عمَّان الثلاثينيات . . في ذاكرة الأديب ضياء الدين الرفاعي: بنك وحيد ، ودائرة بريد من غرفتين ، وسينما «أبوصيـَّاح» السينما الوحيدة في عمـَّان



النسخة العادية:

في كتابه الممتع "من حقيبة الذكريات" المنشور في العام 1990 م يرسم الأديب الأستاذ ضياء الدين الرفاعي صورة عمَّان الأمس ، عمَّان البساطة والبراءة ، يقول الرفاعي في وصف عمَّان الثلاثينيات كما وعتها ذاكرته:

إنني أحاول أن أرسم صورة قديمة علقت في مخيلتي عن عمَّان الأمس حينما كان عدد سكانها لا يتجاوز العشرين ألف نسمة ، يومها كانت عمَّان قرية صغيرة حدودها محصورة بين معمل الثلج بمحاذاة المبنى الحالي لوزارة المالية وبين فندق فيلادلفيا والمدرج الروماني ، وبين سيل عمَّان الذي كان يجري من الجهة الخلفية للمسجد الحسيني الكبير ، وكان ذلك السيل يتراءى للناس في تلك السنين وكأنه نهر كبير لغزارة مياهه وطول امتداده ، وفي فصل الشتاء كان السيل يفيض بمائه فيتعذر انتقال الناس في الشوارع من ناحية إلى ناحية أخرى بسبب ارتفاع منسوب مياه السيل .

كان معمل الثلج يزوّد سكان عمَّان بألواح الثلج الكبيرة في موسم الصيف وأيام الحرالشديد ، وكان المعمل عبارة عن غرفة متوسطة المساحة داخلها موتور لتوليد الكهرباء يشتغل بالكاز ، وكان الماء يوضع في وعاء نحاسي كبير فتخرج منه ألواح من الثلج كان مستهلكها الأول المقهى الوحيد في عمَّان "مقهى حمدان" الذي كان يجتمع فيه عصر كل يوم وجهاء البلد وكبارالموظفين ، وكان ذلك المقهى يقع في في نهاية شارع الشابسوغ عند سوق الصاغة حاليا - مكان مقهى كوكب الشرق حاليا - ومن المعروف أنه عقد فيه أول مؤتمر وطني أردني العام 1928 م ، وقد أزيل هذا المقهى أواخر الأربعينيات من أجل فتح شارع الشابسوغ ، ثمَّ افتتح مقهى آخر ذو ساحة كبيرة مفروشة بالحصى الناعم تتناثر بين جنباتها بعض النباتات والأشجار الخضراء ، وكان اسم ذلك المقهى "المنشية" وكان موقعه وسط البلد بجوار "سينما البتراء" على جانب السيل.

وكان في عمَّان حمَّام عام في الموقع الذي يعرف اليوم بجسر الحمَّام الذي يقع في منتصف شارع المهاجرين ، وعلى مقربة من ذلك الحمَّام كانت هناك ساحة كبيرة كان تجار المواشي من جوار عمَّان وباديتها يتـَّـخذون منها سوقا يتجمَّعون فيه لبيع وشراء الأغنام والجمال والأبقار ، وكانت تلك الساحة تعرف في ذلك الحين باسم "سوق الحلال".

لقد كانت جميع مساكن عمان ومتاجرها تقع في الوادي الذي كان ولا يزال يحتفظ بأسماء شوارعه ، شارع الرضا وشارع السعادة وشارع المهاجرين وشارع الملك طلال وشارع الملك فيصل ، أما الجبال التي نراها اليوم فقد كانت جرداء قاحلة تعيش فيها الضباع والذئاب ، ولم يكن سهلاً على أحد من سكان عمَّان أن يذهب إليها منفرداً أو بدون أن يحمل معه مسدساً أو بندقية أو أي سلاح آخر ، وكانت في بعض جبال عمَّان بخاصة جبل عمان مساكن صغيرة لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد بناها بعض الأشخاص الذين اضطروا لترك منازلهم في الوادي والرحيل عنه بسبب الزلزال الكبير الذي ضرب مدينة عمَّان العام م1927 ، وكان في عمَّان "حلاقان" فقط يشغلان دكانين صغيرين داخل كل منهما كرسي عادي ، أمامه مرآة كبيرة موضوعة على رف خشبي تصفُّ عليه أدوات حلاقة بدائية ، مشط ومقص وآلة حلاقة ، ولم تكن في عمَّان سوى مدرسة واحدة للبنات لغاية الصف السادس الابتدائي ، أما الذكور فكانت لهم مدرسة لغاية الثاني الثانوي فقط ، وكان على من يرغب في استكمال تعليمه أن يذهب إلى السلط حيث المدرسة الثانوية الكاملة ، وكان الاسم الشائع والمعروف لمدرسة عمّان الثانوية هو مدرسة العسبلي نسبة إلى محمد العسبلي صاحب العمارة التي تشغلها ، وكانت تقع مقابل المدرج الروماني ، ثمَّ أنشئت مدرسة ثانية في جبل اللويبدة كانت تسمى مدرسة العجلوني نسبة إلى محمد علي العجلوني أحد ضباط الثورة العربية الكبرى والثورة السورية الذي كان يملك بناء المدرسة الذي لا يزال قائما إلى جانب الفندق الذي يحمل اسم الشهيد الطيار فراس العجلوني ، إضافة إلى ذلك كانت هناك مدرسة مهنية اسمها مدرسة الصنائع حيطانها من لبنات الطين وسقفها من صفائح وألواح الزينكو أنشئت لتعليم الطلاب الذين أنهوا دراستهم الابتدائية بمهن الحدادة والنجارة وأعمال الخيزران ، واستمرَّت تلك المدرسة وبقيت في مكانها لغاية العام 1942 م حيث بنيت في مكانها لاحقا مباني قصر العدل ومختبرات وزارة الصحة والبنك المركزي .

لم تكن في عمَّان سوى مطبعة واحدة فقط كانت تطبع فيها الجريدة الرسمية التي كان اسمها "الشرق العربي" أما المطبعة فكان اسمها المطبعة الوطنية في مدخل شارع بسمان من ناحية المسجد الحسيني الكبير ، وحافظت المطبعة الوطنية على اسمها ووجودها بفضل صاحبها ومؤسًّسها نوري السمان ، وحين تـُذكر المطبعة والمطابع فلا بد أن تـُذكر "جريدة الأردن" لمؤسًّسها وصاحبها خليل نصر التي كانت تصدر في صفحات من الحجم المتوسط مرة في كل أسبوع ، وكانت الصحيفة الوحيدة التي تصدر في عمَّـان في تلك الحقبة من الزمن.

وكان أهل عمَّـان يتنقلون بين أحياء بلدتهم الصغيرة لقضاء حاجاتهم ولزياراتهم مشياً على الأقدام ، فقد كان عدد السيارات الخاصة قليلاً جداً وكان الناس يُـميًّزون كلَّ سيارة ويعرفون من هو صاحبها ، أما السيارات العمومية فلم يكن في عمَّـان سوى عدد قليل منها كانت تنقل المسافرين من عمَّان إلى محطة سكة الحديد "المحطة" أو إلى السلط ثمَّ إلى القدس أو إلى إربد ثمَّ إلى دمشق أو إلى الكرك والطفيلة ، أما معان فقد كان السفر إليها بالقطار لأنه أكثر سلامة وراحة من السيارة لأن جميع الطرق كانت ترابية ووعرة المسالك.

بنك واحد فقط كان في عمَّـان اسمه البنك العثماني وكان بمثابة بنك مركزي للحكومة وبنك تجاري للناس ، وفي الجهة المقابلة للبنك كانت دائرة البريد وتتكون من غرفتين فقط واحدة للإدارة والأخرى لحفظ البريد وتوزيعه ومكان تلك الدائرة حيث يوجد الآن مبنى البنك العربي في شارع الملك فيصل ، ولم تنعم عمَّـان في ذلك الحين بشبكة مياه فقد كان"السقـَّـا"يمرُّ بالبيوت حاملاً على كتفه عصاً طويلة علقت بطرفيها صفيحتان مملوءتان ماء يزوًّد الناس بالحصَّة المتفق عليها معهم من الماء ، وكان هناك نوع آخر من"السقـَّـايين"يضعون فوق ظهر"الدّابة"عدة قًرَب يصنعونها بأيديهم من جلود الأغنام ويملأونها ماء ثمَّ يوزعونه على البيوت حسب الكمية المتفق عليها ، وكانت بيوت عمَّـان ومحلاتها تـُـنار بواسطة اللوكس أو الفانوس أو السراج "الضو" وكلها تعمل على الكاز ، فالإنارة بالكهرباء لم تكن موجودة وكانت أكثر الشوارع على قلتها ترابية وغير مضاءة ، ولكنها لم تستمر على تلك الحال طويلاً فقد صارت الشوارع والطرقات تنار بضوء"لوكسات الكاز"التي تعمل بواسطة النفخ الهوائي تماماً كما يعمل"وابور الكاز"الذي كانت ربات البيوت يستعملنه لطهي الطعام .

وفي تلك السنين الغابرة كانت في عمَّـان دار واحدة للسينما تشتغل بواسطة مولًّد كهربائي خاص بها وكانت تعرض على شاشتها الصغيرة أفلام صامتة وكان اسم تلك الدار "سينما أبو صياح" لأن صاحبها السوري الأصل أبو صياح كان يجلس على كرسي من القش أمام مدخل السينما لقبض أجور الدخول إليها ، وكان يجلس بجانبه رجلان أحدهما يضرب على طبل موضوع على قاعدة خشبية أمامه ، والثاني يعزف بالمزمار لترغيب الناس وحثهم على دخول السينما ومشاهدة الفيلم الذي كان يعرض الساعة السابعة مساءً ، وفي كثير من المرَّات كان الناس يدخلون دار السينما تلك وينتظرون ساعة أو أكثر من ساعة من غير أن يعرض الفيلم فيبدأون بالصياح وبالصفير وبالتصفيق مستعجلين عرض الفيلم فيقف أبو صياح ليقول بأعلى صوته : تعالوا بكره الليلة ما في زباين تكفي لتشغيل السينما ، فيخرج الناس من دار السينما منكسري الخاطر على أمل العودة في مساء اليوم التالي لمشاهدة الفيلم الموعود.

كان أهل عمان يرون بعضهم في كل يوم عدة مرات ، كنت تسأل عن فلان فيجيبك أي شخص تصادفه عابراً أو جالساً في دكانه أو مكتبه بأن ذلك الشخص الذي سألت عنه مرَّ من هناك واتجه إلى هناك وأنه موجود في ذلك المكان ، ويختم الأديب ضياء الدين الرفاعي ذكرياته عن عمـَّان الثلاثينيات بهذه العبارات:"كان الجميع في عمـَّان يعيشون في أجواء المحبة والأخوة ، كل واحد يفرح لفرح الآخرين ويحزن لحزنهم ، لقد بُـنيت عمـَّان وقامت على أسس متينة وصلبة من العروبة والوعي القومي وضمَّـت الجميع إلى صدرها فامتزجت عظامهم بمائها وزهرها وترابها ".

Date : 12-03-2011

تعليقات