منصور بن طريف: ثائر وشهيد من الزمن الخالد

منصور بن طريف: ثائر وشهيد من الزمن الخالد



هزاع البراري - ارتبط اسمه بالنبل والفروسية، منذ أبصرت عيناه سفوح هضاب الكرك، وجال جواده سهول مادبا، وشواهق الطفيلة، فهو سليل زعماء وشيوخ مشايخ قبيلة بني حميدة، التي تمتد على رقعة واسعة، في الكرك ومادبا والطفيلة، وتضرب جذور هذا الثائر النبيل، إلى قبيلة عنزة الوائلية، ويشار أنه من أحفاد الوليد بن طريف التغلبي، وقد تمكن الشيخ منصور بن طريف، من خلال عراقة نسبه، وزعامته العشائرية، ونضاله كثائر ضد ظلم واستبداد الأتراك في أكثر من مفصل تاريخ، تمكن من حفر بصماته الخاصة، على مرحلة حاسمة من التاريخ العربي الحديث، وكان بالفعل مع عدد من رجالات الكرك، من بناء الإرهاصات الأولى لقيام العرب بثورتهم الكبرى، التي وضعت حدا، لحكم الدولة العثمانية لهذه المنطقة، الذي دام قرابة الأربعمائة عام.
وتؤكد الروايات أن الثائر منصور بن طريف، ولد في حدود العام 1840م، وفي زمن صعب، كانت فيه المناطق الأردنية، هامش مهمل للدولة العثمانية الآخذة بالانكماش، حتى سميت بالرجل المريض، وهي مرحلة مهدت لتحول نظرة الدولة للعرب محاولة طمس هويتهم، وتتريكهم، وإرهاقهم بالضرائب الجائرة، والتجنيد الإجباري، وكانت العشائر الأردنية، وبالأخص، المتواجدة في الكرك ومحيطها، الأكثر تأثرا، لقلة الموارد، والسنين العجاف، وشجاعتها في مواجهة التحديات، وهي أنفة البدوي الأصيل، فقد نشأ متشربا كل هذه الظروف والمصاعب، وتربى في كنف والده الشيخ أحمد بن طريف ذائع الصيت، والذي وصل ذكره إلى أقاصي الأرض، من خلال المستشرقين الذين سعوا لمقابلته والكتابة عن أوصافه وسماته الراقية، حتى لقب بالأمير النبيل، لما عرف عنه من كرم ونبل، وحسن تعامل وبعد نظر، جعله محط إعجاب لافت من قبل الرحالة المستشرقين، الذين وصفوه في كتاباتهم أنه من الزعماء الذين يندر وجودهم في ذلك الزمن، فهو يحمل بريقا في عينيه يدل على النبل والرقي، والشهامة العربية الأصيلة، وكان محبوبا ومهابا لدي شيوخ ورجالات القبائل والعشائر في الأردن ومحيطها.
عمل الشيخ أحمد بن طريف، على تعليم أبنه منصور قيمة الأرض، وغرس في قلبه حبها، وضرورة المحافظة عليها وحمايتها، ولو تطلب ذلك التضحية بالنفس، فلا قيمة للإنسان بلا وطن وأرض، ومما يؤكد على وعيه بقيمة الأرض، والحضارة الضاربة في عمق التاريخ، ما قاله للرحالة دريك والرحالة بالمر:''أنتما أيها الإفرنجيان، لو جئتما إلى هنا قبل اثني عشر سهرا وعرضتما جنيها أو اثنين، لحصلتما على ما شئتما من الحجارة بما فيها حجر ذيبان، أما الآن بات العرب أخيرا مدركين أهميتها''، وكان هذا الوعي السابق على مرحلته، أهم ما أورثه لأبنه منصور، الذي رافق والده ولازمه، يتعلم منه ويساعده في شؤون القبيلة، فتعلم على يديه، القيم والمبادئ والكرم، والقدرة على الحزم، فقد برز من صغره بالفروسية، واستخدام السيف والبندقية، وتدرب على المعارك، التي اعتادت القبائل خوضها، دفاعا عن وجودها ومكتسباتها، وحفظ مكانتها بين القبائل الأخرى، فلقد اشتد عوده سريعا، حتى صار فارسا لا يشق له غبار، ومحاربا من طراز رفيع، قادرا على القيادة والمواجهة، ومعالجة أعقد ودق المواقف وفي ظل ظروف غير طبيعية.
لقد واكب الشيخ منصور بن طريف، الوعي القومي بصورته الأولى، كرد فعل على تنكيل الأتراك بالعرب، وإهمال العشائر، وجباية ضرائب باهظة، بقوة السلاح وتهديد العسكر، وقد أستشعر حجم المسؤولية التي تقع على كاهله، وكاهل أبناء العشائر في الكرك وغيرها، وقد ازدادت مسؤوليته عندما توفي والده الشيخ أحمد بن طريف، فلقد تسلم أمانة زعامة قبيلة بني حميدة الكبيرة، وكانت بانتظاره أحداث كبيرة، أسهمت في تغيير توجهات المنطقة كاملة، لذا لم يكن ممن يتهربون من مسؤولياتهم التاريخية، فتحول إلى ثائر وطني، قادته فطرته العربية، قياده المواجهة مع دولة كبيرة كالدولة العثمانية، فعندما فرضت الأتراك التجنيد الإجباري على العرب الضرائب الجائرة، وقاموا بتطبيقها بقوة السلاح، وبهمجية غير مبررة، عمل الشيخ منصور بن طريف على قيادة حركة مناهضة عرفت بثورة بني حميدة ضد ممارسات الدولة التركية، تمكن مع قبيلته وأحلافها من تكبيد عسكر الأتراك خسائر فادحة، بعد الإغارة على مركزهم التي كانت تسمى (الدول).
لم تقف ممارسات الدولة العثمانية عند حد، بل زادت وتيرتها بعد تمكن جماعة الإتحاد والترقي، من الإمساك بزمام السلطة في اسطنبول، بعد تنكيلهم بأبناء العشائر خلال الإحصاء العام، الذي تلاعبوا به من أجل خدمة مصالحهم المالية والعسكرية، وفرضهم مزيدا من الضرائب، وقد تنادى شيوخ ورجالات الكرك ومحيطها، لتدارس الوضع، وإعلان الثورة على الدولة العثمانية، وكان من بين أبرز الحاضرين والمخططين للثورة قدر المجالي وصحن المجالي وحسين الطراونة ومنصور بن طريف وعودة القسوس وعاتق الطراونة غيرهم، وبذلك اندلعت أحداث الثورة وانتشرت لتشمل الكرك والطفيلة وشرق أم الرصاص، وتمكن رجال القبائل في هذه النواحي من سحق العسكر والفتك بهم، وكان الشيخ منصور بن طريف، مقاتلا شرسا وقائدا ميدانيا مميزا، وكان لجهوده في هذه المواجهات أثر كبير في تدمير القوات التركية المتواجدة، بالتالي السيطرة على الكرك، الأمر الذي دفع الأتراك، لإرسال قوات كبيرة، مزودة بمدافع، بقيادة سامي باشا الفاروقي.
زحف الفاروقي باتجاه الكرك، وتعامل بوحشية مفرطة، وحرق الأخضر واليابس، فبادر بقتل الرجال والشيوخ، وحرق المنازل والمحاصيل، واستخدم المدافع بكثافة، مما اضطر النساء والأطفال للهرب إلى الجبال، وتمكن سامي باشا بفضل آلته العسكرية من قمع الثورة، وأسر عدد كبير من شيوخ ورجال الكرك، من بينهم عدد من شيوخ بني حميدة، وصل عددهم (38) أسيرا، وقد عمدت الدولة على تعذيب الأسرى والتنكيل بهم، وأعلنت أنها لن تطلق سراحهم، إلا إذا سلم الشيخ منصور بن طريف نفسه، فقد كان مطلوبا وملاحقا لدوره الكبير والمؤثر في أحداث الثورة، ولما عرف عنه من نبل، وشهامة لا تقاس بمقاييس اليوم، فقد بادر إلى تسليم نفسه لقائمقام الكرك، مضحيا بنفسه، من أجل إنقاذ الأسرى.
عمل أبناء قبيلته والقبائل الأخرى على جمع مبلغ كبير، وصل إلى (200) ليره ذهبية، وقدموها للدولة العثمانية، كفدية من أجل إطلاق سراح هذا المناضل الكبير، لكنها رفضت، وقامت بترحيله إلى دمشق حيث حكم عليه بالإعدام، بعدها أعيد إلى الكرك، وتم إعدامه شنقا، وألقي به من أعلى قلعة الكرك إلى الوادي السحيق، مسجلا مفصلا ذهبيا من البطولة الخالدة، التي سطرها أبناء هذا الوطن على مر التاريخ، وقدم حياته وروحه فداء للأرض والحرية، مضحيا بنفسه حماية لأهله وبلده، وبذلك يعد منصور بن طريف رمزا للثائر الوطني النبيل، الذي رأى أن الوطن لا يصان ويبنى حاضره ومستقبله، إلا من خلال الذود عنه بالغالي والنفيس، وأن المناضل الحقيقي، يسير في المقدمة، ويجعل من روحه قبس من نور ونار، يستضاء به، وتصان به النفوس والأوطان، فسيبقى من الرجال الذين قضوا صدقوا الله والوطن، فحفظتهم الذاكرة بجلتهم الأنفس.
barari45@hotmail.com

تعليقات