فخر النساء زيد..الفنانة التي حملت شمس الشرق

فخر النساء زيد..الفنانة التي حملت شمس الشرق



هزاع البراري - لم تكن اسطنبول عاصمة للإمبراطورية العثمانية ودولة الخلافة الإسلامية فحسب، بل كانت منطقة الالتقاء بين العالمين الشرقي والغربي، فكان مضيق البسوفور محطة التواصل والتلاقح بين هذين العالمين المتنافسين حد التصادم والتصارع في أحيان كثيرة، لذا كانت هذه المدينة الفريدة في بنيتها وتنوع تاريخها، والمزدهية بفرادة موقعها وعمق تطلعاتها تنتج فناً مغايراً وثقافة حدودها العالم بامتداداته اللامنتهية، ولعل هذا الغنى التاريخي والحضاري جعل منها محط أطماع القوى المستعمرة من جهة، ومهوى أفئدة الشعراء والفنانين ومن كافة بقاع الأرض، فهي المكملة للحضارة البيزنطية الشرقية، ومقر الخلافة الإسلامية الأخير، وتمسك في قبضة واحدة، شمال الأرض بجنوبها، وغرب الحضارة بشرقها المستنير.
هي أذن الأستانة الأمس و(اسطنبول) اليوم، كانت ولا زالت موطن الفنون والعمارة والفكر، ضمن هذه البيئة الملهمة، ولدت الفنانة الشرقية بنكهة عالمية فخر النساء زيد في عاصمة الدولة العثمانية، في فترة كانت تعصف بالإمبراطورية مؤامرات ملاحقة داخلية وخارجية، وهي أحداث انعكست على العرب الذين هبوا طلباً للحرية، وغيرت وجه تركيا الحديثة بشكل كلي، فكان لكل هذه المؤثرات نتائجها المشهودة على الأفراد والجماعات، ولعل كل هذا الإرهاصات أسهمت في تشكيل دواخل الفنانة فخر النساء زيد المولودة في اسطنبول عام 1901م أي في عمق المرحلة المكتظة بالتحولات السياسية والعسكرية، وحظية برعاية ذويها الذين عرفوا بعلاقتهم بالفنون والفكر والتاريخ، فوالدها شاكر باشا كان معروفاً ككاتب ومؤرخ ودبلوماسي بالإضافة إلى كونه وصل لمنصب قائد، أما أختها (عليه) فلقد عرفت بأعمالها في الحفر على المعادن والخشب، في حين اشتهرت ابنة أختها بأعمالها الخزفية، وقد أصبحت ابنة الأخيرة مخرجة معروفة.(حسين دعسة،فخر النساء زيد)
هذه هي البيئة الخصبة التي أنجبت الفنانة فخر النساء، وكانت إضافة لذلك تمزج ثقافات متمايزة في تكزين فكري واحد، فوالدها شخصية تركية مرموقة، وأمها من جزيرة كريت، أما زوجها فهو الأمير العربي الهاشمي زيد بن الحسين بن علي، فشكلت مزيجاً غنياً عكسته في روعة فنها وثقافتها العالية، وقد مكنتها هذه الظروف المؤاتية من دراسة الفنون الجميلة (الرسم) في دار الفنون في اسطنبول، فكانت بذلك ترسم خطواتها في عالم الفن على أسس من العلم والمعرفة الراسخة، لذا لم تتوقف طموحاتها في هذا المجال عند حد، لذا عمدت إلى الارتحال إلى عاصمة الفن والذوق الرفيع باريس، وهناك التحقت بأكاديمية رنسون للفنون عام 1927م، وفي تلك العاصمة الفرنسية، تعرفت على الفنان المعروف (بسيير) وكان لهذا الفنان دور كبير في الكشف عن مواهب هذه الفنانة الشرقية، وقد ساعدها في مسيرتها الأولى، وقد عرفها على كثير من الفنانين والنقاد العالميين، مما وفر لها خبرات واسعة ظهرت كلها في نتاجها الفني فيما بعد.
كان العام 1934م، نقطة تحول كبيرة في حياة هذه الفنانة الأصيلة، فلقد تزوجت بالأمير الهاشمي زيد بن حسين بن علي، الذي كان يعمل سفيراً للعراق في أنقرة في عهد الملكية، وكان الأمير زيد أصغر أبناء قائد الثورة العربية سناً، وأمه تركية مسلمة، وهذا رابط غير مباشر ربط بين الاثنين، غير أن الرابط الإنساني كان دائماً الأبقى والأصدق، ولعل لحياة الدبلوماسي المرتبطة بالترحال من عاصمة إلى أخرى، أثرها الإيجابي على الفنانة فخر النساء، فقد اتاح لها الإطلاع المباشر والتواصل مع عدد كبير من فناني العالم الغربي، وكانت هذه تجارب غنية أسهمت في تميز منجزها الفني، وبناء شخصيتها الفنية الواعية، وبذلك تنقلت بين باريس وبرلين ولندن، محاولة المواءمة بين ممارسة الفن، والأعباء الدبلوماسية الملقاة على عاتقهم.
لم يكن الفن لديها مجرد هواية، بل كان أسلوب حياة أوقفت عليه جل أيام عمرها المديد، فأقامت أول معرض شخصي لها في اسطنبول عام 1944م، ومعلنة بذلك عن وجودها كفنانة عالية المستوى، صاحبة مشروع إنساني واضح العالم، وكان هذا المعرض بمثابة الانطلاقة الحقيقية لفنانة استطاعت أن تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتؤسس شخصيتها المتفردة، التي شدت انتباه النقاد في المشرق والمغرب، بعد ذلك توالت المعارض السنوية وفي مختلف العواصم الغربية والعربية، وفي عدد من المدن الأمريكية، وقد بنت من خلال عملها ودأبها المستمر مكانة مرموقة في عالم الفن، حيث سعت أهم المتاحف العالمية لاقتناء لوحات من أعمالها التي أتسمت بسمات خاص تميزها ع غيرها من أعمال الفنانين العالميين.(المصدر السابق)
في العام 1958م خرج الأمير زيد من الحياة السياسية، بعد الانقلاب الذي حدث في بغداد وأطاح بالعائلة المالكة العراقية بشكل مأساوي، ومر الزوجان بظروف بالغة الصعوبة، وكانت حياتهما مهددة بشكل واضح، لكنهما تجاوزا المحنة الكبيرة، واستقرت فخر النساء في باريس، وتمكنت من تحويل مرسمها الخاص إلى صالون أدبي يلتقي فيه الشعراء والكتاب والفنانين، وقد كان منزلها عبارة عن تحفة فنية، من خلال تمازج الأشكال واللوحات مع الزخارف الشرقية ومساقط الضوء، كما وصف ذلك الفنان والناقد (جاك لاسينيه) وكان هذا الناقد معجب بأعمالها بدرجة كبيرة.
توفي الأمير زيد بن الحسين بن علي في إحدى مستشفيات باريس عام 1970م، وفي العام 1976م قدمت فخر النساء زيد إلى الأردن وأقامت في عمان بشكل دائم، وكان لهذه الخطوة أثرها في الحياة الفنية في الأردن، حيث عمدت إلى تأسيس مدرسة فنية لتدريس الرسم، وأطلقت عليها أسم (الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة - فخر النساء زيد) وقدمت من خلال هذه المدرسة خبرة خمسين عاماً من العمل في مجال الفن التشكيلي، وقد أسهمت هذه المدرسة في تخريج أفواج من الفنانات اللواتي قدمن للساحة الثقافية والفنية أعمالاً يشار لها بالبنان، وكان من بين من تلقى تدريباً في المدرسة: جانيت جنبلاط؛ جانسيت سامي؛ رباب منكو؛ سهى شومان، الأميرة عالية، ماجدة رعد؛ هند ناصر وأوفيميا رزق.
لقد اختارت الأردن مستقراً لها بعد رحلة طويلة مع الحياة والفن، فهو البلد الذي ينتصب على آلاف السنين من التاريخ والعراقة، وهو بلد يزخر بكم وافر من المواهب والطاقات، والأصابع المرهفة التي لا تحتاج إلا إلى من يرشدها نحو التحليق والإبداع، وكانت رغم تجاوزها السبعين تعمل بنشاط ملحوظ، وتقبل على الحياة إقبال الشباب المتدفق، فتلك هي روح الفنان وذاك ألقه الدائم، من هنا عملت حتى لحظاتها الأخيرة على تقديم خبرتها لجيل كامل من الفنانات المحليات والعالميات، ولا زال تأثيرها الفني يفرض نفسه بقوة، فهي حاضرة من خلال سنين طويلة من العطاء المتميز وغير المنقطع.
كان لوفاة فخر النساء زيد وقع شديد على أبناء الأردن، وعلى محبي الفن الرفيع في العالم، ففي صباح يوم الخميس الخامس من أيلول عام 1991م، أعلن الديوان الملكي ببالغ الحزن والأسى وفاة الأميرة فخر النساء حرم المرحوم الأمير زيد بن الحسين، وكانت قد أتمت تسعين عاماً تركت خلالها أثارا هامة في معظم العواصم الأوروبية والعربية، تاركة لنا أرثاً تزداد قيمته بمرور الأيام وتوالي السنين، فكانت بحق فخر النساء والرجال على حد سواء.

hbarai45@hotmail.com

تعليقات