محمد تيسير ظبيان.. التربوي الذي عشق الأدب والسياسة

محمد تيسير ظبيان.. التربوي الذي عشق الأدب والسياسة



هزاع البراري - يعد العلامة محمد تيسير ظبيان، ابن المرحلة المضطربة، التي حملت تغيرات كبيرة للمنطقة برمتها، وهي المرحلة التي شهدت سقوط دول عظمى وصعود أخرى، وبالتالي أعيد تشكيل خريطة العالم برمته، بما في ذلك البلاد العربية، منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، ولم تتوقف حتى بعد إخماد نيران الحرب العالمية الثانية، فقد كانت حياة ظبيان نموذجاً لنواتج وتبعات هذه التحولات، على المثقفين العرب، أولئك الذين حملوا الهاجس القومي، وهبوا من أجل حرية العرب واستقلالهم، فقد التفوا حول دعوة شريف مكة الحسين بن علي، عندما استجاب لأحرار العرب ومثقفيه، وتحرك لرفع الظلم من البلاد والعباد، من استبداد سياسية التتريك، التي انتهجتها الدولة العثمانية في أواخر عهدها، فأرسل نجله الأمير فيصل، للتحضير للثورة، وتهيئة العرب لهذا الحدث الكبير، فكان محمد تيسير ظبيان، احد هؤلاء الرجال الذين التفوا حول أنجال الشريف الحسين بن علي، فقد لعب دوراً نضالياً وتوعوياً بارزاً في هذه الفترة المفصلية، حيث استمر على ذات النهج طيلة حياته.
ارتبطت ولادة الأديب والتربوي محمد تيسير ظبيان، مع انطلاق القرن العشرين، هذا القرن الذي ترك بصمات كبيرة وقاسية في كثير منها، على العالم والوطن العربي، فقد ولد عام 1901، في منطقة ( مصياف ) في محافظة حماة، حيث نشأ أول نشأته فيها، وكان والده قضياً في منطقة ( النبك) لذا درس المرحلة الابتدائية فيها، ووالده دمشقي حيث عاد لدمشق، فأكمل محمد تيسير دارسته في مدينة دمشق التي مثلت في تلك مرحلة احد ابرز مركز الحراك العربي، المناهض للسياسية التركية العنصرية، وكان رجالاتها على صلة وتواصل وثيق، مع قائد الثورة العربية الكبرى، خلال مرحلة الإعداد، وما تلاها من أحداث، التحق ظبيان ، فلقد التحق بالمدرسة العثمانية أربع سنوات متواصلة، مكنته من الحصول على الابتدائية، وكانت هذه الشهادة كافية للحصول على وظيفة في تلك المرحلة، لكنه رغب في مواصلة مشواره في تلقي العلم، وقد أتاحت له الظروف أن يشد رحاله من دمشق، باتجاه مدينة القدس، وهي مركز ديني وعلمي بارز في المنطقة، حيث ضمت عدداً من المدارس والمعاهد الراقية، والتي يقصدها الطلبة من مختلفة المناطق.
وصل ظبيان إلى القدس من أجل إكمال دراسته، وهناك التحق بمدرسة الكلية الصلاحية، التي تمتعت بسمعة علمية كبيرة، وضمت خيرة المعلمين العرب، وكانت القدس بمقدساتها، وبيوتها العتيقة وأسواقها الناشطة، والحراك الفكري والثقافي، ملهمته الأولى، والمكان الذي تفتح فيه وعيه السياسي، ونمت فيه ثقافته، حيث ساهمت في إبراز موهبته الإبداعية، وقد كان لمعلميه دور في كشف هذه القدرات الأدبية، والمساعدة على إخراجها إلى حيز الوجود وصقلها، حيث كانت مدرسته تضم مجموعة من المعلمين الأدباء الكبار، الذين كانت له بصماتهم المشهودة على الثقافة والأدب العربي، من أمثال إسعاف النشاشيبي، عبد القادر المغزي، أمين الغوري وحسام جار الله، حيث شجعوه على كتابة الشعر، وتطوير أدواته الفنية في الكتابة الشعرية والنثرية، مما ساعده على المضي في هذا الاتجاه.
أمضي محمد تيسير ظبيان ثلاث سنوات، في المدرسة الصلاحية في القدس، عاد بعدها إلى مسقط رأسه دمشق، وفي هذه المدينة المزدهرة، رغب في مواصلة تحصيله العلمي، لذا سعى لدخول المدرسة السلطانية في دمشق، فكان له ذلك، وبعد أن التزم بالدراسة فيها لفترة من الزمن، انتقل إلى مدرسة مكتب عنبر، إحدى أشهر مدارس الشام، وكانت هذه المدرسة التي سميت أيضاً مدرسة التجهيز، تضم خيرة الشباب العربي، وقد تعرف خلال وجوده في هذه المدرسة على عدد من هؤلاء الشباب العرب، وكان من بينهم مصطفى وهبي التل ( عرار ) ومحمد صبحي أو غنيمة، وغيرهم، وكانت هذه الفترة خصبة بالنسبة لظبيان، المتعطش للمعرفة، والمتوقد بالحماس والمشاعر القومية، وهو الرافض لواقع العرب، وما آل إليه حالهم من ضعف وتخلف، وعدم اعتراف بحقوقهم وتطلعاتهم، وبدأ يعي أهمية العلم لمستقبل العرب، فكان أن وضع نفسه على المسار الصحيح، وهو المسار الذي دفعه إلى الأمام خطوات واسعة.
قاده وعيه الذي تشكل في مدرسة مكتب عنبر، إلى أن يختار إكمال مشوار دراسته، من خلال دخول المدرسة الحربية، وقد تمكن بعد تخرجه من هذه المدرسة، الحصول على رتبة ضابط، وقد بادر محمد تيسير ظبيان، بالانضمام للدولة العربية في دمشق بقيادة الملك فيصل بن الحسين، والخدمة في الجيش العربي الناشئ، وقد حصل على رتبة ملازم ثان، وعين مرافقاً لرئيس أركان حرب الوزارة القائد يوسف العظمة، بعد ذلك بفترة أصبح ياسين الهاشمي رئيساً للأركان، فكان ظبيان مرافقاً له، غير أن المؤامرة الغربية، دفعت بالجيش الفرنسي لمهاجمة سوريا، وقد خاض الجيش العربي بقيادة يوسف العظمة معركة حاسمة في ميسلون، وقد شارك ظبيان في هذه المعركة، وبعد أن تفوقت الترسانة الفرنسية الحديثة، سقطت الحكومة العربية، فشعر أن حلمه بالقومية العربية المستقلة، تعرض لنكسة كبيرة، فذهب إلى حمص شمال دمشق، وعمل في التدريس، بعد أن حل الجيش العربي، وتفرقت تشكيلاته.
وخلال عمله في التدريس، أخذ يحض على المقاومة، ومحاربة المستعمرين وإخراجهم من البلاد، وقد أزعجت نشاطاته السياسية التحررية السلطات الفرنسية، التي لاحقته حتى أضطر للهرب إلى شرق الأردن، حيث وفرت ملاذاً آمناً للمجاهدين والسياسيين العرب، وقد استقر في مدينة السلط شمال غربي عمان، وهناك عمل مدرساً في مدرستها الشهيرة، وقد كانت مدرسة السلط متأثرة بالمناخ العام في المنطقة، وضمت مدرسين وطلاباً يحملون توجهات قومية عميقة، وقد وجد ظبيان البيئة الملائمة، للتوعية بالظروف التي تتعرض لها الأمة العربية، وكان له نشاط ثقافي سياسي، دفع الإنجليز للقبض عليه، ومن ثم تم نفيه إلى مدينة الطفيلة جنوبي الأردن، وبعد أن أمضى فترة في الطفيلة، عاد إلى عمان، وقد عمل على المشاركة في تأسيس أولى المدارس الأهلية في عمان عام 1942، وبذلك كان من أبرز التربويين في الأردن، فقد كان له تأثير كبير على جيل وأكثر، من الطلبة الذين درسهم في السلط وعمان حتى منتصف ستينيات القرن الماضي.
كان محمد تيسير ظبيان منذ دراسته في المدرسة الصلاحية في القدس، يكتب الشعر ويمارس الأنشطة الثقافية المختلفة، واستطاع أن يحتل مساحة أدبية مرموقة، وأن يوثق علاقاته مع عدد كبير من الأدباء الأردنيين والعرب، وقد توج جهوده في هذا المجال، عندما عمل على تأسيس صحيفة يومية باسم ( الجزيرة ) عام 1943، وقد استمرت هذه الجريدة في الصدور بشكل مستمر، حتى عام 1954، عندما توقفت عن الصدور، وقد شكلت هذه الجريدة حالة مميزة في الصحافة المحلية. لكن أنشطته المختلفة لم تتوقف عند مرحلة من المراحل، ولم تقتصر على جانب واحد، بل كان ناشطاً وفاعلاً كتربوي ناجح، وشاعر كبير، وسياسي سعى للمحافظة على الوطن والدفاع عنه، وتعلق بالقومية العربية ونادى بها طويلاً.
في عام 1955 تم تعيينه مديراً لمعهد العلوم الإسلامية، وشغل أيضاً منصب مدير مدرسة كلية الشريعة، حيث عمل على إنشاء مجلة الشريعة، التي ما زالت تصدر بذات النهج الناجح. كان شاعراً رصيناً، وإن لم يعمل كثيراً على نشر قصائده في دواوين، وقد لحن له الفنان العربي الكبير محمد عبد الوهاب، قصيدته ( نشيد العروبة ) وقد أصدر عدداً من المؤلفات، منها: كتاب بعنوان ( فيصل بن الحسين من المهد إلى اللحد ) وكتاب ( الملك عبد الله كما عرفته ) ويتحدث عن المغفور له الملك عبد الله الأول، مؤسس إمارة شرق الأردن، وغيرها من الكتب والمخطوطات، وقد نال خلال حياته الحافلة بالإنجاز، عدداً من الأوسمة، حيث منح وسام الكوكب الأردني، ووسام الاستقلال الأردني، وكان على علاقة طيبة مع عدد من الملوك والأمراء، وشخصيات فكرية وأدبية وسياسية.
أحيل محمد تيسير ظبيان على التقاعد عام 1962، عندها تفرغ للكتابة والأنشطة الثقافية، وقد بادر إلى تأسيس عدد من المؤسسات الاجتماعية والتربوية والثقافية، وشارك في فعاليات المؤتمر الثقافي العربي في الإسكندرية عام 1950، والعديد من المؤتمرات والندوات المختلفة. وفي العاشر من شهر أيلول 1978، توفي السياسي والتربوي والأديب محمد تيسير ظبيان، وقد شكلت وفاته خسارة لأحد رجالات الوطن الأوفياء، لكن ذكره يبقى خالداً بما تركه لنا وللأجيال القادمة، ومن أدب وتأريخ وعطاء لا ينضب.

hbarari54@ hotmail.com


تعليقات