محمــــد الشريقـــي : سخر حياتـــــه للوطـــــن

محمــــد الشريقـــي : سخر حياتـــــه للوطـــــن



هزاع البراري - مثل محمد الشريقي حالة فريدة في منطقة بلاد الشام، مثلما كانت إمارة شرق الأردن، التي برزت نواة لدولة عربية كبرى، تسعى إلى دعم تحرير البلاد العربية المستعمرة، وتوفير ملاذ آمن للمجاهدين والثور العرب، فلقد وجد الأردن للمهام الجسام، ومنذ سقوط الحكومة العربية في دمشق من قبل الفرنسيين، ناهضاً بأعباء قومية كبيرة تفوق حجمه الجغرافي والبشري، لكنه تقدم بكل ثقة للقيام بما يمليه عليه الواجب القومي، فهو الوريث الشرعي للثورة العربية الكبرى، التي هدفت إلى تحرير الأرض والإنسان، لذا كان امتدادها القومي واضحاً منذ اللبنة الأولى لبناء الدولة عام 1921م، فلقد كان رشيد طليع القومي العربي السوري لبناني الأصل، أول رئيس للوزراء في إمارة شرق الأردن، وقد استمر هذا النهج، بصور مختلفة حتى يومنا هذا، ولم تكن الأردن تنطلق في رؤاها من زاوية ضيقة، بل على العكس، كانت المناخ النضالي الذي أثار الدول المستعمرة، وعم الثوار أينما كانوا، حتى تحقق استقلال هذه الدول الشقيقة.
هكذا جمعت المدن الشامية بعضها ببعض، الساحل ينعم بشمس مدن الداخل، ورمال الصحراء تعانق قمم الجبال المكسوة بالثلج والغابات، فكانت اللاذقية تلك المدينة المستريحة على شاطئ البحر الأبيض، مزهوة بألق المتوسط، وشاهدة على تاريخ عميق، تراكمت فيه الحضارات الشرقية والغربية، فالميناء كان يد تواصل، تتجاوز حدود التجارة، أو قدوم جيش من الغزاة، بل هو أرض لتلاقي الإنسان بالإنسان وتمازج الثقافة بالثقافة الأخرى، كانت هذه المدينة البحرية، حورية بلاد الشام على البحر، مسقط رأس محمد الشريقي، الذي نثر طفولته بين مسام رمل الشاطئ، وحركة موج البحر، وطاول بأحلامه هامات الجبال العالية، غير أنه ولد في المرحلة الصعبة، التي عانى فيها الناس من الجوع، والإهمال والتمييز في المعاملة، فلقد ولد في نهاية القرن التاسع عشر، عام 1898م، في فترة ضعف الدولة العثمانية، وتنكيلها برعاياها بقصد فرض التتريك عليهم، ونقل شبابهم إلى ميادين القتال في أوروبا، من خلال التجنيد الإجباري.
التحق محمد الشريقي بالكتاتيب، وتعلم فيها المبادئ الأساسية في القراءة والكتابة والحساب، وحفظ أجزاء من القرآن الكريم، انتقل بعد ذلك لمدرسة في اللاذقية، ودرس فيها المرحلة الابتدائية، وكان من الطلبة المتميزين، ولم يطل المقام في مسقط رأسه، حيث شد الرحال إلى عاصمة الدولة الأستانة - اسطنبول حالياً- ، وصل إليها وهو في عمر صغيرة، لكنه كان كأبناء تلك المرحلة، الأطفال يتصرفون كالكبار، بحكم أنماط التربية وقسوة الحياة المحيطة، وفي الأستانة واصل دراسته في مدارسها، متقناً اللغة التركية إتقاناً تاماً، لكنه لم يتمكن من إنهاء دراسته الثانوية فيها، فقفل راجعاً إلى دياره العربية، حيث وصل إلى بيروت التي تعد من الحواضر العربية من حيث النشاط التعليمي، والحراك التجاري، وبروز الحركة القومية في بواكيرها الأولى، وفي بيروت أكمل دراسته الثانوية، وتفتح وعيه على أحداث جديدة، وأطلع على ما يدور في أذهان المثقفين العرب، وضيقهم بواقع الحال، مع اشتداد قمع الأتراك لأحرار العرب ومفكريهم.
كانت لدى الشريقي طموحاته الخاصة في إكمال دراسته الجامعية، في حقبة كانت الجامعات نادرة الوجود، فقرر السفر إلى مصر عام 1913م، ليلتحق بجامعة القاهرة، وقد واظب على حضور دروس خاصة للشيخ محمد رشيد رضا، واستمع أيضاً لعدد من الدروس في الأزهر الشريف، وأفاد من وجوده في القاهر كثيراً، حيث كانت تشهد حركة فكرية وثقافية ناشطة، وتضم عدداً كبيراً من الشباب العربي، القادم لتحصيل العلم والمعرفة، غير أن الحظ عانده هذه المرة، فلم تطل إقامته في القاهر بل في مصر كلها، فلقد اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى، وكانت المنطقة تشهد حراكاً عسكرياً دولياً، فأضطر الشريقي لمغادرة مصر والعودة إلى سوريا، وكان خلال وجوده في بيروت والقاهرة على تواصل مع الحركات العربية المطالبة بالحرية والعدالة، ولاشك كان على صلة بعدد من الجمعيات العربية السرية، التي أقضت مضجع الدولة العثمانية، لذا قام العسكر التركي باعتقاله، بتهمة الانتماء لهذه الجمعيات المناهضة للسياسة العثمانية الجديدة، وكاد هذا الحدث أن ينهي حياته، فلقد حكم عليه بالإعدام شنقاً، لكن هذا الحكم تم تخفيفه إلى السجن المؤبد لمدة اثني عشر عاماً مع الأشغال الشاقة، أمضى منها ثلاث سنوات في السجن.
خلال هذا الفترة حققت الثورة العربية الكبرى، التي قادها الشريف الحسين بن علي وأنجاله، حققت انتصارات حاسمة، وتمكنت من دخول دمشق، وتحرير البلاد حتى شمال حلب، وكان من نتيجة ذلك أن قامت حكومة عربية في سوريا الكبرى، ونودي بالأمير فيصل بن الحسين ملكاً، وذلك خلال الفترة من 1918-1920م، وقد انضم محمد الشريقي للحكم العربي، وعمل موظفاً في ديوان وزارة المعارف، لكن هذه المرحلة لم تدم طويلاً، فلقد تآمر الغرب على المشروع العربي، عندما خسر العرب موقعة ميسلون، ضد القوات الفرنسية، فسقطت الحكومة العربية، وبدأت حقبة جديدة في المنطقة.
انتقل محمد الشريقي بعد سقوط حكومة دمشق العربية، إلى شرق الأردن التي بقيت بمنأى عن الاستعمار الغربي المباشر، فتم تعيينه سكرتيراً لمجلس المشاورين، وهو الاسم الذي يطلق على ما يسمى اليوم مجلس الوزراء، وكان خلال دراسته وعمله، ميال للكتابة الأدبية والصحفية، و يسهم في هذا المجال بالنشر المتقطع في بعض الصحف والمجلات، فبعد عمله في مجلس الوزراء، أصبح رئيساً لتحرير صحيفة الشرق العربي لفترة من الوقت، وقد كانت لهذه الصحيفة صداها المؤثر لتوجهاتها القومية، وأظهرت هذه التجربة ما تمتع به الشريقي من حس صحفي جيد، وخبرة لا بأس بها في مجال التحرير الصحفي، بعد ذلك انتقل إلى وزارة المعارف، حيث عين مفتشاً في مديرية المعارف، وكان المفتش يعتبر منصب تربوي عالي المستوى، وله مكانته الاجتماعية الكبيرة.
كان الشريقي مبرزاً في عمله منهجه، ودائماً يلفت الانتباه له لتميزه وإخلاصه في العمل، لذا كان مؤهلاً لتبؤ أعلا المناصب وأرفعها، ففي العام 1945م، دخل الحكومة لأول مرة، حيث تسلم حقيبة سيادية ومهمة، عندما أصبح وزيراً للخارجية، وكانت الأردن تمر بمفصل حاسم قبيل الاستقلال، فكان الشريقي على قدر المسؤولية، ولم يغادر الحكومة بعدها لأربع سنوات متتالية، لكنه تنقل بين أكثر من وزارة، فبعد الخارجية، أصبح وزيراً للمالية، وفي الحكومة التالية، تسلم حقيبة وزارة الاقتصاد، ومن ثم وزارة العدلية - العدل- وبعد هذه المدة من المناصب الوزارية، صدرت الإرادة الملكية بتعيينه رئيساً للديوان الملكي العامر، متوجاً بذلك عمله الرسمي، ومحققاً مكانة خاصة عند صاحب الأمر، فكان بحق أهل للثقة الغالية، متفانياً في عمله، لديه مقدرة فذة على تقديم الأفكار الجديدة، والتميز في الأداء.
بعد مغادرته لمنصب رئيس الديوان الملكي، عين سفيراً للملكة في كل من أفغانستان، وباكستان والهند، موظفاً خبرته الدبلوماسية خلال تسلمه لحقيبة الخارجية، لكنه بعد هذه التجربة في السلك الدبلوماسي، عاد ليتسلم وزارة الخارجية للمرة الثانية عام 1950م، عاد بعدها للعمل الدبلوماسي الخارجي، حيث عين سفيراً للأردن في القاهرة، المدينة التي أحبها أيام الدراسة غير المكتملة بسبب الظروف العسكرية حينها، وقد عين سفيراً في مصر عام 1959م، ثم غادرها إلى تركيا ليصبح سفيراً للأردن في أنقرة عام 1961م.
عرف الشريقي أيضاً كونه شاعراً مجيداً، كتب عددا من القصائد المتميزة، وقد نشرت الطبعة الأولى من ديوانه «أغاني الصبا» في دمشق عام 1921م، وأعادت طباعته وزارة الثقافة عام 1990م، وقد ترجم عن التركية كتاب « مسألة السكان والوطن العربي»، ونال محمد الشريقي خلال حياته الحافلة بالعطاء عدداً من الأوسمة من الدرجة الأولى منها: وسام النهضة، ووسام الاستقلال، ووسام الكوكب، وقد بقي معطاءً، لم تفتر عزيمته حتى وافته المنية في عام 1970م، باقياً مع كوكبة الأردنيين الأبرار، الذي ساهموا في بناء وطن عزيز، بقى حصناً للعروبة والحرية وكرامة الإنسان.

تعليقات