عبد العزيز الضمور.. العطاء عندما يثمر كشجرة طيبة

عبد العزيز الضمور.. العطاء عندما يثمر كشجرة طيبة



هزاع البراري - ''خشم العقاب'' تلك القلعة المزدهية بتاريخ أشم، يغوص في القدم حتى يلامس سيوف جيش ميشع الملك المؤابي، ويستجيب لصيحات جند صلاح الدين الأيوبي، وهو يرسم الطريق لتحرير بيت المقدس، فهو تاريخ حافل بالبطولات شد بعضه بعضاً، فصدى الحملة المصرية على بلاد الشام، والتي قادها إبراهيم باشا، نجل حاكم مصر محمد علي باشا، يتردد في الذاكرة، وفي الأماسي الحاضرة ، بعد استغل ضعف الدولة العثمانية، ورغب بالتوسع شرقاً وشمالاً، حتى وصل إلى أنقرة، وكاد يدخل اسطنبول (الأستانة) لولا تدخل القوات الغربية الممثلة ببريطانيا وفرنسا، اللتان لم تقبلا بقيام دولة عربية قوية على أنقاض رجل أوروبا، في ظل أطماع هذه الدول في تركة الإمبراطورية العثمانية، وتعد حادثة إبراهيم باشا مع زعيم القلعة إبراهيم الضمور، الذي لم يستسلم ويفتح أبواب القلعة، بعد أن أمسك قائد الحملة المصرية بولديه وهدد بحرقهما، أن لم يستجب، فلم يستجب.
عبد العزيز الضمور أبن خليل طه الضمور وهذا الأخير نجل القائد الكركي الكبير إبراهيم الضمور، الذي صمد كأبراج في مواجهة جيش محمد علي باشا، وكان لطه الضمور شرف التضحية بروحه على أبواب القلعة، مكرساً دأب رجالات الكرك على مر العصور، في التضحية والفداء، وقد لقب أبناء وأحفاد الشيخ طه الضمور بأبناء طه (عيال طه) حيث ألفت عليهم الأغاني والأهازيج، وروائع الأشعار، التي تغنت بفروسيتهم وكرمهم، وإصلاحهم ذات البين، وخدمة أهلهم وبلدهم، مما جعل ذكرهم بين الناس طيباً، وصورهم خالدة في الذاكرة، وتضحيتهم جاوزت حدود الزمان والمكان، حيث تواصل تقدمهم للعمل الإيثار، حتى أصبحوا مضرب المثل، والقدوة التي تحتذى، متأصلين في الذاكرة الشعبية.
أن انحدار الشيخ عبد العزيز الضمور من فراس القلعة، الذين حموا أسوارها وصانوا العهد، منذ نبت الإنسان الأردني الذي بنى حضارته العريقة ودرتها البتراء، وظلت الكرك عصية على طوابير عسكر الغزاة، حتى تمردت على ظلم الدولة العثمانية، عندما بدأ نجمها بالأفول، فكان أبناء طه (عيال طه) من عشيرة الضمور، يضطلعون بدورهم العشائري، على خير ما تكون الزعامة في البادية الأردنية، ففي أجواء البطولة والإقدام، والمواجهات المحلية والأحداث الإقليمية العابرة من خلال المنطقة، ولد الشيخ عبد العزيز الضمور، في نهايات القرن التاسع عشر، وذكرت الروايات أنه ولد عام 1876م، ولم تكن طفولته إلا تعبير عن الرجولة المبكرة، حيث يتم تدريب الفتيان على ركوب الخيل والمبارزة بالسيف، والمهارة باستعمال السلاح، وبذلك انخرط عبد العزيز الضمور، في مضمار الرجولة منذ نعومة أظفاره، في مرحلة تجعل من الطفولة تأسيساً حاسماً لتحمل المسؤولية، التي لا تتأخر، عندما تكون الرجولة الحصن لا تنحني جدرانه.(بحث أحمد الضمور)
يعد ''الشق'' في بيت الشعر، أو المضافة بيت الحكم في العشيرة، التي تعتبر مؤسسة اجتماعية ذاتية الحكم، في ظل غياب الحكومة المركزية، التي تعمدت إهمال هذه البلاد، وتركيزها على جباية الضرائب، في وقت رزحت فيه المنطقة تحت فقر مدقع، وعدم توفر أي مشاريع أو خطط للتنمية، وفي المضافة و''الشق'' تلقى عبد العزيز الضمور تعليمه لمبادئ مواجهة الحياة، والقدرة على الحكم والقضاء بين الناس، من خلال حضوره ومشاركته لوالده وأخوته مع رجالات الكرك، فتعلم الصدق والأمانة، واكتسب المعرفة العميقة بالشؤون العشائرية، والقدرة على خدمة أهله وأبناء المنطقة، والذود عنهم، عندما يتقدمهم في المعارك وفي صد الغزوات، فلقد ورث الزعامة والفروسية من أبائه وأجداده، فجده لأبيه الفارس الشهير إبراهيم الضمور(شيخ القلعة)، أما جده الشيخ طه الضمور فقد كان أحد زعماء الكرك، ومن الذين دافعوا عنها وأبلوا بلاء حسناً، وقتل مدافعاً عن أسوار القلعة، التي تبقى شامخة لا تعطي أسرارها إلا لمن عشقها وأشهر سيفه دونها، وترك من الأبناء خليل ومحمد ومحمود وأحمد، ونظراً لفروسيتهم المشهودة كانوا حاضرين في القصائد والأهازيج التي حفظ منجزهم غير المدون من الاندثار، فكثير من تاريخ وأحداث تلك المرحلة أهمل ولم يلتفت إليه.
كان خليل سليل أبيه وجده، زعيم عشيرة وقائد حرب مهاب، يتقدم فرسانه ولا يحتمي إلا بسلاحه، حتى قتل في إحدى المعارك، وكان هذا الشرف من صيب شقيقه محمد، المعروف بشجاعته، وفروسيته الحقة، حتى قتل كاراً لا فاراً، أما شقيقه محمود الذي عرف بزعيم (الشراقا)، فلقد أكمل مسيرة المقاتلين من زعماء العشائر وبالأخص أبناء طه، وسجل أسمه في سجل الفخار، حيث كان من قادة ثورة الكرك (الهية) ضد عسكر الإتحاد والترقي، التي اندلعت عام 1910م، وقمعتها القوات التركية بوحشية، ما زالت بعض شواهدها ماثلة للعيان، وتم ملاحقة قادة الثورة حيت تم القبض على محمود بن طه الضمور، ونقل إلى دمشق ، ودسوا له السم فتوفي ودفن هناك.
تسلم الراية ابنه عبد العزيز الضمور، الذي تزعم العشيرة، وصار قائد أركان حربها، ويعد مرجعاً في القضاء العشائر الذي لا يزال معترفاً به في كثير من القضايا، وكان القاضي بمثابة قصر العدل، يستمع للمرافعات (الحجج) ويقضي بالعدل حسب العرف المتوارث، ويعتبر الشيخ عبد العزيز بالإضافة إلى ذلك كله كقاضي محكمة التمييز، الذي يقبل من مراجعة أحكام القضاة إذا ما أختلف عليها، ويبت في صحة الحكم أو يعدله، ولا يصل إلى هذه المرحلة إلا من اتفقت العامة على تميزه ومعرفته الفذة في القضاء وشؤونه، ومن حاز حب الناس ورضاهم، وهذا ما تميز به عبد العزيز الضمور على مدى أيام عمره، وقد قصده طلاب الحق من أرجاء الأردن، نظراً لمكانته في هذا المجال، حتى أن بيته كان عامراً على الدوام بالرجال، يأمونه من كل مكان لقضاء حوائجهم، أو لحل مشاكل استعصت عليهم، أو طلباً للمسامرة وتبادل المشورة، حيث كان بيته، محطة للتلاقي والتعلم، بالإضافة إلى أنها بيت حكم وإدارة اجتماعية مدنية.
اكتسب عبد العزيز الضمور المحبة والقبول داخل الكرك وخارجها، لم يعترض أحد على حكم له، فلقد توخى العدل ومخافة الله في الحكم بين الناس، وقد عرف بين الناس بـ (أبن طه) إشارة للتاريخ العريق لطه وأبنائه، ومن صفاته التي عرفت عنه، حبه الشديد للأرض وتعلقه بها، فلقد كان سباقاً في استصلاح الأراضي الصخرية من خلال طمر الصخور بالتراب، وزراعتها، ويكثر من شراء الأراضي، حتى أصبح من كبار الملاكين في تلك الفترة، وفي هذا دلالة على ما تمتع به من بعد نظر، وتقدير خاص للأرض التي دافع عنها أجداده وأعمامه، فأخلص للناس، وصان الأرض بقدر ما يستطيع.
أحب عبد العزيز الضمور الكرك وباديتها، فسكن المدينة، وسكن في الريف والقرى المحيطة، وعشق البادية وسحرها فسكن بيت الشعر، وفتح ''الشق'' للتعليلة والسمار، وعندما قدم سمو الأمير عبدالله بن الحسين إلى الشرق الأردن عام 1920م، كان عبد العزيز الضمور، ومن بين الذين استقبلوه فرساناً على ظهور الخيل، وعندما كان يزور أمير البلاد الكرك، كان من المداومين على استقباله، والترحيب به بما يليق بأمير هاشمي من قادة الثورة العربية الكبرى، ومؤسس إمارة شرق الأردن المملكة الأردنية الهاشمية فيما بعد.
عاش الشيخ عبد العزيز الضمور عمراً مديداً ناهز الأربعة وثمانين عاماً، عرف خلالها بالتقوى والتسامح، والحرص على مساعدة المحتاجين، ونصرة المظلوم، حتى كرمه أهله بمنحه أرضاً في قرية المشيرفة، حسب العادة المتبعة في تكريم كبير العائلة، وكانت تسمى (الشرهة)، وكانت هذه الأرض هي مقر مثواه الأخير، حيث توفي عام 1959م، ووري الثرى في قرية المشيرفة، بعد عطاء تواصل على مدى العمر، تكلل بالمحبة والتقدير الذي خلده في الذاكرة حتى يومنا هذا.

تعليقات