاج، من هجمات قطاع الطرق، وهذا ما جعل شيوخ القبائل حكاما محليين، يفصلون في المخاصمات، ويحمون مناطقهم، يحملون عن الدولة كثيرا من الأعباء رغم قلة الموارد وقسوة الظروف المتقلبة.
دعم الشيخ مثقال الفايز الأمير عبدالله بن الحسين عندما قدم إلى عمان، وعمل على تأسيس إمارة شرق الأردن، في ظل ظروف صعبة، ومؤامرات خطرة، تفوق حجم وإمكانيات البلاد، وكان لهذا الدعم أثره في توفير أجواء الاستقرار والأمن، اللذين مكنا الحكومة المركزية في العاصمة عمان، من تكريس نفسها وتمتين وجودها، فتمكنت من تطوير دولة عصرية تفوق فيها على نفسها ومحيطها، وقد واجهت الإمارة خطر هجمات الأخوان (الخوين) القادمين من الجزيرة العربية، وقد قاد الشيخ مثقال الفايز رجال قبيلته لمواجهة الغزاة، فصد هجماتهم ومن ثم أغار على فلولهم وألحق بهم خسائر فادحة، وقد أسهمت معظم العشائر الأردنية في مجابهة هذه الغزوة، التي كانت من الشدة مما جعلها تهدد استقرار الإمارة هي تنهض بأعباء التأسيس.
لم تقتصر اهتمامات الشيخ مثقال الفايز، على الهم المحلي، بل كان صاحب توجه عروبي فطري، فلقد بادر إلى جمع السلاح والمال، وتجنيد المتطوعين، من أجل دعم الثورة الفلسطينية، التي كانت تواجه الاستعمار البريطاني، والأطماع الصهيونية اليهودية، وتمكن من رفد الثورة بالمال والرجال والسلاح، وقد أثار نشاط الفايز في دعم الثورة الفلسطينية قلق البريطانيين، وقد برز ذلك بوضوح في تقارير كلوب باشا، للقيادة البريطانية، وقد تأكد هذا الدور المؤثر، عندما دعى الفايز إلى مؤتمر وطني لدعم الفلسطينيين في نضالهم، يعقد هذا المؤتمر في منطقة أم العمد (مركز زعامة الفايز) وقد دعي لحضوره عدد كبير من زعماء العشائر، بهدف وضع إستراتيجية واضحة المعالم للمساهمة في الثورة الفلسطينية، وتوفير سبل الدعم المستمر لها، وهو أمر أثار غضب القادة البريطانيين، الذين لم يخفوا خوفهم من هذه الروح الوطنية التي تهدد مصالحهم.
تميز الشيخ مثقال الفايز بالموازنة بين أدائه كزعيم عشيرة، وبين واجباته كناشط سياسي ورمز وطني بارز، فلقد ذاع صيته في القضاء العشائري، أما فعله كمقاتل وفارس مقدام فلقد تغنى بها شعراء البادية، وأشاد فيها القاصي والداني، وتناقل الرواة قصصه وأخباره، أما ما عرف عنه من كرم وطيب نفس، كانت سمة لافتة، فهو لم يرد صاحب حاجة، وكان للضيف عنده مكانته الخاصة كائن من كان، فهو سليل شيوخ، عرفوا بصفات الكرم والشجاعة، ومساعدة الناس، وحماية الدخيل، وقد عمل الشيخ الفايز على توثيق صلاته بزعماء ووجهاء العشائر والقرى والبلدات الأردنية، وعمل بشكل دائم على جمع وجهات النظر، ورص صفوف الوطنيين، حماية للوطن ومن أجل العمل معاً لبنائه ورفعته، حيث عرف بمواقفه الوطنية، وقد عارض معاهدة عام 1928م مع بريطانيا، ووقف مع الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي، وطالب بدعهما.
دخل الشيخ مثقال الفايز العمل البرلماني التشريعي عندما تم تأسيس مجلس النواب، حيث خاض الانتخابات التي جرت عقب ذلك، وحقق النجاح لأكثر من مرة، وتمكن من خلال عمله في البرلمان، من ممارسة دوره الوطني مع عدد من رجالات الأردن في تلك المرحلة، كان مثقال الفايز رمزاً وطنياً كبيراً، وزعيماً عشائرياً ترك بصمته الواضحة على مرحلة بالغة الحساسية، وكان له دور في التأسيس واستتباب الأمن والاستقرار بين العشائر، وفي البلاد بشكل عام.
توفي الشيخ مثقال الفايز في نهاية العقد السادس من القرن الماضي، وشكلت وفاته خسارة كبيرة، نظراً للدور الكبير الذي اضطلع به، وللمكانة التي حققها طوال سني عمره، وقد دفن في بلدة أم العمد، المكان الذي أحبه، وأمضى فيه معظم حياته، وبالرغم مرور عقود على رحيله مازال ذكره بين الناس حياً، وستبقى ذكراه ما بقي الخير بين الناس عامراً، فالرموز الوطنية كالأشجار تثبت واقفة ما دامت أرض الوطن تحتضن أجسادهم الطيبة.


تعليقات