مشهور حديثة الجازي .. فارس الكرامة

عمان - الدستور - د. محمد محمود العناقرة

في مسيرة حياة الشعوب هناك محطات تاريخية هامة تعصف بكيان الأمم ويكون لها عظيم الأثر في نفوس شعوبها. وفي الأردن تعد معركة الكرامة الخالدة جزءا لا يتجزأ من تاريخ الأردن العسكري، تجلت فيها معاني الإرادة والتصميم فكان النصر من نصيب جيشنا الأردني الباسل، فالأحداث الخالدة في مسيرة الأمم والشعوب تبقى على الدوام الصورة المشرقة والزاهية ومنارة تهتدي إليها الأجيال القادمة لإضاءة معالم الطريق نحو المجد والرفعة.

ذكرى الكرامة مناسبة تبقى خالدة في عقول وأذهان جميع الأردنيين لما خطته هذه الملحمة من انعطاف كبير في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. وكان خطاب جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه في معركة الكرامة ودعوته لأبناء الجيش العربي للاستبسال وتقديم الأرواح والأنفس في سبيل الوطن شاحذاً للهمم وللمعنويات، فكانت مقولة الحسين: «قولوا للإنسان العربي أن في الأردن شعباً نذر نفسه من اجل أمته وقضيتها وجيشاً يلقى أبناؤه الموت بصدورهم وجباههم وحسيناً عاهد الله والوطن أن يعيش للأمة والقضية، وان يموت في سبيل آخر ذرة من حقنا المقدس، واصغر حبة تراب من ثرانا الطهور»، كانت هذه المقولة بمثابة الدافع الذي يقف أبناء الجيش العربي من أجله ولأجله في هذه الملحمة الخالدة، وليكتبوا بمداد من نور صفحة ناصعة من صفحات البطولة والفداء.

نقطة تحول



تعتبر معركة الكرامة نقطة التحول في تاريخ الأردن المعاصر حيث استطاع البواسل من أفراد جيشنا العربي الأردني أن يُثبتوا للعالم أجمع أنهم الأقدر على تحقيق النصر، لتلتقي تضحيات شهداء الكرامة ببطولات خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة عامر بن الجراح وصلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس، وسعد الدين الشاذلي وعبد القادر الحسيني وأخيراً القائد الأعلى في معركة الكرامة الخالدة جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه.

شكلت معركة الكرامة مفصلاً كُسرت عنده غطرسة إسرائيل التي كانت تعتقد أنه لا يمكن لأحد الوقوف في وجهها وأنها القوة الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط، وقد جاء انتصار الجيش الأردني بقادته وأفراده ليشكل جداراً اصطدمت عنده آمال وطموحات إسرائيل التي كانت تتوق إلى احتلال مرتفعات السلط وتدمير القواعد الفدائية شرقي النهر، والاستيلاء على المناطق التعبوية أي غور الأردن المتمثل من الضفة الشرقية لغور الأردن حتى مرتفعات السلط. وعند الحديث عن معركة الكرامة فإننا نتذكر الحديث عن أبرز قادة الجيش العربي في معركة الكرامة الخالدة وهو المرحوم مشهور باشا حديثة الجازي.

تزخر الأرض الأردنية بكوكبة من رجالات الرعيل الأول، الذين ولدوا من رحم الحرية وكُتب على جباههم أنهم سيكونون رجال المراحل القادمة ورموزاً للرجولة والنضال والفروسية، رجالا أسهموا في بناء الوطن وإعلاء صروحه، عاشوا من أجله ولأجله، معرضين عن ذاتهم ومصالحهم، ملكوا الشموخ والكبرياء وعزة النفس لتكون الكاريزما الخاصة بهم، فكانوا الوطنيين بالفطرة والإسلاميين بالنشأة، والقوميين والعروبيين بالتجربة.

ونحن هنا في الأردن نفتخر برموز وطنية أردنية، أضاءت صفحات التاريخ العربي، وبرهنت للدنيا بأسرها بأن الأمة العربية هي أمة قادرة ومعطاءة فكانت بحق خير أمة أُخرجت للناس.

ومن أبرز رجالات الأردن الذين يستحقون الوقوف عند سيرة حياتهم وبطولاتهم الخالدة، مع العلم أنه رجل خارج إطار النسيان، المرحوم الفريق الركن مشهور حديثة الجازي القائد العام الأسبق للقوات المسلحة الأردنية وقائد معركة الكرامة وصانع المجد والنصر فيها، فقد أسهم برؤيته الوطنية الثاقبة بتسطير سجل للمجد والفخار في ملحمة الكرامة الخالدة.

قال فيه جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه: «لقد كنت لي وستبقى أخاً حميماً وعزيزاً، وان ما قمنا به خلال السنين الماضية ليس سوى استمرار للمسيرة التي بدأها آباؤنا وأجدادنا، كنا دائماً صديقين وقريبين وعضوين في مجتمع واحد في سيرنا نحو تحقيق أهداف أجيالنا الخالدة».

يرتبط اسم مشهور حديثة الجازي بمعركة الكرامة الخالدة ليكونا وجهاً لعملة واحدة مع ضرورة التأكيد على أن معركة الكرامة تعد بطولةً للجيش العربي الأبي وقادته، وسطروا فيها أروع صور البطولة والفداء والذود عن الحمى، فكانت الكرامة في روح الفقيد وأفراد الجيش العربي الذين وقفوا جنباً إلى جنب مع أشقائهم الثوار الفلسطينيين ليعيدوا الاعتبار لأمتهم العربية في أول انتصار عسكري على العدو الصهيوني الذي يفوق الجيش العربي عدداً وعُدة، فامتزجت دماء الشهداء الطاهرة من أفراد الجيش العربي الباسل، الذين رفضوا وعلى الدوام أن يكونوا ضحايا بل واختاروا لأنفسهم أن يكونوا القوة الفاعلة التي تعرف من أين تبدأ وأين تنتهي وتعرف ما لها وما عليها في كل حدث وواقعة تشهده الأمة العربية.

وعند الحديث عن القائد مشهور حديثة الجازي ندرك أننا بصدد قائد أردني سيبقى التاريخ يذكره ويبكيه وسيبقى الأردنيون يحييون ذكراه ويفخرون بأمجاده وبطولاته.



في مضارب قبيلة الحويطات



ولد مشهور حديثة الجازي في مضارب قبيلة الحويطات (وهي عائلة ضاربة في التاريخ) وتحديداً في منطقة الرشادية بمحافظة معان جنوب الأردن عام 1928، وفي رواية عن يوم ولادته أن والدته قالت «لقد جاء مشهور في سنة الربيع يوم تحركت بواريد الحويطات»، وقد عُرفت تلك السنة أنها عام المؤتمر الوطني الأول، وقد تربى ونشأ حياة الصفاء البدوي، حيث كان عام مولده عام خير وبركة وهو أحد أحفاد الشيخ نصار بن جازي بن حمد بن جازي بن صباح بن مطلق بن سلامة بن علوان بن قبال بن حويط الحويطات.

تقول بعض الروايات ان الحويطات ينحدرون من النسب الشريف (من نسب فاطمة الزهراء) وعشائر الحويطات في الأردن هم أبناء علوان بن حويط ويقطنون جنوب قصر مشاش وجنوب الكرك من غربه شمالاً وحتى المدورة جنوباً مارة بجانب البحر الميت حيث تسكن في جنوبه الشرقي بعض العشائر المحالفة للحويطات.

والحويطات هم أول من استقبل الأشراف عند قدومهم من نجد والحجاز، وقد لعبت الحويطات دوراً هاماً في مناصرة الأشراف ضد الحكومة التركية بقيادة الشيخ عودة أبو تايه، وشيخ قبيلة الحويطات في الأردن الشيخ سلطان بن فيصل باشا الجازي ومن قبله والده الشيخ فيصل باشا بن حمد باشا الجازي.

تنحدر عشيرة الحويطات من حوطة تميم، الذين أقاموا في تهامة بالحجاز حوالي مئة عام ثم رحلوا الى منطقة وادي موسى جنوبي الأردن حيث أسسوا دولة الأنباط التي كانت البتراء عاصمتها، وامتد ملكها ليشمل شمال الجزيرة العربية والأردن وجنوب فلسطين وسوريا، وتمتد ديارهم من تيماء جنوباً الى الطفيلة شمالاً ومن وادي السرحان شرقاً الى ساحل العقبة وسيناء غرباً.

إن جد الحويطات هو غازي بن حمد بن صالح العوام الذي هاجر طفلاً مع أبيه من الحجاز الى بلاد الشام هرباً من الظلم، وقد مات أبوه في الطريق فتابع سيره مع العبد حتى العقبة التي كانت تحت حكم الشيخ معاز شيخ قبيلة بني عطية وتتبع إلى والي مصر العثماني، فأكرم الشيخ وفادته ثم زوجه ابنته. كان لقب غازي هو «حويط»، هذا وقد اختلف الكتًّاب في سبب اللقب فذهب البعض الى أن أمير الحج المصري قال عنه انه «حويط» لذكائه وفطنته، وقال البعض انه كان وهو صغير يجمع أطفال الحي في دائرة «حوطة» فلا يغادرونها إلا بإذنه، وقد رزق حويط بأربعة أبناء هم علوان وسعيد وعمران وسويعد وإليهم تنسب عشائر الحويطات التي تتألف من الفروع التالية:.

1. المطالقة، جدهم مطلق ويدعون «عربان ابن جازي» نسبة الى بيت الزعامة، وفروعهم الجازي والعودات، والجذوان، وأهل الوضحا (الوضحان)، والذيابات والشراتحة، ويسكنون في الحسينية وأذرح والجرباء والرشادية.

2. الفريجات، جدهم فريج ويدعون التوايهة أو «عربان أبو تايه»، نسبة الى بيت زعامتهم.

3. السليمانيين: جدهم سليمان، ويسكنون في قرين والمربغة وزعامتهم في بيت أبو نوير.

4. الدراوشة: جدهم درويش ويسكنون في أبو اللسن.

5. المراعية: جدهم مرعي ويسكنون في سويمرة وطاسان والحميمة والمشببة.

6. النجادات: جدهم نجاد ابن فراج، ويدعون عربان ابن نجاد كما يعرفون باسم العلاوين.

7. المناجعة: جدهم نويجع ويسكنون في أبو اللسن والثغرة.

8. الرشايدة: جدهم رشيد ويسكنون في حوالة والقاسمة.

9. السعيديين: جدهم سعيد، قدموا من منطقة الحجاز الى منطقة العقبة وانقسموا الى قسمين، نزل أحدهما في منطقة معان، والشراه، ونزل القسم الآخر في وادي عربة.

10. الطقاطقة: ويقيمون في رأس النقب.

وقد جاء في معجم العشائر الأردنية لمؤلفه دولة السيد عبد الرؤوف الروابدة الرواية التالية التي تتعلق بعشائر الحويطات حيث ورد في صفحة رقم 199 ما يلي:.

«نازع حويطات ابن الجازي بقيادة عرار الحكومة العثمانية لأنها أسست إدارة في معان تحدياً لسيادتهم، فاعتقلت الحكومة عراراً فترة من الزمن انتقلت خلالها الزعامة الى حرب أبو تايه، وبعد وفاة عرار تنازع الزعامة شقيقه عبطان مع عودة أبو تايه، وقد اشتهر عودة بفروسيته وغزواته، وقد اصطدم مع شيوخ الجازي، ولما تغلبوا عليه استنجد بالرولة، بعد ذلك تنازع ابن جازي مع ابن نجاد الذي سميت العشائر التي تحالفت معه بـ»المحلف».

اصطدم الحويطات مع بني صخر، فدحر بنو صخر الحويطات إلى جبل الطبيق، لكن عودة رد الغارة ودحر بني صخر الى حسبان في البلقاء، فاستقرت مواقع القبيلتين. أبلى عودة بلاءً حسناً مع جيش الثورة العربية الكبرى بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، وبعد وفاته عام 1927م استقرت الزعامة في بيت ابن جازي.



بالزي العسكري



استلهم مشهور حديثة الجازي من شمس ورمال الصحراء العزة والفخار والإباء ورفض الظلم والقهر واستنشق هواء الحرية والحق والحياة الكريمة، كان والده أحد أفراد قوات البادية التابعة للجيش العربي الأردني، حيث غرس حب الوطن والذود عن حماه في نفوس أبنائه فكان طموح مشهور أن يكون في يوم من الأيام جندياً في قوات البادية كما والده، وحينها لم يخطر ببال هذا الشاب المعجب بلباس والده وزيه العسكري أنه سيكون في يوم من الأيام القائد العام للجيش العربي الأردني الباسل، وهكذا كان حيث التحقق بقوات البادية قبل أن يُكمل اربعة عشر ربيعاً من عمره وذلك بتاريخ 28/ 6/ 1943م.

أما عن البداية الأولى لمشاركة مشهور الجازي في الجيش فقد تحدث قائلاً: «كان قائد الجيش العربي السير كلوب باشا في زيارة لقريتنا (الرشادية) وقد حل ضيفاً في مضارب جدي فأردت استغلال هذه الزيارة وهمست في أُذن جدي فقلت له يا جدي أريد أن أدخل الجيش، فاستغرب جدي مما قلت، ثم أخبر جدي كلوب بطلبي فوافق كلوب باشا على انضمامي للجيش العربي، وركبت معه في سيارته من بيتنا في قرية الرشادية الى عمان، وكنت حينها قد أنهيت الصف السادس الابتدائي ولكني أتممت دراستي وأنا بالجيش».

تدرج الراحل مشهور الجازي في الرتب العسكرية الى أن أوكل له جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه مهمة قيادة الجيش العربي نظراً لبطولاته في معركة الكرامة حين لفت نظر القائد الأعلى الملك الحسيبن بن طلال الذي قربه منه وكرَّمه ليكون رئيساً للأركان في السنوات التي تلت الكرامة، ففي البدايات الأولى التحق بقوة البادية في عام 1943م وكان وقتها كاتباً للمراسلات نظراً لكونه يجيد القراءة والكتابة، وفي عام 1946م التحق بجناح الثقافة بمركز العبدلي، واشترك بدروة تأهيل مرشحين عام 1947م، وكان رقمه العسكري هو (505) وبعد تخرجه التحق بكتيبة المشاة الثانية، وفي عام 1956 تولى قيادة كتيبة المدرعات الملكية الثانية، ليصبح أول قائد عربي لها ثم تم تعيينه في محكمة أمن الدولة، هذا وقد نال شهادة البكالوريوس في العلوم العسكرية عند تخرجه في كلية الأركان الباكستانية عام 1958م، كما اشترك في بضع دورات دروع تقدمية في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي عام 1962 أصبح أول قائد للواء المدرع (40) الذي قام هو بتشكيله، بعد ذلك تولى قيادة ما عرف بالجهة الشرقية عام 1965، وبعيد نكسة حزيران عام 1967 كُلف بقيادة الفرقة الأولى التي كان لها شرف مواجهة العدوان الصهيوني على الأردن ورده على أعقابه حيث كتب لها النصر في معركة الكرامة الخالدة في 21 آذار 1968، بعد ذلك تم تعيينه نائباً لرئيس الأركان عام 1968، وتولى مهام السكرتير العسكري الخاص لجلالة الملك في الديوان الملكي عام 1969، وفي عام 1970 تولى مهام قيادة الجيش العربي برتبة فريق ركن.

هذا وقد كان لمشهور باشا الجازي اهتمامات بالشأن العام العربي والأردن وكان دائم التفاعل مع قضايا وطنه وأمته، وتولى عدة مناصب فخرية وشعبية منها الأمين العام المساعد لمؤتمر القوى الشعبية العربية في بغداد، والذي أُنشئ بعيد العدوان الثلاثيني على العراق والجماهيرية الليبية.



أحداث تاريخية



من أبرز الأحداث التاريخية التي عصفت بها ذاكرة المرحوم مشهور الجازي مشاركته في معارك عام 1948 وذلك قبل انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، حيث أُسندت إليه مهمة الذهاب الى القدس للمشاركة في جامعة القدس والتي كانت تحت قيادة المرحوم عبد الله التل، وتمحورت مهمته بالذهاب الى بئر السبع لحماية قافلة أردنية تحمل أسلحة وذخيرة متجهة من بئر السبع الى الأردن، وعندما وصلوا لمنتصف الطريق وتحديداً في منطقة اسمها العروب قريبة من بيت لحم وجدوا الطريق مقطوعة بفعل اليهود فعادوا بأثرهم، فما كان من اليهود إلا أن قاموا بقصفهم قصفاً شديداً بالهاون والراجمات والرشاشات وقد جُرح المجاهد مشهور الجازي في معارك عام 1948، وتم نقله الى القدس لعلاجه.

رفض مشهور الجازي ومجموعة من الجنود الأحرار وجود السير كلوب باشا قائداً للجيش العربي واستمراره في موقعه مؤكدين على ضرورة تعريب قيادة الجيش وطرد كلوب، وبالفعل فقد أسندت إلى مشهور حديثة الجازي مهمة إقصاء السير كلوب من موقعه وترحيله إلى المطار واستلم الضباط الأردنيون الأحرار قيادة الجيش العربي.

كان القائد مشهور الجازي يشغل موقعه كقائد للجبهة الشرقية وذلك في نكسة عام 1967م حيث أسندت إليه مهمة إعادة تنظيم القوات الأردنية في أعقاب حرب حزيران بعد أن عانت الجيوش العربية من فقدان الثقة وانخفاض الروح المعنوية فأعاد تنظيم الجيوش ورفع معنويات الجنود وإعادة بناء قدراتهم عسكرياً ونفسياً بعد أن خرج الجيش الأردني بعد نكسة 67 مشتت الصفوف، وقد أسندت مهمة إعادة التنظيم بتشكيل فرقتين: الفرقة الأولى بقيادة مشهور الجازي والفرقة الثانية بقيادة عاطف المجالي... وبالفعل فقد تم إعادة تنظيم الجيش ميدانياً وإعادة تسليحه وتوزيعه بشكل جغرافي جديد على الأرض. وحول ذلك روى مشهور حديثة الجازي مهامه فقال «كانت مسؤوليتي هي الجبهة الواقعة من نهر الزرقاء حتى السويمة في البحر الميت وأهم الأمور التي واجهتني هي مهمة إعادة تدريب أناس فاقدي الثقة بالسلاح، ومن جانب آخر رغبت إسرائيل بمعاقبة الأردن نتيجة دعمه للنضال العربي والفلسطيني، وخططت لاحتلال غور الأردن وتحويله إلى شريط امني شاملاً ذلك مرتفعات السلط الاستراتيجية ومحاسبة الأردن على احتضانه للعمل الفدائي الفلسطيني وقيامه بإسناد الفدائيين الفلسطينيين في اشتباكهم مع الجيش الإسرائيلي بالإضافة إلى رغبة (موشى دايان) إنهاء العمل الفدائي الفلسطيني.



الملحمة الخالدة



وللحديث عن الملحمة الخالدة حيث يحتفل أبناء الشعب الأردني بالذكرى الرابعة والأربعين لهذه المناسبة الأبية فقد جاء الهجوم الإسرائيلي مفاجئاً في الساعة الخامسة والنصف من صبيحة يوم 21 آذار 1968م على الأراضي الأردنية بقوة عسكرية كبيرة مدعومة بسلاح الجو والمدفعية، وقد تصدت قوات الجيش الأردني للعدو، ومنذ الدقائق الأولى أخذت تطلق النار على قوات العدو، وأوقعت بهم خسائر فادحة وقدم الجيش العربي الأردني بطولات رائعة في الدفاع عن حمى الأردن الغالي، ما اضطر إسرائيل لأول مرة في تاريخها العسكري أن تطلب وقف إطلاق النار إلا أن الملك الحسين رفض ذلك ما دام هناك جندي إسرائيلي واحد شرقي النهر، هذا وقد أُجبرت القوات الإسرائيلية على الانسحاب.

وقد وصف المرحوم مشهور حديثة الجازي أجواء المعركة ومعنويات جنوده والمقاومة قائلاً: «أما عن الناحية المعنوية للمقاتلين فقد جعلت عودة الروح القتالية للجنود وتشوقهم للانتقام من مغتصب أرضنا المقدسة أولى أولوياتي، ثم تدافعوا لملاقاة عدوهم الشخصي، إن جاز لي التعبير، وهذا جعل الأمر يبدو في غاية الكمال، ولم يكن هناك تكافؤ لا في العدد ولا في العدة بيننا وبين العدو اليهودي ولكن الإيمان والصمود وقرار الدفاع عن الوطن مهما تكن التضحيات مكننا من تحقيق النصر المؤزر لنسقط مقولة العدو (أن الضابط العربي دائما خلف جنوده) حيث أصبح أمامهم بكل بسالة وشجاعة، وقد فرضت على الضباط أن يتواجدوا قدر الإمكان إلى الأمام، وفي القيادات المتقدمة، حتى يرفعوا الروح المعنوية لجنودهم، وحتى يأخذوا القرار السليم أيضا. هذا الأمر لم يكن متوفرا في أساليبنا وتكتيكاتنا السابقة، حيث يكون القائد في الخلف حوالي 20 كيلومترا في بعض الأحيان ويتصرف من خلال التقارير والأخبار، نحن خلقنا هذا التكتيك، لأن الأمر بالنسبة لنا حياة أو موت، وأسقطنا استراتيجيات الانسحابات الخلفية لان انسحاباتنا تجعلنا أشبه بالمهزومين.

صمدت قواتنا الأردنية في وجه الغارات الإسرائيلية التي لم تسبق أن واجهت مثيلا لهذا الصمود من قبل، بالإضافة إلى كثافة نيران المدفعية وكثافة الدروع المهاجمة دون أي غطاء جوي، إلا أن صمودنا جعل العدو يتراجع لأول مرة ويطالب بوقف إطلاق النار، وذلك بعد مرور 18 ساعة عن بدء المعركة، إلا أن الملك الحسين رحمه الله رفض ذلك ما دام هناك جندي إسرائيلي واحد شرقي النهر.

تلقى أبو رمزي اتصالاً هاتفياً مفاده أن قوات العدو تطالب بوقف إطلاق النار، إلا أنه أصر على مواصلة القتال وقصف تجمعات الجيش الإسرائيلي بواسطة المدفعية الأردنية التي قصفت المحاور التي ينقل إليها اليهود آلياتهم وكذلك المراكز الرئيسية الداخلية حتى لا يمنحوا اليهود حرية الانسحاب بسلام، ولكن من أبرز نتائج هذه المعركة الأسطورية هو سقوط أسطورة الجيش الإسرائيلي، خاصة أن قواتهم التي حشدوها للمعركة كانت تزيد عن القوات الأردنية بنسبة 15/1 ولم يكن للأردنيين أي غطاء جوي ولو توفر هذا الغطاء لاستطاعت أسر الآلاف منهم، بل ولقررت العبور إلى الأراضي الفلسطينية، لكن ديان حسب حساب كل شيء إلا أنه نسي حساب إرادة جنوده الضعيفة وجنودنا البواسل.

عين مشهور باشا الجازي بعد ذلك نائبا لرئيس الأركان عام 1968 وتولى مهام السكرتير العسكري الخاص لجلالة الملك في الديوان الملكي عام 1969 وفي مطلع عام 1970 تولى مهام قيادة الجيش العربي الأردني برتبة فريق ركن.

وفي كل عام يحتفل الوطن والأردنيون بمناسبة خالدة وهي مناسبة معركة الكرامة التي سطَّر خلالها نشامى الجيش العربي أروع البطولات وأجمل الانتصارات على ثرى الأردن الطهور، وفي ذكراها الرابعة والأربعين يحلو الفرح وتسمو معاني النصر، حيث تحوم أرواح الشهداء في فضاءات الأردن فوق سهوله وهضابه وغوره وجباله، تسلم على المرابطين فوق ثراه الطهور، ويتفتح دحنون غور الكرامة على نبع دمائهم الطاهرة الزكية، وتسير في العروق رعشة الفرح بالنصر ونشوة الافتخار بهذا الجيش العربي المصطفوي لتطمئن القلوب بذكر الله وهي تقرأ قول الحق على روح قائد الكرامة الحسين رحمه الله تعالى.

وعلى الدوام يؤكد جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين خلال احتفالات القوات المسلحة الأردنية بهذه المناسبة أن تضحيات جيشنا العربي ومعاركه التي أعادوا فيها للأمة كرامتها وثقتها بنفسها هي أوسمة فخر واعتزاز على صدر كل مواطن أردني لأنها تاريخنا وهويتنا التي لا يمكن أن ننساها ولا نقبل المساومة عليها أو إنكارها أو الانتقاص منها من أي جهة كانت.

في ذكرى الكرامة نقف إجلالا واحتراما لشهدائنا في معركة الكرامة وسائر المعارك التي دافع فيها جيشنا العربي عن الأرض والكرامة العربية في فلسطين وفي أي مكان في الوطن العربي الكبير.

ويشكل يوم الكرامة التي وقعت في الحادي والعشرين من آذار عام 1968 أول نصر مبين يحققه جيشنا المصطفوي للعرب عبر الصراع العربي- الإسرائيلي الطويل ليثبت أن النصر العسكري العربي على إسرائيل ليس مستحيلا وإنما هو مؤكد.

لقد كان صمود الجيش العربي الهاشمي في معركة الكرامة بمثابة نقلة نوعية في تنامي الروح المعنوية العالية، والقدرة القتالية النادرة التي يتمتع بها الجندي الأردني، وهذا الصمود والنصر كان منعطفا هاما في حياة الأمة العربية حيث أبرزت للعالم أجمع أن في هذا الوطن جيشا يأبى الضيم ويدحر العدوان ويذود عن حماه بالمهج والأرواح ويدافع عنه بكل ما أوتي من قوة وبأس.

لقد كان يوم الكرامة أغرّ محجلا في تاريخ العسكرية العربية بعامة والأردنية بخاصة، حيث أثبت الجندي الأردني بأنه قادر على انتزاع النصر بقوة، وأثبت كفاءته وقدرته على تحمل الصعاب والمشاق من أجل وطنه وأمته في واقعة خلت من تكافؤ العدد والعدة من الجانب الأردني، كان عداده الإيمان بالله والتوجه إليه وطلب النصر منه، وها هي مكبرات الصوت تشعل حماس البواسل وهي تطلق نداءات «الله أكبر» فيشتعلون حماسا وإصرارا على انتزاع النصر انتزاعا.

وأبرزت معركة الكرامة دروسا في التلاحم الوطني وقيادة أردنية هاشمية من طراز فريد، مثلما أبرزت تعاونا بين صنوف الأسلحة المختلفة، وسطر شهداء الجيش العربي الأردني بدمائهم الزكية صفحة مشرقة في تاريخ وطنهم وأمتهم يخلدها لهم التاريخ على مدى الزمن. فيا شهداء الكرامة ويا شهداء كل مواقع العز والشرف والرجولة ستبقى سيرتكم العطرة قناديل هدى لمعاني الحرية والسيادة ومشاعل حق لمعاني النصر والإرادة وسيبقى الأردن بقيادته الهاشمية المظفرة المكان الآمن بإذن الله والموئل العزيز للأحرار ومشعلا للحرية والعدل والمساواة وبوابة الفتح والنصر والكرامة.



شجرة شامخة



حاز مشهور باشا الجازي عظيم الاحترام والتقدير في الأوساط الأردنية والفلسطينية كونه آمن بالقضية الفلسطينية ودافع عنها قلبا وقالبا، وبعد استقالته من الجيش الأردني ذهب للعمل العام حيث قام بتأسيس شركته الخاصة التي أسهمت بدعم الاقتصاد المحلي.

مشهور حديثة الجازي... شجرة شامخة في أرض الأردن، زُرعت في ذاكرتنا، وتجذرت في ضمائرنا، وفي السادس من تشرين الثاني عام 2001 فاضت روح مشهور باشا حديثة الجازي إلى بارئها ودفن في مسقط رأسه في الحسينية بعد أن بكاه الأردنيون.

والراحل أبو رمزي واحد من رجالات الأردن الذين أخذوا على أنفسهم عهدا أنهم لن يقفوا متفرجين مكتوفي الأيدي أمام مجريات التاريخ، بل سيكونون هم من يرسم التاريخ ويحدده بما يتأتى مع مصلحة وطنهم وعروبتهم، فمهما كتبنا من كلمات وعبارات نجد أنه من الصعب أن نفي هذه الكوكبة حقها... فهؤلاء الأبطال هم من طرزوا التاريخ بحروف من ذهب. إنهم جيل العقيدة الوطنية والقومية النضالية الذين عاشوا حياتهم رافعي رؤوسهم، عالية جباههم.

والمرحوم مشهور حديثة الجازي شخصية وطنية وقومية بارزة قدم الكثير من أجل نصرة قضايا وطنه وأمته وإن سجل الشرف والبطولة والكرامة العربية ليفخر اليوم بهذا البطل الوطني هو ورفاقه الشرفاء الخالدين... ويوم وفاته خرج الأردنيون جميعا لوداعه والعزاء فيه.. فإلى جنات الخلد يا أبا رمزي.

التاريخ : 03-04-2012

تعليقات