نزال العرموطي .. رجل من خيل وشعر

نزال العرموطي .. رجل من خيل وشعر



هزاع البراري - يعد الشيخ نزال العرموطي، حالة فريدة في تاريخ عمان الحديث، فلقد توزع حراكه الاجتماعي والاقتصادي ما بين شمال مادبا وجنوب عمان، وما زال ذكره حاضراً بقوة بين سكان عمان وبدو الوسط، حيث ارتبط بقبيلة بني صخر ارتباطاً وثيقاً، حتى عد واحداً من أبناء عشيرة الكنيعان من عشائر بني صخر، فقد اصطبغ بالصبغة البدوية، فكان فارساً من طراز رفيع، جال على ظهر فرسه « الصقلاوية « سهول جنوب عمان حتى زيزياء، وتميز بشعبية كبيرة، فقد عرف بكرمه وحبه للخير، وتعلقه الكبير بالأرض، وهو ما جعل منه مزارعاً محترفاً، حول كثيرا من أراضي البور إلى أراض خصبة، أعالت عائلات كثيرة، وأسهمت في الدخل القومي، وهو واقع وضع نزال العرموطي، في ثلة رجالات مرحلة التأسيس الأولى، الذين تركوا بصماتهم الخاصة على عهد البناء، الذي حُملت رايته جيلاً بعد جيل.
كانت بلدة « منجا « المكان المحبب إلى قلبه، فهي مسقط الرأس، حيث نشأ وترعرع فيها، ومع عائلته من آل العرموطي تعود بأصولها إلى فلسطين، وسرعان ما توثقت علاقة العرموطي مع عشيرة الكنيعان، وما زالت هذه العلاقة تمتد وتتفرع بين الأبناء والأحفاد، لقد برز نزال العرموطي منذ شبابه الباكر، كأحد أبناء المنطقة، بدوي خبير في شؤون الناس، متطلع إلى المساهمة في خدمة وطنه، وبناء مستقبله، فنشأ على الفروسية، وأتقن المحاربة بالسيف، واستخدام البندقية، فكان شجاعاً ومقداماً، تميز بالذكاء والفطنة وسرعة البديهة، وقدرته الفريدة في التعاطي مع الناس، فحظي بمحبة الجميع، ولازم شيوخ المنطقة، خاصة شيوخ « منجا « من الكنيعان، من أمثال فهد الكنيعان، زعل الكنيعان، شراري الكنيعان وغيرهم من كبار شيوخ هذه العشيرة المرتبطة بعائلة العرموطي بصلات مميزة ومستمرة.
ولد نزال العرموطي أواخر القرن التاسع عشر في منجا، وتربى على الحد الفاصل بين السهول الخصبة والصحراء الشاسعة، ونال بعض التعليم من شيوخ الكتّاب، لكن مدرسته الحقيقية كانت الحياة، التي واجهها بكل مصاعبها ومشاقها منذ نعومة أظفاره، فتعلم العمل الجاد منذ كان طفلاً يقلد في ألعابه الكبار، ولم يكن حالماً لكنه صاحب رؤية ثاقبة، وأهداف سعى حتى لحظاته الأخيرة من أجل تحقيقها، ومن صفاته قدرته على العمل المتواصل، وبث الحماس في كل من يعمل معه، وتميز بصوته الجهوري، وصرامته في العمل، مع لين في المعملة، وعطف على المساكين وأصحاب الحاجة، فهو مضياف يجتمع في مضافته القاصي والداني، فتردد صيته بين أبناء العشائر، وأصبح بيته في عمان وجهة لرواد هذه المدينة الآخذة بالنمو السريع، ويعد الشيخ نزال العرموطي من بناة عمان العصرية، فلقد دفعه حبه للأرض إلى امتلاك عدد من «الموارس» في جبل خالٍ جنوب عمان، على مقربة من رأس العين، وهو الجبل الذي سمي في ما بعد بـ ( جبل نزال ) نسبة للشيخ نزال العرموطي، فكان من كبار الملاكين والمزارعين في تلك الفترة.
انتقل الشيخ نزال من منجا إلى جنوب عمان أواخر الحقبة العثمانية، في العقد الأول من القرن العشرين، ورحل معه مجموعة من عائلة العرموطي، وكان من أوائل من عمر بيتاً في هذا الحي الجديد، الذي سمي باسمه، وقد أصبح بسرعة كبيرة من وجهاء عمان، وأحد رجالاتها النشطاء، وقد مارس دوره القومي والوطني بوعي فطري خاص، وكان من بين أعيان عمان الذين استقبلوا الأمير عبد الله بن الحسين الذي لبى نداء أحرار العرب، في أعقاب خروج الملك فيصل من دمشق بعد سقوطها بيد الفرنسيين، وقد دعم جهود الأمير الذي أعلن قيام إمارة شرق الأردن عام 1921، وما زال طيفه على فرسه يتجول من أطراف حي نزال، حتى حواف زيزياء، وكان سخاؤه كالأرض التي تعطي دون جزاء، حتى كان بيته موئل الضيوف، الذين يبتون في مضافته، حتى ينجزون شؤونهم في العاصمة، فكان بمثابة محطة كبيرة، يؤمها القاصي والداني، ويساعدهم في قضاء حوائجهم دون كلل.
الشيخ نزال من كبار مربي الماشية، فقد امتلك عدداً من قطعان الإبل والأغنام، ويعد أحد أبرز مزارعي القمح في وسط البلاد، بالإضافة إلى الشعير والعدس، خاصة في منطقة الحمرانية، نسبة لتربتها الحمراء الخصبة، وهي تربة حوض البحر الأبيض المتوسط، وكان يقوم مع عائلته والعائلات الأخرى العاملة في أرضه، بعملية الحصاد، ونقل المحصول ليجمع في بيادر كبيرة، في منطقة الذراع، وهو الموقع نفسه الذي أقيم عليه بعد ذلك جامع نزال الكبير، الذي يحتل اليوم قلب الجبل، وكانت المحاصيل تنقل على الجمال، لعدم توفر وسائل النقل الحديثة، حيث يتم الدرس من خلال ألواح خشبية، تجرها الدواب، وبعد عزل الحبوب عن الشوائب بطريقة يدوية، تخزن في مخازن تسمى الحواصل، في حين كانت تساق الإبل والماشية، بعد عودتها من المراعي، للمبيت في أماكن قريبة من سوق الحلال القريب من منطقة رأس العين، لكي تشرب من مياه السيل القريب.
نظراً لخبرة الشيخ نزال الاجتماعية، وملازمته لكبار الزعماء العشائريين، فقد اكتسب المعارف اللازمة التي أهلته ليصبح قاضياً عشائرياً لا يشق له غبار، حيث كان يقصده طلاب الحق من مختلف المناطق، وقد ساعدته علاقاته المميزة مع الجميع، في العمل على إصلاح ذات البين، وفض كثيرا من النزاعات قبل تفاقمها، والحيلولة دون قيام كثير منها، حيث كان صاحب كلمة مسموعة، وحكمة موثوق بها، ومكانة قامت على الخير والمحبة والتقدير، وتعتبر مضافته صالوناً اجتماعياً عامراً، ضمت رجالات عمان ومحيطها، يناقشون فيها أوضاع البلاد والمنطقة، قد أسهم هؤلاء الرجال في جهود البناء والتأسيس، وعملوا على مساعدة أمير البلاد في حفظ الأمن، ودفع الناس إلى العمل البناء والمشاركة في التنمية.
خاض الشيخ نزال العرموطي انتخابات مجلس بلدي مدينة عمان، وقد حقق فوزاً صريحاً، نظراً للالتفاف الناس حوله، ومكانته المرموقة بين جميع فئات سكان العاصمة، حيث مكنته عضوية المجلس البلدي، من المساهمة في جهود التخطيط والاعمار، لمدينته عمان التي أحبها وأخلص لها، فبادلته الحب بالوفاء الدائم، وقد قام بأعمال خيرية رائدة، كقيامه ببناء مدرسة ( العباسية ) في جبل نزال، وكانت له يد بيضاء في عدد من الجمعيات الخيرية، بالإضافة إلى دعمه لبرامج مساعدة الأيتام والعائلات المستورة، وكان منحازاً للشباب مقدراً دورهم في بناء مستقبل الوطن، فقد كانت له جهود في دعم وتشجيع التعليم، رغم أنه لم يتجاوز في تعليمه مرحلة الكتّاب، فحرص على تعليم أبنائه في أفضل المدارس حينها، ومما يذكر من جهوده الكثيرة، مساهمته في اختيار موقع مدينة الحسين للشباب ( المدينة الرياضية ).
لقد جاور الشيخ نزال العقيلات النجديين المعروفين بتجارتهم للإبل، وشهدت هذه المنطقة إقامة أول مولد رئيسي للكهرباء، وفي عقد الخمسينيات من القرن الماضي، ظهرت فرقة صوفية ناشطة، وقد قدم لها الدعم والرعاية، وأسهمت الفرقة في الاحتفالات الدينية والاستعراضات الخاصة بالمولد النبوي الشريف، وقد رزق الشيخ نزال – أبو محمد – بأربعة عشر من الأبناء والبنات من ثلاث زوجات، وقد أحب الخيل العربية، ولم يتخل عن فرسه رغم دخول السيارات بقوة إلى شوارع عمان، فكان يركب فرسه ليسير في الشوارع الرئيسية إلى جانب السيارات، حتى يصل ساحة المسجد الحسيني، فقد كان تقياً ورعاً يحب التهجد.
عشق الشيخ نزال كما هم البدو، الربابة وتشف روحه لعزفها الحزين، وأحب الشعر النبطي وحفظ الكثير منه، ويعمل في الصباح الباكر على تحميص القهوة العربية، ويطحنها بالمهباش باحتراف موسيقي عتيق، فيطلق من مهباشه أنغاماً إيقاعية عذبة. لقد عاش حياة بسيطة متقشفة، واعتاد على الطعام البسيط، وعندما غادرنا ترك لنا عملاً صالحاً مستمراً، ومكاناً طيباً يبقى وفياً لذكرى أحد رجالات الأردن الخلص الأوفياء، وسيبقى جبل نزال نصب من نوع فريد لرجل أعطى لبلده وناسه ولم يستبق شيئاً.


تعليقات