سعد جمعة.. منحدرات الجنوب تصل ضباب المدن البعيدة

سعد جمعة.. منحدرات الجنوب تصل ضباب المدن البعيدة



هزاع البراري - ينتسب سعد جمعة للأكراد، الذين دخلوا بوتقة النسيج الأردني منذ عهد الدولة الأيوبية ، وهي الدولة التي أسسها القائد صلاح الدين الأيوبي نحو سنة 1173م ، وكان مقصده في ذلك جمع الإمارات العربية المتفرقة، تحت راية دولة واحدة قوية ، يكون بمقدورها مواجهة الحملات الصليبية التي احتلت الأرض المقدسة، وأجزاء من بلاد الشام ، وقطعَت أوصال الوطن العربي الواحد ، ولأن صلاح الدين بدأ حملته العسكرية بعد نضال آل زنكي ، وانطلق من الموصل شمال العراق ، كان من الطبيعي أن يلتحق الأكراد بالجيش الساعي إلى توحد الأمة، وتحرير الأرض ، وقد وصلت المعارك إلى الأردن، التي كانت على خط التماس بين المتحاربين خاصة في القلاع الموجودة في الكرك والشوبك ، خلال تلك الفترة أصبحت السلط مستقراً لفرقة من الأكراد فلا زال حيهم حتى اليوم يسمى ( محلة الأكراد ) ، وامتزجوا بالحياة الاجتماعية المحلية ، وبرز منهم علماء وقضاة وأعيان ، وانتشروا في المنطقة واهبين الأرض التي منحتهم كل شيء الولاء والانتماء.
هكذا في مدينة الجبال - الطفيلة- وعلى قمم الشواهق المطلة على المدى الرحب، ولد سعد جمعة في هذه المدينة الجنوبية عام 1916م ، ليكون ميلاده في العام الذي انطلقت فيه الثورة العربية الكبرى ، شاهداً على انبلاج مرحلة جديدة غيرت ملامح البلاد العربية ، ممهدة الطريق للدخول إلى القرن العشرين وما تلاه ، عاش سعد جمعة سنواته الأولى في الطفيلة ، وبعد دراسته في الكتّاب ومن ثم الدراسة الابتدائية، انتقل إلى مدرسة السلط لاستكمال دراسته الثانوية باعتبارها الثانوية الوحيدة في شرق الأردن في تلك الفترة ، وتمكن من إنهاء دراسته في السلط بتفوق ، وقد قاده الطموح والرغبة في تلقي المزيد من المعرفة والعلم، إلى الارتحال إلى دمشق، حيث درس الحقوق في جامعة دمشق، التي كانت تسمى الجامعة السورية ، أمضى في الجامعة أربع سنوات حيث حصل على البكالوريوس عام 1947م.
عمل سعد جمعة في مؤسسات الدولة الأردنية ، ولم يبخل بجهده أو بعلمه ، ولم يتقاعس عن العمل ، فكان معطاءً منتمياً ، في وقت كانت المنطقة تموج بأحداث جسام ، وتقلبات سياسية وعسكرية كبيرة، خلال الفترة التي سبقت حرب حزيران والنكسة، وفي ظل هذه الأوضاع الحرجة، كلفه جلالة الملك الحسين رحمه الله بتشكيل الحكومة عام 1967م ، حيث حصلت هذه الحكومة على ثقة البرلمان الأردني بالإجماع ، وهذه سابقة في تاريخ الحكومات في الأردن منذ تأسيس الإمارة وحتى يومنا هذا، وقد أسهمت اتفاقية الدفاع المشترك مع مصر، وكذلك توقيع اتفاقية مشابهة مع العراق، في حصول هذه الحكومة على الدعم الشعبي والرسمي ، غير أن قيام حرب الأيام الستة، وما رافقها من تفاعلات عصفت بالبلاد العربية، دفعت الحكومة للاستقالة في الأول من شهر آب للعام 1967م ، وقد قام الملك حسين بتكليفه بتشكيل الحكومة للمرة الثانية على التوالي، التي استمرت حتى نهاية العام، حين استقالت وكلف بهجت التلهوني بتشكيل الحكومة الجديدة.
أختير سعد جمعة عضواً في مجلس الأعيان من عام 1967 إلى عام 1969م ، بعد ذلك عيّن في وزارة الخارجية برتبة سفير ، وأصبح بعدها سفيراً للأردن لدى المملكة المتحدة، وكذلك خدم سفيراً في إيطاليا. وكان سعد جمعة قد تدرّج في الوظائف والمناصب الإدارية والسياسية، وصولاً إلى منصب رئيس الوزراء ، ففي العام 1948م عيّن مديراً عاماً للمطبوعات والنشر ، بعد ذلك انتقل إلى وزارة الخارجية وعمل رئيساً للشعبة السياسية ، وفي العام 1950 م أصبح سكرتيراً لرئاسة الوزراء ووكيلاً لوزارة الداخلية ، ونظراً لنجاحاته في كافة ما أكل إليه من أعمال، أصبح مكاناً للثقة ، حيث تم تعيينه محافظاً للعاصمة لمدة أربع سنوات ، انتقل بعدها للعمل وكيلاً لوزارة الخارجية ، وشغل منصب سفير الأردن في إيران ومن ثم سفيراً للمملكة لدى سوريا.
في العام 1962 م عيّن سفيراً للأردن في الولايات المتحدة الأمريكية، وعندما عاد إلى الأردن عام 1965 م صدرت الإرادة الملكية بتعيينه وزيراً للبلاط الملكي الهاشمي، وبعد أن خرج من مجلس الأعيان أصبح عضواً في الهيئة الاستشارية لفترة طويلة.
كان سعد جمعة مجداً وصاحب رؤية ثاقبة، مكنته من العمل والانجاز بشكل لافت للنظر ، وحاز خلال حياته على الحب والتقدير على المستويين الرسمي والشعبي ، وقد كرّم داخلياً وخارجياً بحصوله على أرفع الأوسمة ، فلقد حاز على وسام الكوكب الأردني من الدرجة الأولى، ووسام الهمايوني من الدرجة الأولى من الجمهورية الإيرانية ، والوسام الصيني من الدرجة الأولى والوسام الايطالي.
عاش سعد جمعة حياته عاملاً مثابراً ، ويعتبر من أصحاب القلم والفكر ، وله عدد من المقالات والبحوث الفكرية والسياسية ، وقد اصدر عدداً من الكتب منها : (المؤامرة ومعركة المصير) وكتاب ( مجتمع الكراهية ) وكتاب ( أبناء الأفاعي ) وغيرها . كانت حياته حافلة بالعطاء والبذل ، وفي العام 1979م، أصيب بنوبة قلبية خلال وجوده في لندن ، وتوفي في إحدى مستشفيات بريطانيا ، ونقل جثمانه إلى الأردن، حيث وري الثرى في عاصمة الأردن التي أحب وأخلص ، فكان مثالاً للانتماء والولاء ، ولم يعرف عنه غير الصدق والصراحة والإخلاص ، وا ليوم نستذكره كعلم من أعلام هذا الوطن العزيز.
hbarari54@hotmail.com


تعليقات