مفلح العودة الله العجارمة .. أسد بسمان

مفلح العودة الله العجارمة .. أسد بسمان



هزاع البراري - يعد مفلح العودة الله العجارمة، حالة فريدة في شخصيته وحياته، وظل حتى لحظات عمره الأخيرة يلهج باسم الوطن، ويتنفس عشقاً للقيادة الهاشمية.
خرج من رحم الظروف الصعبة، وعايش المناخات السياسية والعسكرية القاسية، التي أحاقت بالأردن منذ التأسيس، فلم تزد البلاد إلا منعة وقوة، بحكمة قيادته وإخلاص رجالاته من أمثال مفلح العودة الله.
ولاء حقيقي وشجاعة نادرة، ومقدرته لافتة على تحمل المهام الشائكة في الأوقات الحرجة، فتاريخ أي بلد يمكن أن يقرأ من خلال تاريخ رجالاته، الذين يشكلون اللوحة الفسيفسائية الرائعة، التي تعد اللوح المحفوظ للأجيال القادمة، وهو الواقع الذي منحنا جميعاً قوة خاصة، ومكن الأردن من تخطي مخاطر متعددة، ليصبح البلد الأنموذج.
أن مفلح العودة الله (أبو علي) خرج إلى الدنيا وكأنه قطعة من هذه الأرض، يحمل ملامحها، وقوة طبغرافيتها، وخصوبة تربتها المعطاء، له لون حنطتها ونظرة ثاقبة كعيني صقر حر، ولد في بيت والده المزارع البسيط بين هضاب أم الحنافيش – أم البساتين حالياً – على مقربة من العاصمة الفتية عمان، لكنها كانت تتبع إدارياً لواء مادبا ضمن محافظة العاصمة، التي تحولت بعد ذلك إلى محافظة، فألحقت أم البساتين وناعور حسبان اليهانظراً لتوسع الأخيرة، وقرب المسافة بين هذه المناطق وعمان.
لقد أطل أبو علي على الدنيا عام 1930 ، بعد قرابة عقد واحد من تأسيس الإمارة، ونشأ كأبناء المنطقة من عشائر العجارمة، حيث يعامل الأطفال باعتبارهم رجالاً صغاراً، ويحملون مسؤوليات رعي قطعان الماشية، والأعمال الشاقة في زراعة الأرض، ومساعدة الأهل في شتى المجالات، لذا جابت خطواته الصغيرة سهول المنطقة وهضابها، وتركت أشواك المرار والبلان بصماتها في قدميه، وتفتح وعيه على الفضاء المتوح، والبيئة البكر، وحفظ قصائد شعراء النبط، واستمع لقصص الفرسان والشيوخ، فكانت هي المعلم الأول له، في تلك المرحلة المبكرة من عمره، حيث البيئة المحيطة وفن الاستماع والاحتكاك المباشر مع الحياة، هي المدرسة الحقيقة التي تخرج منها بكل تميز وفهم عميق.
لم تتوفر في أم البساتين مدرسة حكومية أو خاصة في تلك الفترة، فالتحق بالكتّاب الوحيد الذي اتخذ من إحدى المغاور مقراً له، فكان يذهب إلى مغارة الكتّاب كل يوم ليتعلم القراءة والكتابة والحساب وحفظ سور من القرآن الكريم، وبعد ذلك يذهب لمساعدة أهله في أعمال الزراعة، فأرتبط بالأرض وعشقها منذ طفولته، وهو عشق رسم ملامح حياته القادمة، وفي عام 1947 ، أختار الالتحاق بالجيش العربي الأردني، وكان عمره حينها السابعة عشر، وكانت المنطقة العربية عامة والأردن خاصة، تشهد ظروفاً عسكرية وتحديات سياسية كبيرة، نتيجة للأوضاع المتوترة في فلسطين، والأردن في الأشهر الأولى من استقلاله، فأصبح جندياً في صفوف الحرس الوطني، ولم يكن الدخول إلى الجيش العربي متاحاً لكل أبناء منطقته، في فترة قيادة كلوب باشا، مما فرض عليه تحديات خاصة.
تمكن أبو علي بفضل إصراره وطموحاته الواعية، من أن يكون ضمن أفراد أول دورة مرشحين في الجيش العربي، وكان ذلك عام 1950 ، ولم يكن مروره في هذه الدورة التي تركزت عليها الأنظار، كونها الأولى من نوعها مروراً عابراً، بل وضع بصمته الخاصة عليها، عندما حصل على المركز الأول بتميز لفت الانتباه إليه، وتميز ببنية جسدية مثالية، أضاف إليها حضور وسحر خاص، وقد اختاره قائد الجيش ليكون قائد المراسم في حفل التخرج الذي أقيم عام 1951 ، حيث استدعاه إلى مكتبه في اليوم التالي، ومنحه مكافأة مالية قدرها خمسة وعشرون ديناراً، فكان أول ضابط من منطقته، وأول قائد مراسم من خرجي دورة المرشحين الأولى. وكان من ضمن رفاقه في تلك المرحلة: فهد مقبول الغبين، عبد الله صايل الخريشا، بادي عواد، كساب الجازي وعودة الله الدعجة.
أصبح مفلح العودة الله ضابطاً في كتيبة المدرعات، ولم يتخل عن تميزه كعسكري محترف، وجد حياته في حمل السلاح لحماية وطنه وقيادته، التي وجد فيها الشرعية التاريخية، وصمام الآمان الحقيقي لحفظ البلاد وتنميتها وبناء مستقبلها، تم ترفيعه بعد ذلك إلى رتبة ملازم أول، وكان له دور ملحوظ في مواجهة ما عرف بحركة الضباط الأحرار عام 1954 ، الذين حاولوا استدراجه ضمنهم رغم صغر رتبته العسكرية، نظراً لما عرف به من شجاعة وجراءة، وتميز بقدراته العسكرية، فكان من بين من استقبل المغفور له الملك الحسين أمام معسكر الزرقاء، وأدخله من الباب الخلفي لمفاجئة أصحاب الحركة ومواجهتهم، فقد اعتبر طوال حياته القيادة الهاشمية خطاً أحمراً لا يجوز تجاوزه أو الاقتراب منه، وبذلك كان أول من نال لقب ووظيفة المرافق الخاص لجلالة المغفور له الملك الحسين، مع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن طلال، حيث كانا معنيان بالدرجة الأولى بمرافقة الملك في كل الأوقات والمحافظة على حياته، وكان من مهامه أيضاً تنظيم الحرس الملكي.
عمل مفلح العودة الله مرافقاً للملك الحسين في أحلك الظروف، ولازمه فترات طويلة داخل الأردن وخارجه، وكان مقرباً منه، مما سمح للعلاقة الإنسانية بأن تكون حاضرة بقوة، فكان الملك الحسين معجباً بشجاعته وإخلاصه، فوثق به ثقة خاصة، لكن أبو علي لم يخلط بين عمله كمرافق لجلالة الملك وبين العلاقة الإنسانية، فتميز المغفور له بحسه الإنساني الراقي، كما هو دأب الهاشميين جيلاً بعد جيل، وقد أطلق جلالة الملك الحسين عدداً من الألقاب على مفلح أثناء فترة مرافقته له منها ( أسد بسمان، الهاسكي، البلدوزر) ودلت هذه الألقاب على أعجاب الملك بشجاعته وبنيته الجسدية، وكانت جلالة الملكة زين الشرف تعامله معاملة الأم لابنها، واستطاع أبو علي بفضل تميزه وإخلاصه للقصر بشكل مثير للإعجاب، من الحصول على احترام ومحبة الجميع.
شهد مفلح العودة الله على مفاصل مهمة من تاريخ الأردن، فلقد رافق جلالة الملك حسين خلال تعريب الجيش العربي، وكان بالقرب من جلالته عندما أعلن تعريب قيادة الجيش، وإحالة كلوب باشا على التقاعد، عام 1956 ، بعد ذلك أصبح ملحقاً عسكرياً في بريطانيا عام 1958 ولمدة عام، عاد بعدها لمرافقة الملك الحسين.
عندما سافر جلالة الملك الحسين إلى نيويورك، للمشاركة في اجتماع هيئة الأمم المتحدة بتاريخ العاشر من آذار عام 1960 ، حيث ألقى خطابه الرسمي، أصر أبو علي على مرافقته للمنصة والوقوف خلفه وهو يلقي كلمته، وكانت هذه المرة الأولى في تاريخ الأمم المتحدة، حيث لا يسمح في العادة لمرافقي القادة والملوك بمرافقتهم إلى المنصة، والوقوف خلفهم، وقد أشارت الصحافة العالمية لهذه الحادثة الفريدة، وكان لولائه المطلق، وجراءته في مواجهة بعض الرجالات وأصحاب الرأي، أن واجه عدداً من المصاعب، ففضل طلب إحالته على التقاعد، فأحيل على التقاعد بناءً على طلبه عام 1964م، وكان برتبة رائد، وقرر خوض الانتخابات النيابية التي أقيمت عام 1967م، ضمن دائرة مادبا وسعة المساحة، والتي تضم زعامات عشائرية وسياسية كبيرة، وكان مفلح العودة الله شاباً الثلاثينيات من عمره، ويمتاز بشعبية كبيرة، فتم الطعن بقبول ترشيحه في اليوم الأخير، حتى لا يتمكن من رد الطعن، مدعين أنه ليس من أبناء مادبا لتشابه اسمه مع شخص آخر، فلجأ إلى جلالة الملك الحسين، الذي أمسك بملف الترشيح وكتب عليه بخط يده « أشهد أنا الحسين بن طلال أن مفلح العودة الله العجارمة أردني أبن أردنية من أهل مادبا « ونتيجة لذلك قام القاضي أحمد عبد الكريم الطراونة رئيس محكمة البداية في تلك الفترة، بفتح المحكمة يوم الجمعة، كونه آخر يوم لرد الطعن، واصدر قراراَ من قضائياً بقبول ترشيحه لخوض الانتخابات النيابية، وكان تخوف المعترضين في مكانه، فقد حقق أبو علي فوزاً ساحقاً، وكان من بين من حازوا على أعلى الأصوات في تلك الانتخابات على مستوى المملكة، ونال (14) ألف صوتاً، واستمر نائباً حتى العام 1989 .
لم ينقطع عن خدمة وطنه وأهله في منطقة أم البساتين وما حولها منذ كان عسكرياً، فلقد رافق جلالة المغفور له الحسين بن طلال لافتتاح مدرسة في الخليل، وخلال طريق العودة حدث الملك عن أبناء منطقته الذين منعهم صاحب المغارة من الدراسة فيها لعدم تقديمهم البيضتين والرغيف له، فقرر الملك فوراً بناء مدرسة في منطقة (أم الحنافيش) وأصر على افتتاحها بنفسه، وكانت أول المدارس في المنطقة، ويوم الافتتاح طلب الأهالي من الملك أعادة تسمية المنطقة، فأطلق عليها جلالته اسم « أم البساتين « وطلب من مفلح زراعة أرضه بالزيتون، لتكون أول مزرعة زيتون في المنطقة، فانتشرت زراعة الزيتون بشكل كبير فيها منذ ذلك التاريخ.
دخل مفلح الحكومة العسكرية الأولى والثانية عام 1970م، وأصبح وزير داخلية للشؤون البلدية والقروية، لكن لم تعمر هذه الحكومة كثيراً،نتيجة للظروف السياسية والأمنية، بعد ذلك شارك في المصالحة الوطنية، واختير عضواً في الإتحاد الوطني، وبعدها عاد مجلس النواب السابق الذي استمر حتى انتخابات عام 1989م، أي بعد فك الارتباط، لتعذر إقامة الانتخابات منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية. مارس في سنواته الأخير الزراعة باحتراف، خاصة على أطراف سيل حسبان، وعمل على مشاكل وقضايا أهله وإصلاح ذات البين، وكان محبوباً وقريباً من الناس، متواضعاً مقبلاً على الحياة، حتى وافته المنية يوم الاثنين في الخامس عشر من شهر أيلول عام 2008م، وشيع جثمانه الطاهر في مثواه الأخير في بلدة حسبان، وسيبقى ذكره عطراً بالإخلاص والانتماء وعمل الخير.


تعليقات