خير الدين الزركلي .. «عامان في عمان»

خير الدين الزركلي .. «عامان في عمان»



هزاع البراري - يعد السياسي والأديب العربي خير الدين الزركلي، الذي أعلن انتماءه للعرب وطناً وأمة وحضارة، أول من كتب موثقاً الأحداث في عمان وشرقي الأردن، منذ إرهاصات التأسيس، وحتى العام 1923م، حيث كان من أبرز رجالات هذه المرحلة، وهو الذي رافق الأمير عبد الله بن الحسين من الحجاز إلى معان، ومن معان إلى عمان، وكان له دور كبير في تحمل أعباء التأسيس في المرحلة الشائكة، التي خيمت على البلاد العربية شرق المتوسط، في أعقاب إجهاض المشروع العربي الهاشمي، وإخراج الملك فيصل من دمشق، بعد انتصار الجيش الفرنسي بقيادة غورو، على الجيش العربي بقيادة يوسف العظمة في ميسلون.
وقد وصف خير الدين الزركلي مدينة عمان في مفتتح عقد العشرينات، في كتابه الشهير « عامان في عمان « الذي جمع بين المذكرات الشخصية والتوثيق السياسي بقوله « لم تكن عمان في ذلك الحين، شباط 1921م، أكثر من قرية قليلة السكان، ضئيلة المباني، مظلمة السبل لا يصل بينها وبين تاريخ مجدها إلا ما شخص من آثارها. ولا يدل على إمكان الحياة فيها غير توسطها بين قبائل بني صخر وبني حسن وعباد والعدوان، يردون عليها بين الفترة والفترة، فيبيعون فيها بعض ما تنتجه ماشيتهم، ويبتاعون منها ما يكتسبون، فللتجارة فيها شبه سوق، ولولا ذلك لأنفرد بسكناها جماعات من الشراكسة نزحوا إليها حوالي سنة 1290 للهجرة، ...، ولكن ابتغاء الربح وطلب الكسب، هما اللذان حملا إلى عمان تجاراً من دمشق ونابلس، افتتحوا فيها حوانيت صغيرة، فقصدها أهل الخيام والأكواخ من البداة الضاربين حولها والمقيمين في ما جاورها من القرى، وأصبحت ولها شيء من الشأن»
هذه عمان ما بين عامي 1921- 1923م، لتنهض بعد ذلك بتسارع مدهش، فتكون قبلة للأحرار الوافدين من المدن والحواضر العربية المختلفة، والواحة الآمنة وسط محيط مضطرب وغير مستقر، لقد جمعت بين عمان وخير الدين الزركلي روح عربية صافية، فتكاد نشأته تتعالق مع مبعث هذه المدينة العريقة من جديد بقلب وحدوي واعٍ، منفتح على الامتداد العربي الواسع، فقد ولد الزركلي في بيروت درة الساحل السوري في الخامس والعشرين عام 1893م، وينتمي خير الدين إلى عائلة دمشقية عريقة عرفت بالتجارة، فقد كان والده تاجراً لم يقصر إقامته على مدينة واحدة، وبالرغم أن بيروت مسقط رأسه، فقد نشأ في مدينة دمشق التي كانت عامرة بالحركة والحياة، وقد سمحت أوضاع والده المادية له للدخول إلى المدرسة، التي لم تكن متاحة للجميع في تلك المرحلة، وقد تعلم في مدارس الشام الأهلية، وتميز من بين الطلبة بتفوقه الدراسي، خاصة تميزه في اللغة العربية وآدابها، وقد انسجم ذلك مع موهبته الشعرية وميوله الأدبية، التي تفتقت محارتها فيما بعد.
لقد عرف عنه في ذلك العمر المبكر، ولعه بالكتب الأدبية وتأثر بمدرسيه في هذا المجال، حيث نظم الشعر في سن صغيرة، ولفت الانتباه لتميزه وموهبته وفصاحة لسانه، وقد أنهى دراسته الثانوية في الفرع العلمي بتفوق، في المدرسة الهاشمية بدمشق، وقد أهلته هذه الشهادة ليعمل مدرساً في هذه المدرسة بعد تخرجه مباشرة، وأخذت ميوله الأدبية والصحفية تأخذ مساراً أكثر جدية، فقد عمل على إصدار مجلة أسبوعية بعنوان « الأصمعي « لكن هذه المجلة حملت آراءً وأفكاراً لم ترق للحكومة العثمانية العنصرية في تلك الفترة، فعملت على مصادرتها ومنع صدورها، وقد دفعته هذه المضايقات لترك دمشق والذهاب إلى بيروت، راغباً في دراسة الآداب الفرنسية، فالتحق بالكلية العلمانية (الاييك) فتمكن من تحقيق هدفه، وبعد تخرجه من هذه الكلية عين فيها مدرساً للتاريخ والأدب العربي.
عمل خير الدين الزركلي على إصدار جريدة « لسان العرب « اليومية في دمشق، وذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولى، غير أن هذه الجريدة أغلقت، فلم يتخل عن حلم الصحافة فاشترك مع عدد من الأصدقاء وأصدروا جريدة جديدة باسم « المفيد « اليومية، وقد تمكن من كتابة ونشر عدد كبير من المقالات الصحفية في مجالات مختلفة، غير أن انتصار الفرنسيين في معركة ميسلون ودخولهم دمشق، ولدوره النضالي المناهض للاحتلال، فقد حكم عليه الفرنسيون بالإعدام ومصادرة أمواله وأملاكه، غير أنه كان قد تمكن قبل ذلك من الخروج من دمشق باتجاه فلسطين، التي غادر منها إلى مصر، ومن ثم وصل إلى الحجاز، حيث الشريف الحسين بن علي على رأس مملكة الحجاز، وقد حمل الجنسية العربية في الحجاز، عام 1921م، وكان قبل ذلك قد رافق الأمير عبد الله المؤسس إلى معان وعمان.
كان خير الدين الزركلي مقرباً من الأمير عبد الله ورافقه في أحلك الظروف، فقد استجاب الشريف الحسين بن علي لطلبات أهل بلاد الشام، وأرسل نجله لقيادة حركة تحرير سوريا، فوصل معان وقد استقبله الأردنيون وعدداً من الشخصيات العربية السورية، وكان الزركلي إلى جانب الأمير الذي وصل عمان، وأسس فيها حكومة عربية بقيادة هاشمية لتكون قاعدة لتحرير الشام، خلال هذه الفترة عمل الشريف الحسين بن علي على انتداب خير الدين الزركلي رسمياً، لمساعدة الأمير عبد الله في إنشاء حكومة عربية في شرق الأردن، وبعد استتباب الأمر في الإمارة الناشئة، كلف أمير البلاد المناضل العربي المعروف رشيد طليع برئاسة أول حكومة، في انسجام واضح مع توجهات الإمارة القومية، حيث عين خير الدين الزركلي مفتشاً عاماً لوزارة المعارف – التربية والتعليم – وقد تطلبت هذه المهمة جهداً تأسيسياً مضاعفاً، لما عانته البلاد خلال فترات طويلة من إهمال واضح في مختلف الجوانب وفي تأسيس المدارس بشكل خاص.
بعد نجاحه في وزارة المعارف، اختاره الأمير عبد الله رئيساً لديوان الحكومة الأردنية، ويذكر الزركلي في كتابه، أن الأمير عبد الله المؤسس، حظي باستقبال حافل لدى وصوله إلى عمان عام 1921م، ويذكر أن عدد سكان شرق الأردن حينها كان في حدود (320) ألفاً، وأن مجموع موازنة الحكومات المحلية كانت (120) ألف جنيه إسترليني، ويبين في كتابه « عامان في عمان « أن عدد المدارس شرقي الأردن (23) مدرسة منها مدرستان ثانويتان فقط، ويعرض الكتاب الذي يعد كاتبه شاهد عين، عرف بالبراعة الأدبية والصحفية، وبالدقة والتمحيص، أن من الأحداث المهمة التي جرت ووثق لها، انتصار العشائر الأردنية على هجمات الجيش الوهابي الذي وصل تعداده إلى (1500) رجل، ودحرهم من سهل أم العمد على مشارف عمان، إلى الصحراء الجنوبية الشرقية، وإنهاء خطرهم، خاصة أن القوات البريطانية رفضت التدخل في المواجهات، التي كان من شأنها التأثير على مسيرة الدولة الفتية.
خلال أحداث منطقة الكورة، والتمرد الذي تزعمه الشيخ كليب الشريدة عام 1921م، كان خير الدين الزركلي على رأس القوة التي حاولت فرض الأمن بالقوة ففشلت، مما دعى الحكومة إلى زيادة عدد قوات الدرك، التي أسهمت في استتباب الأمن وازدهار التنمية بشكل مضطرد، وقد قام الزركلي بإنجاز كتابه هذا خلال إقامته في القاهرة ونشره عام 1925م، وقد غادر شرقي الأردن بعد عام 1923م، حيث ألغت الحكومة الفرنسية حكم الإعدام بحقه، فعاد إلى مسقط رأسه دمشق، ومن ثم وصل إلى مصر وأنشأ فيها المطبعة العربية، التي طبع فيها بعض كتبه، وانتقل إلى مدينة القدس حيث اشترك مع بعض أصدقائه في إصدار جريدة « الحياة « اليومية، لكن الإنجليز قاموا بمنع صدور هذه الجريدة، لتوجهاتها القومية التحررية، فأصدر في مدينة يافا جريدة يومية أخرى، بعدها اختير عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1930م.
عمل مع حكومة المملكة العربية السعودية في عدة مناصب، فقد عينه الأمير فيصل بن عبد العزيز عام 1934م مستشاراً للمفوضية السعودية في مصر، وفي عام 1946م عين وزيراً للخارجية في الحكومة السعودية وممثلاً لها في جامعة الدول العربية، واختير أيضاً عضواً في مجمع اللغة العربية في مصر، وفي العام 1951م عين وزيراً مفوضاً دائماً لدى جامعة الدول العربية، وبسبب المرض الذي داهمه منحته الحكومة السعودية إجازة مفتوحة، فأقام في بيروت ودمشق، وزار خلال هذه الفترة عدداً من الدول العربية والأجنبية، وترسخت مكانته الشعرية والأدبية في أرجاء الوطن العربي، وبقي مخلصاً لقلمه ولأمته العربية، حتى توفي في الخامس والعشرين من تشرين الثاني عام 1976م، وبقي أسمه مدوياً في العواصم العربية والمحافل الأدبية، فهو مناضل قومي، لم يعترف يوماً بالحدود السياسية المصطنعة، وبقي منجزه الأدبي، عمله السياسي يذكران برجل من نوع خاص، لن يغيب عن الذاكرة العربية ما دامت الأمة العربية حية بالقيم والحضارة، وبالروح الإنسانية الراقية.

تعليقات