الشيخ جمعة الشبلي.. من البناة المخلصين وزراع الحياة

الشيخ جمعة الشبلي.. من البناة المخلصين وزراع الحياة



هزاع البراري - شكلت بلدة ماحص همزة الوصل بين السلط والفحيص وعمان، فهي قلب البلقاء النابض بالحراك الاجتماعي والاقتصادي، فكان لها دورها في البنية السياسية والاقتصادية للأردن الحديث، وبفضل موقعها الفريد، وجمال طبيعتها، وتميز أهلها بالكرم والمحبة، وحسن الضيافة، واندفاعهم للمساهمة في تشييد الأردن منذ لحظات التأسيس الأولى، عندما أعلن الأمير عبد الله الأول ابن الحسين، قيام أمارة شرق الأردن عام 1921م، بعد مخاضات سياسية وعسكرية عسيرة، نتج عنها بناء دولة عربية عصرية، كانت نواة لتحرير البلاد العربية في الشرق، فكان لها دور في دعم الثورة السورية والثورة الفلسطينية، فغدت الواحة الآمنة للمناضلين الملاحقين من الاستعمار الفرنسي والبريطاني، وهو ما منح الأردن توجهاتها القومية الملحوظة، وطبع أهلها بالطابع الوحدوي، المتفاعل والمبادر نحو القضايا العربية في الحرية والاستقلال.

لم يكن الشيخ جمعة الشبلي ببعيد عن هذا الوقع وتأثيراته المختلفة، فلقد ولد على مقربة من تأسيس الإمارة، حيث خرج للحياة عام 1924م، ليواكب مرحلة التأسيس والبناء منذ البداية، وكانت ماحص مسقط رأسه، بلدة صغيرة تتهيأ لاجتياز خطوات واضحة نحو النمو والتوسع، كما هو حال مدن وبلدات الإمارة، ونظراً لموقع البلقاء الذي يمثل وسط البلاد، وضمها لعمان العاصمة قبل التقسيمات الإدارية الحديثة، جعل من رجالاتها يمتلكون مقدرة ملموسة في العمل والتأثير، كما هو الشيخ جمعة محمد أحمد الشبلي، الذي تأثر في طفولته بفضاء الزعامات العشائرية في المحيط، وبالأخص جده الأول شبلي العبّادي، الذي ذاع صيته في الأردن وخارجه، وكان له دور وطني وقومي مشهود، وقد توارثت هذه الزعامة في عائلته، حتى وصلت إليه فيما بعد، فلقد نشأ في بلدة ماحص كأي طفل من أبنائها، ولم تكن الأوضاع الاقتصادي للأهالي مريحة، بل أن الفقر وقلة الخدمات التنموية هي السائدة والبلاد الخارجة حديثاً من الحكم العثماني الذي عانت فيه الأمة العربية من أربعمائة عام من الإهمال.
تمكن جمعة الشبلي من الالتحاق بمدرسة ماحص الابتدائية، ودرس فيها حتى بلغ الصف الخامس الابتدائي، وكان ذلك عام 1935م، بعد هذه المرحلة خاض غمار الحياة العملية، وبدأ بخدمة أهل المنطقة، والعمل على تلبية طلباتهم وحل مشاكلهم، وأصبح خلال فترة وجيزة زعيماً عشائرياً كبيراً، وشيخاً حظي بالمحبة والتقدير، وصاحب كلمة مسموعة، فقد خبر الناس صدق قوله ونبل فعله، ورجاحة رأيه، مما أهله للاضطلاع بمهامه التي أخذت بالتزايد سنة بعد أخرى، ففي العام 1953م، اختير مختاراً لعشيرة الشبلي في ماحص وما حولها، وكان للمختار مكانته الكبيرة ودوره المؤثر في تلك المرحلة، وقد نهض بهذه المهمة على خير وجه، حيث كان دائم الصلة مع شيوخ ووجهاء البلقاء خاصة والأردن عامة، وقد ساعدته هذه المعارف الواسعة على تأكيد زعامته، ومقدرته على خدمة كل من قصده من أهل ماحص، أو من خارجها.
مع تطور بلدة ماحص، وزيادة حاجتها للخدمات وتطوير مرافقها، تم تشكل أول مجلس قروي فيها، ليصبح الشيخ جمعة الشبلي أول رئيس للمجلس القروي، وقد بقي يشغل هذا المنصب طيلة عمر المجلس الذي أستمر خلال الفترة من عام 1964م حتى العام 1972م، عاملاً ما يمكنه من أجل بناء المرافق وفتح الطرق الرئيسية والزراعية، من أجل تسهيل حياة أهل البلدة، وخدمة حقول الزارعين، وقد تم مواكبة تمدد البلدة وزيادة سكانها، فأنشئ فيها مجلس بلدي عام 1972م، ليقدم خدمات أوسع وأحدث للبلدة، وقد أختار الأهالي الشيخ جمعة الشبلي رئيساً لبلدية ماحص، ولم يكن سكانها ليستغنوا عن خدماته، وهو الذي عمد لدعوة رجال الحكم المحلي في البلقاء وكبار المسؤولين في عمان للبلدة من أجل الاطلاع على واقع الخدمات، وتحسينها، حيث كان يدفع من جيبه الخاص ليكرم هؤلاء الضيوف، مما انعكس على مستوى الخدمات اللافت، فقد تم انتخابه لرئاسة البلدية لثلاث دورات متتاليات، أصبحت خلالها ماحص مثالاً يحتذى، في النظافة وتوفر المرافق العامة، حتى أنها تفوقت على المدن الكبرى كالسلط وعمان.
أهتم الشيخ شبلي بإيصال الخدمات العامة من مياه الشرب والكهرباء وخطوط الهاتف، وفتح الطرق وتعبيدها بالتعاون القوات المسلحة، وجعل من مضافته مكاناً يلتقي فيه أصحاب القرار، الذين توافدوا على البلدة بدعوات متلاحقة من الشيخ جمعة رئيس البلدية، من أجل الحصول على خدمات جديدة لماحص، منفقاً في سبيل ذلك الغالي والنفيس من ماله الخاص، وقد وصف محافظ البلقاء « علي حسن عودة « والذي أصبح وزيراً فيما بعد، ماحص في سبعينيات القرن الماضي بأنها « زحلة الأردن « مشيراً لطبيعتها الساحرة ونظافتها المميزة وجودة خدماتها العامة، وقد وصف رئيس بلدية الفحيص المحاذية لماحص، السيد يوسف حنا الداود بأنها النموذج الذي تسعى بلدية الفحيص لبلوغه، في النظافة ونوعية الخدمات المقدمة، وكان هذا الحديث عام 1983م.
يعد الشيخ جمعة الشبلي من الرجال الخلص المتفردين، حيث عمل على جمع الناس حوله، لا يفرق بين أحد لأي سبب كان، حتى أعتبر الأب الروحي لأهالي ماحص، وقد عرف بمواقفه الوطنية، ومساهماته القومية، فقد أخلص للقضية الفلسطينية، وكان دائم التواصل مع أهلها، منذ شبابه الباكر، وكان واظب على زيارتها قبل نكبة عام 1948م وبعدها، وجمعته صداقات قوية مع عدد من وجهاء وزعماء فلسطين في أكثر من مدينة وبلدة، وقد دعم المناضلين الفلسطينيين، من خلال إمدادهم بالسلاح المتوفر، وقد أوى الملاحق منهم، وبعد نكبة الـ 67 استضاف في منزله عدداً من الفلسطينيين من أبرزهم مجموعة من عرب الكعابنة، مع قطعان ماشيتهم، وبعد نهاية الأحداث العسكرية، شجعهم على العودة لمنطقتهم العوجا قرب اريحا، ووعدهم بتأمين ماشيتهم إليهم، حتى لا يتم إخلاء البلدات الفلسطينية، وهو الأمر الذي يسعى إليه العدو، فقد امتلك نظرة سياسية فطرية ثاقبة، وقدرة مدهشة على قراءة الواقع والتنبؤ بالمستقبل.
التف الشيخ شبلي حول القيادة الهاشمية، واعتبرها الشرعية الحقيقية، والقلعة الحصينة التي تكفل حماية الأردن، والمضي به نحو المستقبل بثقة ونجاح، فشكل مع غيره من وجهاء ورجالات الأردن من شماله حتى أقصى جنوبه، الموجه الواعي الذي أسهم في تجاوز البلاد لكثير من المخاطر والمؤامرات، مدركين أن القيادة هي صمام الآمان الذي حفظ للأردن استقلالها واستمرار ازدهارها، فقد تميز الشيخ الشبلي بوعي سابق على الواقع الاجتماعي المحيط، حيث عمل على تشجيع تعليم البنات، وآمن بدورهن في التنمية وتعليم الأجيال، وعندما عارضه وجهاء ماحص، في أنشاء مدرسة للبنات، اتفق مع محافظ البلقاء بالسر على سجنهم حتى يقبلوا بفكرة المدرسة، وأن يكون هو نفسه مسجوناً معهم، وهكذا قبلوا بإنشاء مدرسة خاص للبنات، مما يؤكد ما تمتع به من حس وطني راقي، وشعور بالمسؤولية، جعله محط إعجاب القاصي والداني، وقد بلغ إيمانه بأهمية التعليم، أن رهن جزء من أرضه لتعليم عدد من أبناء ماحص في الجامعات داخل الأردن وخارجه، مما كلفه وذريته من بعده خسارة أرض تقدر بعشرات الآلاف، لكنه اعتبر ذلك واجب وطني لا يقدر بثمن، حتى أنه رهن أرضه لمساعدة أحد الأهالي بتنفيذ مشروع تجاري خاص به، لكنه خسر هذا المشروع، مما أضطر ورثته لبيع قطعة الأرض لتسديد المبلغ عن هذا التاجر، وهذه أمثلة بسيطة عن ما كان يقدمه الشيخ جمعة لأهله من ماله الخاص، دون أن يندم، أو حتى يطالب بالسداد.
حافظ الشيخ جمعة طوال حياته على حبه للزراعة، فكان مزارعاً من طراز فريد، رغم أعباء المسؤولية الملقاة على أكتافه، ومارس هوايته في ركوب الخيل والصيد في منحدرات البلقاء، واعتبر في السفر فوائد لا تحصى، فأكثر من السفر زائراً عدداً من الدول العربية والأجنبية منها: فرنسا، روسيا، تركيا، تونس، المغرب، مصر، سوريا، لبنان وغيرها الكثير من الدول، فكون شبكة من العلاقات الوثيقة مع شخصيات محلية وعربية وعالمية، وكرسها كلها لخدمة وطنه وبلدته وأهله.
توفي بعد عمر زاخر بالعمل العام والانتماء المخلص، وإصلاح ذات البين، فانتقلت روحه إلى باريها عام 1996م، وقد خرجت البلقاء ورجالات الأردن ومسؤوليها لتشيع جثمانه إلى مثواه الأخير في ماحص.


تعليقات