محمود سيف الدين الإيراني : عاشق البحر البعيد

محمود سيف الدين الإيراني : عاشق البحر البعيد



هزاع البراري - لم يكن محمود سيف الدين الإيراني رائد القصة القصيرة فقط، بل كان مثقفاً وصحفياً مؤسساً بارزاً ، وهو الذي ابتدأ من اتساع البحر الأبيض المتوسط سطره الكبير في الكتابة ، ومن عروسه الفاتنة يافا الواقعة في الذاكرة مثل منارة لا تخبو أطل على الحياة، وهو الممسك بناصية القرن العشرين المكتنز بالأحداث الجسام .
ولد الإيراني في يافا أشهر مدن شرق المتوسط عام 1912 م ، ليشهد بذلك على تسرب الغرباء الذين قذفت بهم السفن السوداء، في غفلة الناس الآمنين لتقلبات الدهر .
و لقب بالإيراني نسبة لموطن جده، الذي قدم من أصفهان أواخر القرن التاسع عشر ، أما والدته هو فهي من أسرة عربية معروفة ، ولا شك أن محمود تأثر بجده المتعمق بالدين والمحب للأدب والفكر.
نشأ الإيراني في حي العجمي بيافا حيث افتتح والده مكتباً للصرافة ، وقد عصفت الحرب العالمية الأولى بسكون طفولته ، فارتحل مع أهله إلى القدس لمدة سنتين ، ثم عاد بعد ذلك إلى يافا ليلتحق بمدرسة الفرير التي أنهى فيها دراسته الثانوية، ومطلعاً من خلال مناهجها على اللغتين الانجليزية والفرنسية .
وكانت لدى محمود الإيراني رغبة في الرحيل إلى فرنسا من أجل دراسة الطب ، غير أن حقيقة انه وحيد والديه وعدم تقبل والدته لفكرة ابتعاده عنها جعل من تنفيذ هذه الرغبة أمراً صعباً ، فاستسلم لأمر والدته ويبقى قريبا من أمه .(الدكتور مصطفى الفار).
كانت طفولة الإيراني هانئة وسعيدة ، فقد أولته والدته بحنان وحنو بالغين ، فهو وحيدها وقرّة عينها ، كما أغدقت عليه جدته لأمه الرعاية والمحبة الكبيرة، خاصة بعد أن فقدت الجدة أبناءها باستثناء والدة محمود ، وهذا كله أضفى على الإيراني رقة وسرعة تأثر فجرت فيه مكامن الإبداع، وجعلت منه اسماً كبيراً في القصة القصيرة الأردنية والعربية وفي فترة مبكرة ، أما والده فكان يتصف بالقسوة والجدية ، فلقد قال الإيراني انه لم يذكر أن والده قبله ذات مرة أو مسح على رأسه بيده ، وهو واقع جعل من الإيراني رغم رهافة حسه، رجلاً صلباً وقوياً ، وقادراً على مواجهة صعوبات الحياة،
ظهر تعلق الإيراني بالأدب في عمر مبكرة ، فلقد عشق الشعر والنثر ، وساعدته معرفته باللغة الفرنسية في الاطّلاع على الأدب الفرنسي ، فكان أن بدأ في الكتابة الأدبية والصحفية قبل إنهاء دراسته ، وقد برز جهده في الصحافة حيث نشر في صحف : فلسطين، الإقدام،الدفاع،الجامعة الإسلامية، بالإضافة إلى مجلات ''نزهة الطالب'' ومجلة الفجر اللتين أصدرهما الإيراني نفسه ، ونشر في مجلة الطليعة والشباب واللهب ومجلة الرائد ، وكذلك نشر الإيراني في المجلات العربية مثل مجلة السياسة والمقتطف والثقافة و الطريف.
تأثر قلم الإيراني ببلاغة القرآن الكريم ، وبمؤلفات ابن المقفع، وكتب الجاحظ وعدد كبير من كتاب الأدب العالمي الكلاسيكيين ، وأعجب بشكل خاص بأدب روسيا قبل قيام الثورة البلشفية .
وأسهم الإيراني بفعالية في الحياة الثقافية في يافا خلال الثلاثينيات ، التي كانت حينها ساحة ناشطة توازي عواصم مصر وسوريا ولبنان ، حيث اصدر أول أعماله ''أول الشوط'' .
وشكلت مقاهي يافا منتديات ثقافية نابضة باللقاءات والمساجلات الأدبية ، وهي بالتالي لعبت دوراً نضالياً كما هو حال مقهى عرف بين المثقفين باسم '' التيوس'' للتحايل على جواسيس الانجليز ليتمكنوا من اللقاء والتنفيس عن غضبهم العام ، ولعل الكتابة عند الإيراني هي الوجه الآخر للبحر الذي فتن به، فكان يمضي الساعات الطويلة على شواطئ يافا، يتأمل عظمته أو يغفو حالماً على رماله اللامعة ، فكان الأدب معوّضه عندما نأى البحر بعيداً ، وتلاشت يافا خلف أسيجة الاحتلال.
في سنة 1941 م تزوج الإيراني وهو في الثلاثين من الآنسة مريم قاسم من حيفا ، وقد ازداد التوتر بين العرب واليهود واضطربت الأحوال، فأقدم على بيع مطبعته وارتحل إلى مدينة عمان، بعد أن ضاق بعنت المستعمرين الانجليز وتصرفات الدخلاء اليهود ، فقد عمل الإيراني قبل ذلك موظفاً في حكومة فلسطين، لكنه استقال وأسس مطبعة كبيرة وأصدر مجلة الفجر التي لم تدم طويلاً ، بعد ذلك عمل في حقل التعليم في الأردن وأصبح مدير مدرسة ثانوية، و مفتشاً للغة العربية، حيث تميز بالنشاط الفكري والأدبي خلال هذه الفترة ، في سنة 1960 أوفد إلى باريس في بعثة لشؤون اليونسكو ، حيث أسهم في الندوات والمؤتمرات التربوية والأدبية ، وأسهم بفعالية في مجلة رسالة المعلم.
عند تأسيس دائرة الثقافة والفنون في وزارة الثقافة والإعلام، قامت بإصدار مجلة أفكار التي استمرت بالصدور حتى يومنا هذا ، وقد توقفت المجلة في أعقاب حرب حزيران حتى كلف الإيراني بإعادة إصدارها، حيث أصبح رئيساً لتحرير المجلة ، لتكون مجلة فصلية منتظمة الصدور .
استمر الإيراني في منصبه هذا حتى توفي سنة 1974 م ، حيث أشرف على صدور عشرة أعداد من هذه المجلة الرائدة في هذا المجال في الأردن، وقد سعى الإيراني إلى إعطائها الصفة العربية الشاملة لتنافس بذلك أهم المجلات العربية الثقافية ،باعتبارها منبراً حراً لكل الأفكار والآراء وفي كافة المجالات الثقافية المختلفة. وقد كتب عن محمود سيف الدين الإيراني عدد كبير من كبار النقاد والأكاديميين المحليين والعرب أمثال ناصر الدين الأسد وعبد الرحمن ياغي وغيرهم .
وقد قال عنه الشاعر الناقد عبد الرحيم عمر '' كما ورد في دراسة للدكتور الفار'': ( إن خصوبة القاص التي اكتنزتها نفس الإيراني والتي امتدت من ''أول الشوط'' و''على صفحات ''الفجر'' و''مع الناس'' وعبر مجموعاته ''متى ينتهي الليل'' ، و''ما أقل الثمن''، و''أصابع في الظلام'' ، ثم في ترجماته الكثيرة وخواطره وتأملاته ، كل ذلك قد جعل أثر الإيراني على القصة القصيرة وكتابها في فلسطين والأردن أثراً حاسماً وعلى مستوى فعال .
ولقد كان لانتماءاته الوطنية والاجتماعية والطبقية صدى عميق في نتاجه الأدبي...). لقد ترك الإيراني إرثا كبيرا وخالدا ، سيبقى علامة فارقة في القصة القصيرة المحلية والعربية، بقي حضوره الأنيق دفئا لساحتنا الثقافية ، منذ رحيله عام 1974م وحتى قادم الأيام، أديبا كبيرا وكاتبا له بصمته الخاصة في السرد.

hbarari45@hotmail.com

تعليقات