التخطي إلى المحتوى الرئيسي

سالم القنصل.. شاعر الأحداث والتحولات


صورة 
 
هزاع البراري - الشاعر سالم القنصل سيد مرحلته بلا منازع، فهو من الشعراء الفحول في الشعر النبطي، كما يعد من فرسان عشيرة العزيزات المسيحية في مادبا، حيث تميز بشجاعة عز نظيرها، فكان لا يهاب الموت ولا يتراجع عند المواجهة، حتى وصفه بعض من ترجم له أن سريع الغضب، تسبق بندقيته لسانه في بعض المواقف، غير أن الأحداث الجسيمة التي عاصرها، والمكابدات التي واجهها، خففت من مزاجه الحاد، وصار صاحب نزعة دينية تأملية، وأنكب على سبك الشعر بشكل أكثر جدية وأغزر إنتاجاً، فقد أوقف غالبية أشعاره على توثيق الأحداث والغزوات والنزاعات التي صبغت تلك الفترة، التي تميزت باضطراب الأحوال وضعف الأمن مع تردي أحوال الدولة العثمانية، منذ أواسط القرن التاسع حتى خروج الأتراك عام 1918، وتأسيس إمارة شرق الأردن عام 1921، كما وثق من خلال شعره للأحداث الاجتماعية، شارك عدداً من الشعراء بمعارضات ومساجلات شعرية، كان لها صداها الواسع.


تعد حياة الشاعر سالم صالح يوسف صالح الصوالحة العزيزات، والمعروف بكنية « أبو أنطون « نسبة لابنه البكر أنطون سالم القنصل، انعكاساً للأحداث الكبيرة التي وأكبها وشارك فيها منذ بلغ العاشرة من عمره، فهو ابن المرحلة المضطربة، ومن الذين أسهموا في بناء الاستقرار وترسيخ الأمن من خلال مساهمته في الأحداث الاجتماعية، وكتابة الشعر والمساجلات، يذكر ديوان الشاعر سالم القنصل الذي صدر مؤخراً من إعداد المهندس خليل القنصل، أن الشاعر القنصل ولد في مدينة الكرك عام 1865، أي قبل هجرة العشائر المسيحية إلى مادبا، ويدلل على ذلك من خلال بعض الأحداث التي وثق لها الشاعر نفسه، ويشير الديوان أيضاً إلى أن العلامة روكس بن زائد العزيزي ذكر في الجزء الرابع من معلمته إلى أن ولادة الشاعر سالم القنصل كانت في عام 1871، لكنه لم يتمكن من تأكيد هذا التاريخ، فبقي التاريخ الأول هو الأقرب للصحيح.
نشأ الشاعر سالم القنصل في الكرك، وتربى كما يربي البدو أبناؤهم في تلك الفترة، حيث يتعاملون مع الأطفال باعتبارهم رجالاً صغراً، ويؤهلونهم لعالم الرجال والفروسية من عمر مبكرة، فقد أتقن القنصل القتال بالسيف واستخدام البندقية وهو في عمر العاشرة، وقد تميزت العشائر المسيحية البدوية بالشجاعة والصلابة، كحال أبناء القبائل البدوية المجاورة لهم، وكان من عادة هذه القبائل الدخول في أحلاف عسكرية، لمواجهة مخاطر الحروب والغزوات القبلية، فكانت العشائر المسيحية في الغالب حلف لعشيرة المجالي، وقد ورد في ديوان الشاعر أن الرحالة الغربي بيركهارت كتب عام 1912 واصفاً مسيحي الكرك بأنهم شجعان، ويؤكد انسجامهم مع البيئة التي نشأوا فيها كبدو فرسان وعرب أقحاح.
لم يتطرق الشاعر سالم القنصل، إلى محطات حياته إلا في القليل الذي يستخلص من أشعاره ومواقفه، والأحداث التي شارك فيها، وقد لقبه الكاهن بـ « القنصل « منذ كان طفلاً في المدرسة، وذلك بسبب شكله الغربي، حيث كان أشقر الشعر وعيناه زرقاوان، وهي أوصاف تشبه القناصل والسفراء الغربيين، وصار اللقب جزء لا يتجزأ من اسمه. ولم تتح له فرصة الاستمرار في الدراسة لندرة المدارس، والأحول المعيشية الصعبة للناس في تلك الفترة، لكنه أتقن القراءة والكتابة والحساب ومبادئ المعارف الأساسية، في حين تلقى ثقافته ومهاراته المختلفة من مدرسة الحياة، وكان في صباه قد شهد هجرة عشيرته العزيزات مع عدد من العشائر المسيحية، من الكرك إلى مادبا، فقد كان من الذين هاجروا مع أهلهم واستقروا في خربة مادبا، وأعادوا بعث المدينة من جديد، بعد أن بقيت لقرون خربة مهجورة.
تميز الشاعر سالم القنصل بالشجاعة المفرطة، بذوده عن أرضه وعشيرته وكرامته، ومثال عل ذلك ما عرف في الذاكرة الشعبية بـ « سنة السرحاني « عندما حاول بدوي يكنى بالسرحاني سلبه حصانه وسلاحه وما يحمل من زوادة، حيث بادره القنصل مستكفياً شره: « أسوق عليك الله إكفيني شرّك، ولا تحملني دمك « غير أن الرجل لم يرتدع ورد على القنصل بالشتائم، فما كان من الأخير إلا أن أردى السرحاني برمشة عين، ويذكر المنهدس خليل القنصل أن هذه الحاثة غيرت من مزاجه، وخففت كثيراً من ثورته وسرعة غضبه، فصار بعدها يميل إلى التدين، ويكثر من كتابة الشعر، لكن شجاعته وإقدامه ومدافعته عن الحق، بقيت صفة أصيلة فيه ولم تفارقه طوال حياته المديدة.
عرف عنه براعته في الشعر النبطي، ومعرفته القوية بأصوله وأوزانه، وهو ما سمي بين الشعراء بـ « مشد القصيدة « حيث كان يلجأ إليه عدد من شعراء النبط، ليبدي رأيه بشعرهم ويساعدهم في شد قصائدهم وتقويمها بحسب الوزن المطلوب، وتعد قصيدته التي كتبها انتصاراً لأحد أفرد عشيرة العزيزات « عيسى المصارة « عام 1910، أول قصيدة وصلت إلينا من شعره، ولا شك أن قوة القصيدة وسلامة سبكها تؤشر أن الشاعر قد كتب الشعر قبل ذلك، وكان يميل إلى الموضوعية، لا يبالغ في تعظيم انتصارات وبطولات عشيرته، ويتجنب التقليل من شأن الخصم أو شتمه.
كان شعره بمثابة سجل للأحداث في بلدة مادبا، وتعد توثيقاً للقضايا والمشاكل والنزعات في البلدة ومحيطها، حيث كانت تتعرض المزارع للاعتداءات والمواشي للسرقة، وغالباً ما تنشأ مواجهات دامية نتيجة لذلك، فكان يسجل ذلك شعراً، ويعد الشاعر أيضاً وزارة إعلام تواجه إعلام الخصم، وكان شجاعاً في شعره، كما كان في كل مواقفه، وليس أدل على ذلك مال قاله للشيخ سالم أبو الغنم عند التصديق على اتفاقية البلقاء عام 1916، حين سأله بوضوح من أجل حسم وضع العشائر المسيحية في مادبا: « نريد أن نعرف حالنا، هل نحن بلقا أم لا «. فرد عليه الشيخ سالم أبو الغنم: نعم. وبذلك دخلوا في حلف دائم وتم الاعتراف بهم كجزء لا يتجزأ من عشائر البلقاء في مادبا.
شهد فترة الاستقرار في مادبا، خاصة بعد خروج الأتراك، حيث أخذت المدينة بالازدهار، وشهد بناء أول مدرسة للبنات عام 1919، وظهور الفني المسرحي من خلال جهود الكاهنان زكريا الشوملي والأب أنطوان الحيحي والعلامة روكس بن زائد العزيزي، بدأت مادبا تأخذ حصتها في الريادة، فمنها انطلق المسرح الأردني، وقد خدم فيها أول طبيب أردني هو حنا القسوس، وأول طبيب تخرج من أبناء المدينة هو نقولا بولص عام 1914، وكان لهم أيضاً نشاطاً تجارياً وسياسياً ملحوظاً، جعل من مادبا مدينة ناهضة وبسرعة لافتة.
و عرف بثقافته الواسعة، وقد استقى ثقافته من الكهنة، كما نال ثقافة متنوعة من خلال علاقاتها بالناس، وتواصله مع أصحاب الفكر والمعرفة كلما أتيح له ذلك، وقد أنعكس ذلك في شعره، فقد كان يصف غارات الحلفاء الجوية في الحرب العالمية الأولى، كاشفاً عن معرفة بالطائرات والقنابل وغير ذلك، في فترة خلت من وسائل الإعلام كالصحف والراديو. ولم يركز في شعره على المحسنات البديعية، ولكنه أولى البلاغة البدوية عناية خاصة، كما تميزت بعض أشعاره بالحكمة والخبرة الحياتية، بالإضافة إلى اهتمامه بتوثيق الأحداث والمناسبات الخاصة بعشيرة ومدينة ومحيطها، أما مساجلاته الشعرية فقد اكتسبت شهرة واسعة لما تميزت به من قوة ومتانة ومحاججة، وكان على صلة قوية بعدد من الشعراء منهم: سلامة الغيشان، وسلمان وزيدان السعيفان الصويص، وعايد صالح اليعقوب، إضافة للشاعر عبد الله العكشة.
دوّن ديوان المعروف ، من طرف الشاعر عايد صالح اليعقوب وهو حفيد سالم القنصل، وذلك خلال عامي 1942 و1943، كما يوثق ذلك خليل القنصل، وقد فقد الديوان من بيت وركس العزيزي في القدس في أعقاب نكبة فلسطين عام 1948، وبقي مفقوداً حتى عام 1993، عندما أحضره شخص للعزيزي كان جندياً في القدس في تلك الفترة ، وقد قدمه العزيزي للمهندس خليل القنصل الذي حققه ونشره مؤخراً. وقد عاش الشاعر سالم القنصل حتى ناهز الثمانين عاماً، وحيث توفي في الثالث عشر من حزيران عام 1945، ودفن في مدينته مادبا، ومازال صدى حضوره ورنين قصائده يتردد في الذاكرة الشعبية، فهو محفوظ في القلوب والعقول، وذكره الطيب خالد كخلود شعره.

hbarari54@hotmail.com

تعليقات