كامل العسلي.. عاشق بيت المقدس

كامل العسلي.. عاشق بيت المقدس



هزاع البراري - منذ فجر الحضارة الإنسانية، والقدس تتجاوز كونها مدينة ذات تاريخ عابق بالإيمان والمحبة، ورغم الصراع المستمر الذي فرض عليها، ونشأ من أجل السيطرة عليها، إلا أنها بقيت على امتداد أفق البشرية، مركز ضمير الإنسان المؤمن، الذي لا يكتفي أبدا من قدسية المدينة، وطهر أناسها، فهي مهوى أفئدة الأنبياء، ومقصد الصالحين، وملاذ من ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، تلك هي القدس من عهد اليبوسيين والكنعانيين، وفلسطينيي الماضي والحاضر، لذا فمن يقع في عشق بيت المقدس، فأنه يوقف حياته عليها، وكأنها مكتفية بذاتها، مكتملة في كينونيتها، تقبل كل المدن والثقافات، لكن من يغوص في أعماقها اللانهائية، لن تلفت نظره مدينة أخرى، ولن يفكر في هجرها حتى أبعد عنها، وحالت بينه وبينها طوابير من العسكر، وحقول من الألغام والموت، وكأنها واهبة الحياة، واثقة من صدق مريديها، فكيف إذا كان العاشق مقدسيا، ونبتا أنشب أظافر طفولته وشبابه في أزقتها وحاراتها وأسواقها العتيقة؟
هكذا هو الدكتور كامل العسلي، مقدسي الهوية والهوى، حمل معه أوجاع بيت المقدس أينما رحل، وناجاه أينما حل، ففي ملامحه قبس من نور مآذنها، وطمأنينة من سكينة كنائسها، فلقد وضع بصمة رأسه على ثراها الطهور، يوما كهذا اليوم، عندما ولد فيها في التاسع من تشرين الثاني عام 1925م، ولاشك أنه ولد في المرحلة الشائكة، في خضم الهجمة الاستعمارية، التي فتحت الباب واسعا للحركة الصهيونية، لكي تفتك بالأرض والسكان، وغرس خنجرها المسموم في خاصرة الوطن الكبير، الذي فت في عضده وأنهك قواه، كانت السفن الغريبة تلقي باليهود في الموانئ الفلسطينية، مسلحين بالمال والسلاح والكراهية، تساندهم القوى الغربية، وعلى رأسها دولة الاستعمار باسم الانتداب بريطانيا العظمى حينها، فلم تكن طفولته في فلسطين لتتفتح بعيدا عن أجواء المظاهرات وحركات التنديد، التي تنبهت لخطورة المشروع الصهيوني - البريطاني، فلاشك قد قادته قدماه الصغيرتان إلى حواف حركة احتجاجية، أو إلى قلب حي يتعرض للاستلاب خفية وعلنا.
كان والد الدكتور كامل العسلي يعمل في (البوليس) الفلسطيني برتبة ضابط، مما فرض عليه أن يكون على الدوام في قلب الحدث الفلسطيني والمقدسي خاصة، مما جعله يتشرب مرارة المرحلة في سن مبكرة، كان لها دور واضح في تفجر وعيه، وإدراكه المبكر لأهمية العلم، وضرورة الاهتمام بالمعرفة، وقد تعلم خلال هذه المرحلة تقدير الوقت والانضباط، عن طريق والده العسكري، وقد شجعه أهله على الدراسة، فتوجه إلى المدرسة الابتدائية في مدينة بيسان، وكان والده يتنقل بين المدن، مما فرض هذا الواقع على العائلة كلها، وكانت بيسان المدينة تتوسط السهل الخصيب، في النصف الشمالي من فلسطين، والمتصل مع سهول الأغوار حول نهر الأردن، أنتقل بعدها إلى مدرسة مدينة عكا على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وأخيرا عاد إلى مسقط رأسه القدس، وقد أنهى دراسته الابتدائية فيها، وكان متميزا في تحصيله الدراسي، ومتفردا في اهتماماته في القراءة، ومتابعة ما يجري على الساحة الفلسطينية والعربية، كلما أتاحت له الظروف الصعبة أنذاك.
تقدم كامل العسلي إلى الدراسة من أجل إكمال المرحلة الثانوية، فأنتظم في المدرسة الرشيدية في القدس، وكان أيضا من الطلبة الأوائل حتى حاز على الثانوية العامة حينها، وذلك عام 1943م، وقد رسخت لديه محبته للعلم، لذا لم تكن لديه رغبة لمغادرة مقاعد الدرس، فاستمر في المدرسة ذاتها، حتى حصل على شهادة الانترميديت الفلسطيني، وهي عبارة عن شهادة جامعية متوسطة، تناظر خريجي كليات المجتمع اليوم، وكذلك حاز على الانترميديت من جامعة لندن، وكان ذلك عام 1945م، وقد التحق بمعهد الحقوق الفلسطيني في القدس، وكان لهذا المعهد بصمة واضحة في تأهيل عدد من الحقوقيين العرب في المنطقة، في تلك الفترة، عندما كانت المنطقة العربية الخارجة من قبضة الحكم العثماني الطويل، تعاني من قلة المعاهد وندرة الجامعات.
لم تحل ظروف المنطقة العربية، والوضع في فلسطين دون أن يحقق الدكتور العسلي حلمه المتنامي، في الحصول على فرصة لإكمال دراسته، وإشباع الحاجة للمعرفة ضمن أصولها العلمية الحقيقية، فشد الرحال إلى العاصمة البريطانية، مدينة الضباب لندن، والتحق بجامعتها العريقة، في كلية الآداب، ولم تتعثر خطواته في هذا المجال، فلقد تمكن من الحصول على درجة البكالوريوس من جامعة لندن في الآداب عام 1950م، عاد بعدها إلى القدس، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل واظب على الدراسة في معهد الحقوق الفلسطيني، حتى نال في عام 1951م الدبلوم في الحقوق، محصلا بذلك إجازة لممارسة مهنة المحاماة.
أقبل الدكتور كامل العسلي على العمل، بنشاط وتميز لا يقلان عن نشاطه وتميزه في التحصيل العلمي، فلقد كان قد بدأ العمل قبل ذلك، حيث عمل في العام 1949م، مذيعا ومحررا في الإذاعة الأردنية، التي كانت تتخذ من مدينة رام الله مقرا لها، وقد استمر في عمله الإعلامي هذا، حتى سنحت له فرصة السفر والعمل في دولة الكويت، عام 1952م، لكن هذه المغامرة لم تستمر طويلا، فلم تمض سنة واحدة حتى قفل راجعا، ليعمل بوظيفة مفتش تربوي في وكالة الغوث لفترة من الزمن، وتحول بعدها إلى مهنة محببة لديه، فلقد عمل مدرسا في كلية خضوري الزراعية في مدينة طولكرم.
لم يتخل الدكتور كامل العسلي عن حلم الحصول على مزيد من التعليم، ضمن آفاق جديدة، ولم يكن ممن يخشون المغامرة المحسوبة، فعندما حانت فرصة لائحة، حمل حقائبه وأرتحل إلى برلين الشرقية، عندما كانت المدينة مشطورة بين المعسكرين الشيوعي والغربي، وكان سفره هذا عام 1956م، وقد عمل في برلين ودرس فيها، وكان في الوقت نفسه يتابع دراسته في جامعة (هومبولدت)، وقد تمكن عام 1967م، من نيل درجة الدكتوراه بامتياز، وكانت هذه الخطوة قد حققت له جزءا كبيرا من رغبته بالمعرفة، التي لم تتوقف عند هذه المرحلة بل بدأت بها، لذا لم يطل الإقامة في ألمانيا الشرقية، فلقد عاد إلى الأردن عام 1968م.
كانت الجامعة الأردنية الفتية، مكانه الطبيعي، فعمل مديرا عاما لمكتبتها، وقد كانت المكان الذي وفر له فضاء القراءة والكتابة، فنشط يعمل بنشاط ويعكف على قراءاته وأبحاثه، فبدأت كتبه بالتواتر، وقد توجه لدراسة بيت المقدس، ووقف عليه غالبية كتاباته، وقد تميز عمله بالعلمية والمصداقية، مما جعله محط إعجاب واهتمام الجامعات والمراكز العلمية، وبدأ اسمه كباحث مرموق يمتد على اتساع رقعة الوطن العربي، وقد حاز على جائزة الكويت للتقدم العلمي عام 1982م، عن أحد كتبه الصادرة عام 1981م، وكان لهذه الجائزة أثرها الطيب على سيرته العلمية في البحث والتأليف، وكان لجهوده المشهودة مردودها في تعريف العالم بالتراث العربي والإسلامي في بيت المقدس من خلال عدد كبير من المؤلفات الأصيلة نذكر منها، معاهد العلم في بيت المقدس، مخطوطات فضائل بيت المقدس، أجدادنا في ثرى بيت المقدس، وثائق مقدسية تاريخية، وغيرها الكثير من المؤلفات ذات القيمة العلمية المقدرته.
في السادس والعشرين من العام 1995م توفي الدكتور كامل العسلي، بعد حياة علمية حافلة بالإنجاز المتميز، الذي تزداد قيمته والحاجة إليه يوما بعد يوم، تاركا ثلاثة أبناء ذكور هم: جميل، وكريم، وعلاء، وابنة واحدة هي مي، وأرملته فريدة العسلي التي مازالت تشد عروة العهد، وتلملم أوراقه وكتاباته غير المنشورة، لكي ترى النور في وقت قريب، ليبقى العسلي في حاضرنا قبس من معرفة لا ينطفئ نوره يوما.

تعليقات