محمود أبو غريب : سيبقى حاضراً بعمق صمته الجميل

محمود أبو غريب : سيبقى حاضراً بعمق صمته الجميل


صورة 
 
هزاع البراري - لم يكن ابن الصدفة وحدها، وإن لعبت في حياته دوراً، بل كان صاحب موهبة أصيلة، وقدرات فذة لافتة، جعلت منه حالة فريدة، حتى أن مسيرته الحياتية والفنية لفرادتها وغرائبيتها، تصلح لتكون مادة درامية غنية، فهو خارج من رحم المصاعب والخسارات، جاعلاً من كل عائق إلى طريق إلى النجاح، مواجهاً الحياة بكل تقلباتها ونكوصاتها بعزيمة وأمل متجدد، فهو من عايش جرح فلسطين، وقاسى عذاب ولوعة التهجير وفقدان البيت والوطن، وهو من عانى من طفولة غلفها اليتم والحرمان. لكنه وظف كل هذه الانتكاسات ليفجر مواهبه التمثيلية والرياضية، محصلاً التميز والبصمة الخاصة في كل ميدان عمل فيه، وفي كل مدينة أقام فيها، فكان فريداً في نشأته وحياته وفنه.
ولد الفنان محمود أبو غريب في حي المنشية بمدينة يافا الساحلية، إبان الانتداب البريطاني ومع بدايات ظهور المشروع الصهيوني في فلسطين، فقد كانت ولادته عام 1923، وقد عاش في بيت والده في يافا طفولة مختزلة، لأن والده توفي وهو في عمر الخامسة، وكان لهذا الفقد أثره المدوي في وجدان وحياة هذا الطفل الصغير، حيث أضطر للذهاب إلى مدينة القدس، فأدخل إلى ملجأ للأيتام، حيث عاش ودرس في هذا الملجأ، واستطاع رغم ألم اليتم والعيش الصعب، أن يتعلم العزف على الآلات النحاسية، فتمكن من إتقان النوتة الموسيقية قراءة وكتابة، كما برع في الأنشطة الرياضية، وتمتع طوال حياته بجسم رياضي قوي، وخلال إقامته في دار الأيتام تفتقت موهبته التمثيلية، ففي عام 1935 ( كما يذكر ذلك الناقد صالح شبانه ) قررت دار الأيتام تقديم مسرحية، وكان أبو غريب يراقب خلسة بروفات المسرحية، حتى حفظها عن ظهر قلب، وعندما حان موعد تقديم المسرحية، مرض الممثل الرئيسي، وكان من المفترض إلغاء العرض، لولا تقدم أبو غريب معلناً مقدرته على أداء الدور دون تدريبات، وقد نحج في ذلك نجاحاً مبهراً، ليدشن هذا العرض المفاجئ حياته الفنية، والتي لم تتوقف حتى لحظة وفاته.
بعد ذلك تنقل بين مدارس فلسطين، حتى تمكن من إكمال دراسته الثانوية، ليلتحق بمعهد البوليتكنك، حاصلاً على شهادة الدبلوم، وقد عاد محمود أبو غريب إلى مدينته مسقط رأسه يافا، حيث عمل على تأسيس فرقة مسرحية من العمال البسطاء، وقدم معهم عدداً من المسرحيات، وكان محباً للفن بشكل كبير، وقد دفعه هذا العشق إلى الالتحاق بالجيش البريطاني، حتى يتمكن من السفر إلى مصر، ومشاهدة الفنانين الكبار في تلك الفترة.
وقد أخذه هذا الحلم إلى مغامرة غير محسوبة، حيث أضطر لخوض الحرب في مدينة طرابلس الليبية، حيث تعرف هناك على فتاة إيطالية فتزوجها، وقد أنجبت منه ولداً، وبعد انتهاء الحرب عاد إلى مصر، فأنضم إلى فرقة موسيقية، وخلال فترة إقامته تزوج من فتاة مصرية، غير أن هذا الزواج لم يستمر طويلاً، حيث رفضت السفر معه إلى يافا والإقامة فيها، فطلقها وغادر باتجاه لبنان، وهناك التحق بفرقة مسرحية لبنانية، حيث تعرف على فتاة لبنانية وتزوجها، لكنها رفضت أيضاً الإقامة معه في مدينة يافا، مما أجبره على تطليقها والعودة إلى مدينته يافا، وفي يافا تزوج من ابنة خاله، غير أن القدر السيئ لاحقه، فبعد فترة قصيرة من زواجه أضطر للنزوح إلى قطاع غزة بعد سقوط يافا بيد اليهود.
أنجبت له ابنة خاله ثلاثة أولاد وثلاث بنات، وفي غزة عمل في تدريس اللغة الإنجليزية، وقد درس في عدة مدارس، حيث عمل في حقل التعليم مدة عشرين عاماً، وكان بالإضافة لتدريسه اللغة الإنجليزية، مشرفاً للأنشطة الرياضية ومدرباً للفرق الرياضية، ومسؤولاً عن إقامة المهرجانات والاحتفالات المدرسية، كما كان حكماً دولياً في الكرة الطائرة، فقد كان يحمل ثلاث إجازات دولية في التحكيم، من مصر ولبنان وفلسطين، لكن الفن والتمثيل هما هاجسه واهتمامه الأول والأخير.
في غزة قدم أبو غريب عدداً من المنولوجات، وقد لاقت هذه المنولوجات نجاحاً لافتاً، كما أسس محمود أبو غريب فيها فرقة مسرحية باسم « فرقة العودة « وقد قدمت الفرقة عدة مسرحيات ناجحة، وكان لها حضورها القوي في غزة، حيث عمل أيضاً في مصلحة البريد، فهو يجيد اللغة الإنجليزية والإيطالية والعبرية، لكن عمله في الفرقة المسرحية جلب له المتاعب والنجاح معاً، ففي عام 1968 طلب الجيش الإسرائيلي من الفرقة أن تقدم عملاً مسرحياً للجنود الإسرائيليين لكنه رفض، فأجبر على النزوح إلى الأردن، حيث التقى بالفنان شعبان حميد والمخرج صلاح أبو هنود، وهذا الأخير عرفه على الفنان هاني صنوبر، فضمه إلى أسرة المسرح الأردني التابعة لدائرة الثقافة والفنون.
بدأ محمود أبو غريب انطلاقته الاحترافية في مجال المسرح والتلفزيون والإذاعة، مقدماً عشرات الأعمال الدرامية، وقفاً على خشبة المسرح في أقوى وأصعب الأدوار، لافتاً النظر لموهبة أصيلة وفذة، وعندما تم افتتاح التلفزيون الأردني عام 1968، كان محمود أبو غريب أول فنان يقف أمام الكاميرا، ليقدم سكتش « الطالب والأستاذ « مفتتحاً مشوار نجوميته التلفزيونية، حيث قدم مسلسلات وأفلاماً ناجحة وصل صداها الوطن العربي، منها أعمال ( الأخرس، القلادة الخشبية، باب العمود، فداك يا فلسطين ) وقد شارك أبو غريب في أول مسلسل إذاعي بدوي، حيث تعلم اللهجة البدوية على يد العلامة روكس العزيزي، وقد لمع نجمه في المسلسل التلفزيوني الرائد « وضحا ابن عجلان « فأخذ نجمه في الصعود سريعاً خاصة في المسلسلات البدوية، حتى أصبح رائدا من رواد الحركة الفنية والأردنية، متميزاً بكل الأدوار، لكنه كان أشهر من قام بدور البطولة في المسلسلات البدوية، فأتقنها وكانت له بصمة خاصة فيها.
توالت الأعمال التلفزيونية بعد نجاح « وصحا وابن عجلان « الذي مثل فيه أبو غريب مع الفنان المصري يوسف شعبان، ومن هذه الأعمال الكثيرة ( أبو عقاب، جواهر، راس غليص، دروب الحنة، وغيرها الكثير ) بما يصل إلى مائة عمل درامي، وكان دائم الحضور على الساحة الفنية، متميزاً بتواضعه وأخلاقه العالية، وقربه من الجميع، وإلى جانب المسلسلات قدم أفلاماً ناجحة أشهرها فيلم « سيدي رباح « الذي أنتج عام 1990، وقد شارك هذا الفيلم في مهرجان القاهرة للأفلام، حيث نال المركز الثاني بعد فيلم المصير للمخرج المصري العالمي يوسف شاهين، ويعد هذا إنجاز كبير للدراما الأردنية، وقد كرم فريق هذا الفيلم بمنحهم جائزة السوسنة السوداء.
عانى الفنان محمود أبو غريب من عدم حصوله على الجنسية الأردنية، حيث لم ينل نتيجة لذلك عضوية نقابة الفنانين، وكان عليه الحصول على تصريح عمل عند كل مسلسل أو فلم يعمل فيه، ونظراً لجهوده الكبيرة والرائدة في الدراما الأردنية، ولمكانته الكبيرة محلياً وعربيا،ً وتفانيه في خدمة الحركة الفنية الأردنية، مُنح الفنان محمود أبو غريب الجنسية الأردنية بإرادة ملكية سامية، وقد نالها بجدارة فنه وعمق انتمائه، لكنه لم يبق بعدها طويلاً بيننا.
توفي الشيخ الممثلين الأردنيين محمود أبو غريب عام 2004، عن عمر ناهز واحداً وثمانين عاماً، فقد غادرنا بصمت الرجل الذي ملأ الدنيا فناً، أنه صمت الكبرياء والرضا. وتخليداً لذكراه التي لا تغيب، أطلق على المسرح الدائري في المركز الثقافي الملكي اسم « مسرح محمود أبو غريب « تكريماً لقامته الفنية الكبيرة، لكن هذا الفنان الكبير، ترك في ذاكرة الشاشة الصغيرة، وفي قلوب مليين العرب صوراً خالدة وشخصيات صاحبة حكمة ومكانة، فيبقى محمود أبو غريب بيننا حاضراً بعمق صمته الجميل.

hbarari54@hotmail.com

تعليقات