محمد مختار المفتي.. أول طبيب عربي يعين في الكرك

محمد مختار المفتي.. أول طبيب عربي يعين في الكرك


صورة 
 شارع سوق الكرك اربعينيات القرن الماضي 
 
هزاع البراري - في زمن ما قبل التأسيس، حيث تفتقر البلاد لمعظم ما يلزم لإشادة حياة عصرية ، وفي تلك الفترة الغارقة بالضبابية، وتحت وطأة إهمال الدولة العثمانية المتعمد للمنطقة، كانت الحاجة ماسة لرجال أوفياء، يبحثون عن النادر وغير المتوفر، بقصد السعي إليه وتوفيره ، وجعل الصعب سهلاً والمستحيل ممكناً ، فلقد عم التجهيل البلاد العربية، في الثلث الأخير من عمر الإمبراطورية العثمانية، وعانت المنطقة من قلة الكوادر من مختلف التخصصات، لغياب دور العلم من مدارس وجامعات، واستشراء ضيق ذات اليد لدى غالبية السكان ،وما رافق ذلك من مطاردات وغياب شبه كامل للحريات وسيادة البلاد العربية حينها.



وسط هذا الواقع الماثل، ولد الطبيب محمد مختار المفتي، في الأول من شباط عام 1893 م في منطقة ديار بكر في شرق الأناضول، وهو من عائلة عرفت بحب العلم، فمنهم الطبيب والصيدلاني والمهندس في تلك الحقبة الصعبة، درس محمد المفتي في سنواته الأولى من تلقي العلم في أحد كتاتيب حي الشاغور الذي يتبع نفس المنطقة التي ولد فيها ، بعد ذلك انتقل لمتابعة دراسته في مكتب عنبر في دمشق، وكانت مدرسة مشهورة ، حيث كان من زملائه شكري القوتلي وصبري العسلي والدكتور عبد الرحمن الشهبندر وفارس الخوري، وهم رجال كان لهم دور بارز في المرحلة التالية من الأحداث التي اجتاحت البلاد فيما بعد ، وفي العام 1908 م ارتحل إلى عاصمة الإمبراطورية اسطنبول في وقت أطلق عليها لقب «الرجل المريض» دلالة على الوهن و الضعف الذي نخر أوصال الدولة التركية مع الإرهاصات الأولى للحرب العالمية الأولى.
في اسطنبول التحق المفتي بدار المعلمين ،غير أن هذا المعهد لم يلب طموحه، فما لبث أن غادره قبل أن ينهي دراسته فيه، وكان ذلك عام 1911م، وكانت لديه رغبة في دراسة الهندسة ، غير أن الظرف لم يواتيه، حيث التحق بالجيش العثماني وانتقل إلى مصر للمشاركة في الحملة على قناة السويس ضد الوجود الانجليزي ، وقد عمل في الجيش برتبة ضابط في مستشفى ميداني، وكان قد استغل غنى هذه الفترة بالأحداث، وتعلم اللغتين التركية والفرنسية ، وقد كانت طموحاته في مجال تلقي العلم تتوضح أكثر بعد خدمته العسكرية ، فما كادت الحرب العالمية الأولى تضع أوزارها، حتى بادر محمد مختار المفتي إلى الانتساب للمعهد الطبي العربي التابع للجامعة السورية ،وكان ذلك إبان العهد الفيصلي، وتمكن من خلال اجتهاده ومواظبته من الحصول على شهادة الطب التي كانت تسمى إجازة» عليم في الطب» في 16 حزيران 1920م، وكان الرقم التسلسلي لشهادته «29» ، و انجازه هذا كان قبيل سقوط المملكة العربية في سوريا بشهرين فقط.
يعتبر المفتي من أوائل خريجي الطب من الجامعة السورية ، ولعل علاقة عائلة المفتي الآمدي بالعلم والدين أن شكلت الأرضية التي ساعدت الطبيب محمد المفتي وشقيقه الأكبر الطبيب فريد المفتي في توجهاتهم العلمية، حيث كان جدهم عمر أفندي الآمدي إمام الحنفية في دمشق ، أما ابنه طاهر- والد الطبيب محمد المفتي- فقد كان رجل علم وتولى منصب إفتاء دمشق الشام.
كان محمد مختار المفتي، أول طبيب عربي يعين في الكرك في العهد الفيصلي، عندما كانت تتبع للحكومة العربية في دمشق ، حيث عينه مدير عام الصحة في دمشق طبيباً في منطقة الكرك براتب شهري قدره «1400 « قرش مصري «مذكرات محمد المفتي».
خدم المفتي في الكرك وما جاورها مدة خمسة وأربعين عاماً منذ 1920م- 1965م ، وقد وصلها على صهوة حصان قادماً من محطة سكة حديد القطرانة ، حيث استوجبت عليه الظروف القيام بالعمل كاملاً بمفرده، في ظل قلة الإمكانيات من بنى تحتية وكوادر في زمن تعددت فيه الإصابات بالأمراض السارية، بالإضافة للجهل وقلة الدواء والمعدات المتوفرة، مما يستلزم الكثير من الصبر والخبرة ، حتى انه اضطر أحيانا لتركيب الدواء بنفسه ، وقد عرف عنه في الكرك انه كان يتنقل على الدواب في أحلك الظروف ليجول على مرضاه حتى وان تطلب ذلك أياماً يقطع خلالها مسافات كبيرة ويعاني اشد المعاناة، وقد يضطر للمبيت عند المريض للإشراف على حالته.
بعد انتهاء العهد الفيصلي، استقر المفتي في الكرك عاملاً ضمن الحكومة المحلية ، وبعد ذلك عمل في ظل حكومة إمارة شرق الأردن التي أسسها الأمير عبد الله الأول ابن الحسين، وتنقل بين الكرك والطفيلة وجرش ، استقال الطبيب المفتي عام 1926 م، وافتتح عيادة خاصة في الكرك حيث استقر وقد تزوج من فتاة كركية ، وقد أحب الكرك ولم يستطع الابتعاد عنها ، ومن خلال عيادته عمل في مختلف الاختصاصات الطبية حتى انه كان يجري بعض العمليات البسيطة ويعالج الأمراض النسائية والأطفال أيضاً ، وقد عمل أحياناً مدرساً للمواد العلمية كالرياضيات والكيمياء والفيزياء.
عرف الطبيب المفتي بحبه للقراءة في كتب التاريخ والأدب، وأحب الرياضيات والهندسة والفلك، ومداومته على قراءة القرآن الكريم والحديث الشريف. وقد أمضى خمسين عاماً في مزاولة مهنة الطب وذلك حتى رحيله عن الدنيا في شهر آب 1971م. وقد وري هذا الطبيب الرائد الثرى في مدينة الكرك التي أحب وعمل وعاش شبابه وشيخوخته القصيرة فيها ، وترك في ريادته الطبية أثراً في الذاكرة الوطنية لن تمحى معالمه أبداً.

hbarari54@hotmail.com

تعليقات