محمود العابدي.. العالم والمعلم صاحب «أوابد من التاريخ»

محمود العابدي.. العالم والمعلم صاحب «أوابد من التاريخ»


صورة 
 
هزاع البراري - كان من معلمي الملك الباني الحسين بن طلال، فلقد درس في الكلية العلمية الإسلامية في العام 1948م وقد سحرته شخصية الأمير اليافع كطالب لا يتم تمييزه عن أقرانه من الطلاب، فكان الحسين التلميذ كما يذكر العابدي ذلك في مذكراته عنه ذكياً ومجتهداً، ومن الطلبة الذين يصرون على المشاركة الفاعلة في الحصة التدريسية، حتى وقد تحولت علاقة الإعجاب من قبل المعلم بتلميذه، إلى نوع من الصداقة والاحترام فيما بعد، دل على ذلك الرسائل التي كتبها الحسين لمعلمه من مدرسة فكتوريا في مصر ومن بريطانيا أيضاً، فلقد سبق أن قام العابدي بمساعدة الحسين في بعض الدروس الإضافية في البيت، فبقي تقدير التلميذ لمعلمه خالدا في نفس الأمير حتى بعد أن نودي به ملكاً على المملكة الأردنية الهاشمية.

ينتسب العابدي لقرية عصيرة الشمالية التابعة للواء نابلس في ذلك الوقت، وهي الحضن الذي ترعرعت فيه طفولته وأشتد فيه عوده، فلقد كانت نابلس في أواخر الفترة العثمانية، عامرة بالحركة التجارية والثقافية، حيث جاءت ولادته في العام 1906م، في مرحلة حاسمة من تاريخ العرب الحديث، عندما كانت المنطقة تخوض غمار النضال المطالب بالحرية والوحدة العربية، في منطقة شرق المتوسط، وبلا شك فأن نابلس بقراها وبلداتها لم تكن ببعيدة عن هذا الحراك القومي الذي مهد الطريق لانطلاق ثورة العرب الكبرى، لذا فأن العابدي كان شاهداً ومساهماً في هذا الحراك الذي اجتاح الهلال الخصيب و الحجاز.
التحق بمعهد دار المعلمين في القدس، وفي العام 1927م تخرج من المعهد وعمل مباشرة في التعليم فلقد عين مدرساً تنقل من خلال عمله هذا بين مدارس نابلس وبيت لحم وصفد، حيث استقربه الحال في صفد التي أقام فيها مدة خمس عشرة سنة، غير أن ما مرت به فلسطين من أحداث جسام مازلت تأثيراتها في تفاقم مستمر حتى اللحظة، فعدما وقعت النكبة اضطر العابدي إلى النزوح إلى الأردن ليندغم مباشرة في العمل الذي سيكرس له معظم سني عمره، فأنضم إلى الهيئة التدريسية لمدرسة الكلية العلمية الإسلامية، حيث كان الأمير الحسين بن طلال طالباً في الصف السابع، فتتاح للعابدي فرصة تاريخية ليكون له شرف تعليم هذا الأمير الذي سيصبح ملكاً بعد فترة ليست كبيرة.
 عمل في الكلية العلمية حتى انتقل إلى مدارس وزارة التربية والتعليم، حيث عمل مديراً لعدة مدارس منها مدرسة رغدان الثانوية التي زارها الملك الحسين، الذي هنأ الطلبة بأستاذهم ومدير مدرستهم، وقد عمل العابدي بعد ذلك مفتشاً في وزارة التربية، و العام 1966م تم تأسيس دائرة الثقافة والفنون من قبل الشريف عبد الحميد شرف، وكانت بمثابة وزارة الثقافة، التي لم تكون موجودة في تلك الفترة، وكان ذلك تكريماً لهذا المعلم الكبير، وقد استمر العابدي في عمله هذا حتى أحيل على التقاعد في العام 1970م (وجوه وملامح، سليمان موسى)
ونظراً لخدماته الجليلة في التربية والتعليم، وفي ميدان الثقافة، تم تعيين العابدي مستشاراً ثقافياً في أمانة عمان، وقد عرف بجديته ومقدرته العالية على الإنجاز والتميز، ومصداقيته حيث قدم لوطنه وقيادته الإخلاص والولاء والعمل المنتج من خلال الأجيال التي علمها سواء في المدارس الحكومية و الخاصة، أو من تبرع بتعليمهم من الأميين من الحرفيين والأولاد الذين لم يلتحقوا بالمدارس، رغم التشكيك في إمكانية نجاح هذه التجربة التي طبقها في صفد قبل النكبة، لذا لم تخل فترة من عمره من العمل وتقديم ما هو مفيد.
كرس العابدي جزءا من حياته للكتابة، وقد قدم للمكتبة الأردنية والعربية مجموعة من الكتب ذات الفائدة العلمية و التربوية، وقد اعتمد في كتاباته على ما حصله من علوم ومعارف، من خلال قراءاته ومطالعاته التي واضب عليها، هادفاً من وراء ذلك المساعدة في التثقيف وتشجيع القراءة الواعية، هذه الكتابة شكل آخر من عمل كمعلم لمدة ثلاثين عاماً، لذا كتب في موضوعات مختلفة كالجغرافيا والآثار والتاريخ والبلدانيات وغيرها، ومن كتاباته نذكر، (جغرافية العالم العربي) الذي نشره العام 1954م، وحاز تكريماً له على انجازه وسام الاستقلال من قبل الملك الحسين بن طلال، وكتاب عن عمان (عمان في ماضيها وحاضرها) وله كتاب عن صفد وذكرياته فيها، وله كتيب عن آثار مدينة جرش، فلقد يهدف من بعض كتبه خدمة وطنه وسد النقص الذي تعاني منه المكتبة المحلية.
وقبل وفاته بأشهر أصدر كتاب (أوابد من التاريخ)، أما كتابه الأخير فقد نشره قبل وفاته بأيام وهو (من تاريخنا)، وقد كان لهذه الكتب مكانتها في تلك الفترة، رغم اتصافها بالجهد التجميعي، فلم يهدف العابدي من كتبه تقديم نفسه ككاتب أكاديمي، بقدر اهتمامه بتوفير ما يساعد طلاب العلم و القراء، ما يحتاجونه من العلوم والمعارف، ولعل أهم ما تميز به مبادراته، فهو لم يتخل عن دوره كلما أتيحت له الفرصة، فعندما أغلقت بعض المدارس بسبب المظاهرات الرافضة لحلف بغداد، تقدم العابدي وقابل الملك حسين وطلب منه التدخل لإعادة فتح هذه المدارس، وقد نجح في ذلك بشكل لافت.
هذا هو العابدي، المعلم الكبير والمثقف العميق في فكره وانتمائه، الذي لم يترجل عن حصان الإنجاز والعمل المتواصل، حتى داهمه الموت المفاجئ، في ايلول العام 1970 وكان عمره في الثانية و التسعين، لكنه يبقى حاضراً بما قدم وبما هو خالد وطيب، حافراً اسمه في سجلات الذاكرة التي لا تمحى، في ذاكرة الوطن الخالدة.

hbarari54@hotmail.com

تعليقات