صاحب الأحزان الصحراوية..تيسير السبول 1939 – 1973م

شخصيات من ذاكرة الوطن: صاحب الأحزان الصحراوية..تيسير السبول 1939 – 1973م
04/02/2013
العرب اليوم - محمود عبيدات

ولد على سيف الصحراء
يعد تيسير السبول حالة فريدة في الساحة الثقافية الأردنية، فهو الجنوبي الأصل، سليل بلاد الجبال – الطفيلة - الشماء، فقد ولد على سيف الصحراء فتشرب أحزانها وكابد قسوتها، كما عانى في طفولة كما هو حال ابن تلك المناطق في تلك الفترة، عانى من الجوع والفقر، فأعلن انتماءه إلى الفقراء والمهمشين، وبقي يكتب أدبه من لون التراب ومن أغاني الحصادين، ويعبر عن أحلام الناس البسطاء، وقد تركت في قلبه خسارة فلسطين جرحاً عميقاً، بقي يلاحقه حتى تغلب عليه، هذا هو الروائي والشاعر والأديب تيسير السبول.
حي في الذاكرة
من الناس من تنطوي ذاكرتهم برش قبضة تراب على قبورهم، ومن الناس من تستمرّ ذكراهم حيّة خالدة ... الأديب الراحل تيسير السبول هو من الناس الذين تستمر ذكراهم حيّة خالدة، رغم عمره الذي كان لا يتجاوز الـ (34) ربيعاً. لم يتحوّل إلى فعل ماض، ولن يصبح في عداد الغائبين، بل سيظلّ فاعلاً مرفوعاً على سارية الذاكرة الوطنية والقومية والفكرية والثقافية، كمبدع من روّاد الأدب الروائي في الأردن، وسيبقى (تيسير) ماثلاً يمارس حضوره الدائم، وموجوديّته الحقيقية بمواقفه وأفكاره وثوابته القومية، فالقضية العربية الفلسطينية كانت دائماً وأبداً في مركز وعيه. وهو الذي كان يردّد دائماً:
أذكرْ فلسطيـــن في سِرّ وفي عَلَنٍ
إنّ الخيانةَ أن تَنسى فلسطينـــــا
لا في الفرات ولا في النيل موعِدنا
عند الثنيّة مـن حطّيـن لُقيانــــا
فلسطين الجرح الباقي
ولم ينظر (تيسير) إلى القضية الفلسطينيّة يوماً خارج عمقها العربي والإسلامي، فلا فرق عنده بين الطفيلة، وبين قرية أو مدينة من قرى ومدن فلسطين، فهو بانتمائه، وأدبه، وروايته، وشعره، وحزنه، كان يقول: "أنا الابن الشرعيّ لكلّ قرية في الوطن العربيّ". ولولا هذه العقائديّة القوميّة، لما أقدم على (الانتحار!!)، واختار الموت، وتركنا نفتقده كل يوم، رغم أنّنا ضدّ فلسفة (الانتحار) إلا أنّ شجاعة (تيسير) باختيار الموت المبكّر، وفّرت عليه بأن لا يصاب بأمراض الهمّ القوميّ الكثيرة، أقلّها ضغط الدّم، والنوبات القلبية، وأخطرها (الإرهاب) و (الفوضى الخلّاقة !!)، التي سوّقها الكيان الصهيوني، والإدارة الأمريكيّة، حتى تطاولت على الأمن والاستقرار العربي، وأصبح العدو الصهيوني يقاتل بلا خسائر .. والسؤال: لو كان تيسير بيننا، ويشهد المأساة العربية، والدم العربي يسيل في أقنية الظلام على يد من يزعمون بالانتماء للأمة وتاريخها وحضارتها، فهل يفكر بالانتحار؟؟
الولادة والنشأة
ولد تيسير في مدينة الطفيلة بتاريخ 15 كانون الثاني 1939م، ويعود نسب عشيرته إلى قبيلة (الهلالات) التي قدمت إلى الطفيلة من بلدة (الطوالة) الواقعة بين الشوبك ووداي موسى، وقبيلة (الهلالات) منتشرة في معظم مدن وقرى الجنوب والشمال الأردني، بفروعها الخمسة: الزغابية، السبول، السقرات، الشبيلات، الشلول.
درس تيسير الابتدائية في الطفيلة، والاعدادية في الزرقاء، والثانوية في كلية الحسين بعمّان. وكان من المتفوقين في جميع مراحل دراسته، وتشهد له بذلك زوجته السيدة الفاضلة الدكتورة مي اليتيم بقولها: " أنهى تيسير دراسته الثانوية بتفوّق، رغم القلق والاضطراب والحزن الذي سببه سجن أخيه شوكت، بسبب آرائه السياسية. ولكنّ آلام تيسير جعلته يتحدّى الواقع المؤلم، وينجح نجاحاً باهراً، أهّله للحصول على منحة دراسية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، لدراسة الفلسفة. ولكنّ الحياة في الجامعة الأمريكيّة، لم ترقَ لشاب تشغله قضايا الأمّة العربية، وما يعجّ بالوطن العربيّ من أحداث، فترك الجامعة الأمريكية وقرّر دراسة الحقوق في جامعة دمشق ...".
السياسي المثقف
إنّ لخلفيته الثقافية، وشخصيته القوية، ودور أخيه (شوكت) الذي غذّى فيه حبّ العلم والقراءة والتثقيف الأدبي والسياسي. برز تيسير كقائد للحركة الطلابية الأردنية والعربية بالجامعة، وكان من كبار شعراء جامعة دمشق، "فأصبح وهو في السنة الثانية شاعر جامعة دمشق الأول، يشارك الشعراء الكبار في الأمسيات الشعرية، والندوات الثقافية والفكرية في الجامعة وخارجها". ففتحت له الصحف الدمشقية والبيروتية صفحاتها الثقافية، وكان له جمهوره من القرّاء في الوطن العربي. يقول المرحوم فيصل محافظة في أوراقه: " ثلاثة من الأردنيين كانوا يقودون الحركة الثقافية بجامعة دمشق، وهم: الشاعر تيسير سبول (كلية الحقوق)، الخطيب الارتجالي أحمد سعد عبيدات (كلية التاريخ)، والشاعر علي البكار (كلية التجارة). وزيادة على ذلك كانوا من المتفوقين بدراستهم الجامعية".
شاعر عاشق للقومية العربية
وتقول الدكتورة مي اليتيم في شاعرية وثقافة زوجها: " .... وفي دمشق برز تيسير كشاعر شاب موهوب، وأوسمت له الصحف اليومية والأسبوعية صدرها لاستقبال أشعاره، وكذلك الدوريات الشهرية الأدبية في دمشق وبيروت كمجلة الثقافة، والآداب، والأديب، وكان لاسمه توهّج خاص لفت إليه الأنظار ...".
عاصر تيسير مباحثات الوحدة المصرية السورية عام 1958م، وكان يعيش الخوف والقلق تحسّباً من تغليب الهوية الوطنية على حساب بُعدها القومي، وقال: " إذا فشلت مباحثات الوحدة لا قدّر الله، فعلى الجيل العربي كلّه أن يقدم على الانتحار ...". فتأجّل الانتحار لأنّ حلمه العربي قد تحقّق، فكانت (الجمهورية العربية المتحدة) بزعامة وقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وبالتوافق مع الرئيس السوري الراحل شكري القوتلي. وبدأت الرسالة العربية، وعنوانها (الوحدة)، يومها قال تيسير: " إنّ الرسالة العربية حقيقة أكيدة، وإنّ ديمومتها لإحدى المعجزات التي تجاوز شأن المنطق التحليلي، ولا يضير هذه الحقيقة أن يكفر بها بعض أبناء جيلنا، بل حتى لو آمن بها إنسان عربي واحد لكفى به.... جمرة العروبة المدفونة تحت رماد الأحداث العالمية السياسية منها والاقتصادية. إنّ الصوت الذي رفع شعار (أمّة عربيّة واحدة) قد نطق بالحقّ، ولم يحد عنه قيد أنملة... إنّ الله رمز.. وإنّ الإنسان حياة، وإنّ انطباق الحياة والرمز في وحدة واحدة هو الرسالة...".
انكسار الحلم وفقدان الدافع
لم يدم الفرح العربي، وبدأ ثوب الفرح يتحوّل إلى السواد، وكان تيسير أول المبشرين بالحزن العربي، فقراءته للأحداث التي حصلت ستكون مقدمة لأحداث مؤلمة وحزينة... حصلت جريمة (الانفصال) وكانت شرخاً كبيراً، والهزيمة ساحقة، فتبدّد الحلم، وتجلّت الهزائم اليوميّة الأخرى على مستوى الأصعدة الثقافية والاجتماعية والسياسية، فقد كان الشعب العربي يمرّ بمخاض مؤلم، يوضح ما جرى ويجري... وتوالت الانتكاسات العربية الواحدة تلو الأخرى، حتى حلّت الهزيمة الثانية باحتلال (اسرائيل) قطاع غزّة، وسيناء، والضفة الغربية، والجولان، يوم 5 حزيران 1967م. ماذا فعل تيسير؟؟ تقول زوجته ورفيقة أحزانه: " توقف تيسير عن الكتابة حيناً من الزمن، فالشاعر الذي عاش وقائع زمنه بكلّ حواسه، وبمثالية حالمة، أصبح يرزح تحت عبء الانكسارات المتوالية، ثمّ جاءت هزيمة حزيران، لتنكأ الجرح القديم، وتزعزع ما استقام من حياته. الضربة قوية ومؤلمة، وفي الصميم، بكى الهزيمة، ولا عزاء، ذهب إلى الجسد المهدّم ليلقي بنظرة وداع إلى جزء عزيز على قلبه، قد ذهب ربما إلى غير رجعة".
موت الشعر
أعلن تيسير موت الشعر، وبدأ عاكفاً على قراءة تاريخه القديم، مستلهماً من الماضي ما يعينه على مواجهة مستقبل غامض... عكف على كتابة روايته (أنت منذ اليوم) التي حازت على جائزة (النهار الأدبية) لعام 1968م، محلّلاً ما يجري في عالمه، متّخذاً من العنوان نفسه شعاراً لما سيأتي.. محاولة لغفران الماضي، ونداء لبداية جديدة، مستصرخاً شعبه العربي لينهض ويبدأ من جديد منذ اليوم.
أنت منذ اليوم
يقول الأستاذ فخري صالح عن رواية تيسير ما يلي: " ... فأحداث رواية تيسير سبول (أنت منذ اليوم) انعطافة شديدة الأهمية محليا وعربياً، بالاستناد إلى ما كتبه نجيب محفوظ، فاستطاع الجيل الذي كان تيسير السبول واحداً من أبرز روائييه، أن يحدث انعطافة كبيرة في الرواية العربية، فأوجد شكلاً مركبا من الكتابة الروائية، وهذا هو السبب الذي جعل تيسير حاضراً على خارطة الأدب العربي، فأثّرت روايته في الذائقة الأدبية العربية، وخلفت الرواية التقليدية الواقعية وراءها ".
هزيمة حزيران
والسؤال: هل فكّر تيسير سبول بالانتحار بعد هزيمة حزيران 1967م، أم أجّل الفكرة إلى ما بعد نكسة أو هزيمة أو نكبة جديدة، خاصة أن مفردات الهزائم في قاموسنا كثيرة ؟؟
يقول زميل دراسته الأستاذ رسمي أبو علي: " أذكر أنّ تيسير سبول حدثني عن الانتحار في أول تعارف بيننا. وقد لاحظت أنّ عينيه جاحظتان بعض الشيء، مع شروش حمراء في قاع العين. أمّا نظرته فكانت تسيل حزناً ورقّة عندما لا يكون غاضباً...".
الانتحار والنهاية المؤلمة
وفي يوم السادس من تشرين الأول 1973م، أشرقت الشمس العربية، لتبشر بالانتصار العربي على العدو الصهيوني، وكاد أن يكون هذا اليوم التاريخيّ يوماً يعلو بهامته على كلّ الأيام، ولكنّ هذا الانتصار لم يدم طويلاً، ولم تدم فرحة تيسير أيضاً، فتحوّل الانتصار إلى هزيمة كبرى، فأقدم تيسير على الانتحار احتجاجاً في يوم مشؤوم، تقول زوجته المفجوعة بفقدان شريك حياتها: " وكانت حرب تشرين عام 1973م، انتصاراً في البداية، أعقبه تراجع أفقد الانتصار قيمته الحقيقية، حيث نتج عن ذلك ما عرف باتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وهي المعاهدة التي رفضها العرب. لقد خانته رؤياه، ولم يعد تيسير يحلم بالمستقبل. انطفأت شعل الحياة في أعماقه، وزعقت رصاصة جانية بصرخة مدوية، فلم يبق شيء أن يقال بعد الآن".
وهكذا رحل تيسير في اليوم الخامس عشر من تشرين الثاني سنة 1973.

تعليقات