مصطفى المفتي: القاضي العادل والإنسان النبيل

مصطفى المفتي: القاضي العادل والإنسان النبيل



هزاع البراري - ينتمي القاضي الشرعي مصطفى المفتي، إلى عائلة عرفت بالعلم والمعرفة، وكان لها باع في العلوم الإسلامية الفقهية الشرعية، فعائلته تنتسب إلى السادة الأشراف، الذين اضطلعوا بدورهم في خدمة الدين والأمة الإسلامية، من خلال أعلامهم ومشايخهم الذين انتشروا في الأرض، يعلمون الناس، ويغيثون الملهوف، ويرفعون مشاعل العلم، فبالإضافة للمكانة الدينية للأشراف، فلقد حظوا بمكانة اجتماعية، قوامها المحبة والتقدير، فكانوا أهل تواضع، في رقة من غير ضعف، وقوة بالعلم والإيمان من غير تكبر أو تجبر، مما قربهم من العامة حتى لا تفرقهم عنهم، فكان مصطفى المفتي عنوانا لكل هذا التاريخ الممتد، مثل فيها السمة العصرية للإنسان الملتزم بانفتاح واع، أصبح فيها أفق بصيرته شاملا الإنسانية، لا يحمل عصبية عمياء، ولا يجنح للانغلاق المنفر، الذي إن استشرى يدفع بالأمة نحو التراجع والانحدار، مما يفسح المجال لأصحاب الفكر الظلامي، من النمو وإشاعة الفوضى والتخلف.
لم تكن عمان مسقط رأسه فحسب، بل كانت قبلة القلب، وميدان الطفولة والأحلام النبيلة، فلقد أسند على هضابها رأسه عندما ولد فيها، في الخامس والعشرين من شهر تموز عام 1968م، معلنا بذلك انتماءه إلى الجيل الجديد الذي ورث يقظة وجلد الرعيل الأول من البناة المؤسسين، فكان هاجسه تمتين الصرح والإضافة عليه، لذا عندما نثر مصطفى المفتي سنوات طفولته في شوارع عمان وأزقتها، قرأ تاريخها ورسالتها الحضارية والإنسانية، وكأنها كتاب مفتوح على التسامح وطيب اللقاء، حيث لا زالت ملاذا لطلبة الأمان والسكينة، فحمل المدينة بقدر ما حملته، ولأن العلم هو عنوان عصره ونهج بلده، التحق بمدارسها طالبا مجدا، عرف باجتهاده، وتفوقه في الدراسة منذ صفوفه الأولى.
تمكن مصطفى المفتي، من الحصول شهادة الثانوية العامة بتميز، من مدرسة توفيق أبو الهدى الثانوية، وذلك عام 1986م، وقد خرج من هذه المرحلة محملا بطموحات كبيرة، ونظرة ثاقبة لمستقبل حافل بالإنجاز والعمل، ولم يكن رغم أنه في بواكير الشباب، من الذين يغالون بأحلامهم، أو ممن يحاولون القفز على المراحل، بل كان متمهلا، يحب العلم ويفضل أن يسهم في بناء وطنه من خلاله، ويخدم الناس بعدالة ومساواة في أي عمل يمكن أن ينهض به، فدخل الجامعة الأردنية ملتحقا بكلية الشريعة، فحصل على درجة البكالوريوس في الشريعة الإسلامية، من قسم الفقه وأصوله، في العام 1990م، وكان بذلك يتوج نهج عائلته التي عنيت بالعلم في المجالات كافة، لكن بقي علوم الدين مكانتها الخاصة لديها.
لقد مهدت دراسته الطريق، ليدخل إلى العمل من الباب المحبب إلى قلبه، فلقد أحب القضاء وأدرك أهميته في الحياة، مما مكنه من أداء واجبه كما يحب ويرضى، فبداء حياته العملية، بالعمل كاتبا في المحاكم الشرعية منذ تخرجه في الجامعة، فكان دقيق الملاحظة، يمتاز بسرعة بديهة لافتة، مما أهله لدخول المسابقة القضائية، واثقا من علمه وخبرته، وقد تأكدت هذه النقاط في شخصيته، حيث حاز على المركز الأول في المسابقة، التي جرت عام 1992م، وكان لهذا الحدث أثره البالغ في حياته، فقد نتج عن نجاحه الباهر في المسابقة القضائية، أن دخل السلك القضائي، وأصبح قاضيا شرعيا، وقد حقق بذلك حلما بذل من أجله جهدا كبيرا، لكن مصطفى المفتي لم يكن من النوع، الذي يركن لما وصل إليه، فلقد أدرك أن العلم بحر لا نهاية له، وأن التميز لا يتحقق إلا بالعلم والعمل المتواصلين، حيث حاز على إجازة المحاماة الشرعية عام 1994م، رغبة منه في الإحاطة بالعلم والمعرفة المتعلقة بعمله كقاض شرعي، الأمر الذي يؤكد على تفوقه في عمله، بما يحقق رضا نفسه، طلبا لمرضاة ربه.
ارتبط أسمه بالتميز الواضح منذ صغره، فعندما عملت دائرة قاضي القضاة، على تنظيم دورة القضاة الأولى، في محكمة الاستئناف، في عام 1993م، أثبت مصطفى المفتي من جديد قدرته على التميز، فلقد حقق المركز الأول في الدورة، مرسخا مكانته في مجال القضاء الشرعي، وبالتالي فتح أمامه باب التقدم الوظيفي، وكان من الواضح أنه يسير نحو مستقبل يعد بكثير من الإنجاز والتميز، ونتج عن نجاحه في العمل، أن أصبح رئيسا لعدد من المحاكم الشرعية في عمان والزرقاء والكرك، وكان لتنقله بين عدد من المدن والمحافظات، أن أضاف لخبرته العملية مجالات جديدة، وجعلته أكثر التصاقا بالناس، متلمسا قضاياهم ومشاكلهم، فأصبح على علاقة وطيدة مع مجتمعه، ونال بفضل خلقه النبيل، وصفاته المحمودة حب الناس وتقديرهم الكبير له، وقد توخى في عمله العدالة ومخافة الله، فوفقه في عمله وحياته.
رغم حبه لعمله، وقضاء معظم وقته في إنجازه والإحاطة به، إلا أن تحصيل التعليم العالي لم يغب عن باله، فعمل على الانتساب لجامعة جوبا، ونال منها على درجة الماجستير في القانون، في عام 2001م، ولم يقف عند هذا الحد، فلقد رغب في الحصول على درجة الدكتوراه، وقطع في سبيل هذه الخطوة مشوارا طويلا، وبعد عمل شاق فرغ من إعداد أطروحة الدكتوراه، لكن القدر حال دون تحقق هذا الحلم، وفي مجال العمل، لم يكتف بالقضاء الشرعي، فلقد أسهم في الدعوة والتوعية بالإسلام الحقيقي المستنير، من خلال عمله خطيبا عرف بثقافته العالية، وقدرته في التأثير الإيجابي، وقد تطوع للتدريس في عدد من المساجد الكبرى، لا يبغي غير خدمة أهله ودينه مرضاة لله تعالى.
عمل مصطفى المفتي مدرسا في عدد من المعاهد والجامعات الأردنية، مختصا بمادة قانون الأحوال الشخصية، وقد أدرك أهمية الإعلام، وقدرته المذهلة في التأثير، فأحس بأن عليه واجبا يجب القيام به، فتوجه للإذاعة والتلفزيون، وقدم عددا من البرامج الهادفة، يفسر مفاصل ومرتكزات مهمة من الدين والحياة، ويقدم خبرته العلمية والعملية للناس من خلال أثير الإذاعة، أو الشاشة الصغيرة، وقد حققت له هذه البرامج انتشارا مقبولا بين المتابعين، الذين حفظوا سماته وعذوبة لسانه، وأصالة معرفته، فعمل على المشاركة في كثير من الندوات الحوارية المتلفزة، والمؤتمرات العلمية التي كشف خلالها عن سعة علمه، ومقدرته على المزاوجة بين عمله ودراسته بما يخدم موضوع الندوة، ويسهم في نجاحها.
عرف عن القاضي الشرعي مصطفى المفتي، اهتمامه بكتابة المقالة الصحفية، حيث نشر مقالاته المختصة في مجال الفقه والقانون في الصحافة المحلية، محققة رواجا بين القراء لسلاسة لغتها، وملامستها لحاجات الناس للمعرفة والتوعية، وكان لتقدمه المستمر في ميدانه، أن أصبح من أهل الخبرة والمعرفة في هذا المجال، وقد دعي للمشاركة في صياغة عدد من القوانين والأنظمة المتعلقة بعمل المحاكم الشرعية محليا، وخارجيا بالتعاون مع الأمم المتحدة في مجال القوانين الشرعية، أن النشاطات التي اضطلع بها كانت متعددة ومتنوعة بصورة ملفتة، وتستحق التقدير، حيث كان له جانب نقابي متميز، فقد أصبح عضوا في نقابة أشراف العالم الإسلامي، وعضوا في المجمع العلمي لسادة الأشراف، بالإضافة لعضوية الأمانة العامة لأنساب السادة الأشراف ورابطة آل المفتي.
لم يكن يتوقع كل من عرف مصطفى المفتي، الذي أحب العمل والحياة، كما آمن بالقدر واليوم الآخر، أنهم سيفقدونه باكرا وهو في قمة عطائه وتميزه، فلقد تعرض لحادث سير أليم، أودى بحياته، فجأة خسرناه وكان فقدانه قاسيا، ترك في القلب حزنا، لا يعزيناه فيه، غير عمله الطيب، وذكره الحسن، وإيمانه العميق، فلقد توفي في السادس من شهر آب من عام 2006م، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

تعليقات