قريتي الحي.. الصدقة في معان..لمفلح العدوان


صورة
كتابة وتصوير: مفلح العدوان
دافئة وحميمية هي خريطة الوطن..
وبحجم هذا الحب يكون الحرص على تدوين كل ما يتيسر من معلومات، وتاريخ، وذاكرة، تحاول أن تستكمل تفاصيل كثيرة من سيرة المكان والإنسان في الأردن.
حميمية ودافئة هي خريطة الوطن.. وتلك القرى التي زرناها، وكتبناها بوحا، تبقى ساكنة في الوجدان، ونحن بدورنا نحب أن نعود لها بين حين وآخر من خلال تفاعل ايجابي يعزز ما تم كتابته حول تلك القرى. وفي هذه المساحة ستكون العودة إلى قريتين من قرى معان، واحدة كتبنا عنها قبل سنوات، وهي قرية الحي، بينما الثانية فهي قرية الصدقة، وقد كنا كتبنا بوحها قبل أسابيع، والرسالة الشاملة لمعلومات، كتابة مهمة عنهما، وردت من الباحث الصديق هاني الفلاحات مدير آثار محافظة معان.

الطريق الملوكي
رسالة الأستاذ الفلاحات حول قرية الحي وضع لها عنوان هو «الحَيّ الذي مات بأيدينا»، وفيها يقول: «تقع قرية «الحي» الى الشمال من بلدة وادي موسى حاضنة البتراء، وهي مساكن عرب العبيدية من اللياثنه منذ بدايات العهد الهاشمي وحتى مطلع الثمانينات. ولقد تم رصد العديد من القرائن التي تدلل على الاستيطان النبطي، والروماني، والبيزنطي، والفترات الاسلامية، خصوصاً الايوبية والمملوكية في منطقة الحي.
ويمر بالقرب من قرية الحي في الجهة الشرقية الطريق الملوكي المعبد، الذي بناه تراجان، بعد احتلال البتراء عام 106م. كما ورد في وثائق الكنيسة البيزنطية في البتراء التي اكتشفت عام 1993م، ذكر لمنطقتي «ام لوزة» و»الرفيد» اللتين تقعان في السفح الغربي لقرية الحي.
وقد تم إنشاء القرية في محيط عين ماء تسمى «عين الحي»، وربما اخذت القرية إسمها من النبع. والقرية عبارة عن مباني حجرية قامت على انقاض موقع اثري او ما يعرف بالخربه التي جُمِعَت حجارتها من مواقع اثرية في محيط منطقة الحي خصوصاً الجهة الشرقية والشماليه، حيث تنتشر الخراب الاثرية والتي تشكل ابراج ونقاط مراقبة عسكرية ومباني سكنيه وسلاسل حجرية لمصاطب زراعيه.
وعين الحي هي ملتقى أهل القرية، عندها تقوم الخلافات، وعندها يعقد الصلح وتُفَضْ النزاعات، وعندها تنظم الحقوق العشائرية والاتفاقات، وعندها تقسّم الهبات، وإليها يأتي القادم من وادي موسى لينشر خبراً غاب عن أهلها، وهي قبلة كل قادم من أهل الحي سواء الجندي أو الحاج أو كل من كان في سفر، وهي ملعب أطفال القرية، وهي مورد الجميع الوحيد، وعندها يستحم الرجال في الليل من عناء الأيام وشقاء الدنيا، فمياهها فاترة في الشتاء، باردة صافية في الصيف، وكأنها بقدرة الله تكيفت مع حاجاتهم».

صيدلية البيت
ويضيف الباحث هاني الفلاحات عن الحي موضحا بأن «القرية وازقتها، هي مساكن بسيطه، تحمل اسقفها عقود حجرية قطعتها ايدي الاجداد، وشذبتها معاول الاقدمين، في نسق لم يعرف ادوات القطع الحديث والقياس، ولكنها في دقة متناهية تدلل على عظمة لم نصل اليها بعد، وعلى جانبي الزقاق ابواب ثقيلة من خشب العرعر والبلوط، تعصى على كل طامع، ولا تستجيب إلا لمن حمل مفتاحاً غليظاً لقفل خليلي يُرسِل لسانه في ثقب حجرة قاسيه ولسبع حركات، وعلى احدى زوايا السقف تبرز صفيحة من تنك او حجر مجوف كالقناة لتقود ما تجمع من مطر الشتاء على الاسقف الطينية الى حيث الزقاق، مشلات للمياه تتفاوت إرتفاعاتها لتختلف اصواتها، وكأنها سيمفونية الشتاء خصوصاً عندما تراقص الرياح زخات المطر، فيغزر تارة ويخِفُ اخرى.
وعلى جانبي الازقة ابواب لمخازن تكدست بداخلها اكوام التبن واكياس الحبوب، وعُلِقت على جدرانها جلود مدبوغة بدباغ البلوط الذي ينتشر في الهيشة شمال القرية، جلود طريه خُزّّن بداخلها الزبيب والقطين، ومن السقف تتدلى مرابط علق عليها قلائد التين المجفف او ما يعرف ب»الذبالي»، وفي مكان آخر ضمة شيح واخرى من القيصوم صيدلية الاسرة، وعلى ارضيتها تتوزع صفائح الزيت البلدي من زيتون الوادي/ وادي موسى، وفي إحدى الزوايا ادوات الزراعه؛ محراث وقادم ومذراه وغيرها، اماكن الخير او مخازن البركه لها اسماء، ولكل اسم منها حكايه، فتارة هي الدار الكبيره، وتارة هي ام عتبه، وتارة هي الدار الجوانية، وتارة هي ام طاقه، واخرى هي ام عقود، واسماء اخرى كثيره».

تفاصيل البيوت
وتصف الرسالة البيوت، ومحتوياتها، وتفاصيل محيطها، حيث ترد في كتابة الاستاذ هاني الفلاحات أن «المنازل وملحقاتها، في القرية، هي عنوان البساطة ودلالاتها، حيث تسكن الدار كل الاسرة، وأثاثهم بسيط، يتوزعون فيها بلا ضيق، يتحلقون حول موقد في وسطها يقابله في السقف فتحه لدخان النار، وفي احدى الزوايا الامامية قطع من خشب البلوط والعرعر والبطم، وشجيرات الشيح، وهي زاوية الامان من برد لا يرحم في ظل غياب اللباس الواقي من قساوة الشتاء.
وفي ربوع القرية طابون الاسرة في غرفة بسيطه وعنده ما تم إعداده من مادة الوقود «الزبل»، وبالقرب منه اكوام «السكن» المتحصل من إحتراق الزبل، وتتشارك الاسر طابون واحد، فيما تنفرد اسر اخرى بطابونها، ولكل من الحالتين ظروفها.
اما الزرب ففيه دجاجات وديك، وهو ليس ببعيد، وإغلاقه عند كل مساء حكايه، ينادي الكبير الصغير للتأكد من إغلاق خم الدجاج، فالحصيني او الثعلب عدو يصحو فقط عندما تهدأ الاجساد لقسط من الراحة».

صاع الخليلي
وما تبقى، حديث حول ملامح أخرى، نظرة الى ما تبقى من زوايا مكانية واجتماعية، يوجزها هاني الفلاحات بقوله أنه «في سفح التل المقابل تجاويف صخريه جعلت منها الحاجة ملجأً للأغنام، ومشتى لكل الدواب، كما هي ملجأ للافاعي، وإن ماتت دابة او عنز فليس لقلة الحرص، وإنما لان ليس فيها نصيب في عرف اهل القرية.
وللقرية جرن او بيدر لدرس المحاصيل، تتجمع فيه كل الغلال من كل التلاع، وتبدأ مرحلة جديده، فيها تتجلى مظاهر التعاون في مصطلح «العونة»، فالكل يعمل من اجل الكل برضى وطيب خاطر، ومما يتحصل للكل نصيب، حتى مقام النبي هارون له صاع الخليلي، يجمعه سادن المقام في وقت البيدر، وفي هذا الموسم» البيدر» تسدد الديون، ويأخذ كل ذي حق حقه برضى وطيب نفس، والدائن يردد: خلّص الله عنك، والمدين يكرر: كثّر الله خيرك، والشهود كل اهل القريه، واحاديث المساء تعلم من لم يعلم ان فلان سدد دينه، وفلان فك رهنه، والكل راضون بما قسم الله، ففي مخزنهم مونة شتائهم، وكرامة ضيفهم، فهم حينئذ يملكون الدنيا كلها، ونفس راضيه.
صباحهم كمسائهم؛ حلب للاغنام، وإستعداد ليوم جديد فيه تفتح كل الابواب التي اغلقت البارحة، ومساءهم تغلق فيه كل الابواب التي فتحت في الصباح، هكذا هم طوال ايام السنه، مرح وفرح وتعاليل، ورضى بالقليل».

الصدقة.. محطة نبطية
أما الرسالة الثانية للباحث هاني الفلاحات، فهي عن قرية الصدقة، وفيها معلومات متفرقة حول القرية، وضعها تحت عنوان «الصدقه.. فكرة تاريخية عامه»، وفيها يقول: «تعتبر الصدقة واحدة من المحطات التجارية النبطية، وقد شهدت استيطانا نبطيا مكثفا بدليل انتشار الفخار والمباني النبطية على امتداد مساحة القرية. وقد ورد إسم الصدقة في الخريطة الرومانية المعروفة ب( التابولا بيوتن قريانا Tabula peutingeriana) حيث تحدد هذه الخريطة الطرق الرومانية واهم المدن الواقعة عليها حيث قام رسام الخريطة الروماني بتحديد موقع الصدقه وهي (زاداكاثا Zadagata) على الخريطة بين البتراء والحميمة، مما يؤكد اهميتها خلال الفترة الرومانية. كما أنه عثر على نقش يوناني في سيناء يشير الى مكان اسمه (كاثرون زاداكاثا) وهي الصدقة حيث يوجد حصن او قلعة في الصدقة. وذكر اسمها مراراً في المخطوطات البيزنطية اليونانية التي عثر عليها في البتراء عام 1993م، حيث تشير المخطوطات الى منطقتين كان لهما اهمية في تشكيل الاقتصاد الزراعي البيزنطي في جنوب الاردن وهما اذرح والصدقة. وتنتشر على ارض الصدقة المواقع الاثرية مثل رجم الصدقة والّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّذي تبين وقوعه على الطريق التجاري الروماني Via Nova Traiana او طريق تراجان. ويمر بالقرب من عين ماء الصدقة خط شبيب المعروف بالخط التجاري والذي يتجاوز طوله 28كم. وكل المعالم المنتشرة على سطح الصدقة تؤكد انها كانت منطقة زراعية وتجارية هامه».

تعليقات