ذات رأس.. ذاكـــرة الأنبـــــاط

بوح القرى : ذات رأس.. ذاكـــرة الأنبـــــاط (1-3)



كتابة وتصوير .. مفلح العدوان - عائد من بترا..
كنت منتشيا بالحضارة والفن والإبداع في تلك المدينة.. أبتعد عنها، غير أن ملامح الصخر الوردي، والنقش النبطي، تبقى تسكن مخيلتي، رغم المسافة التي بدأت تفصلني عن بترا، وهاجسي، في درب عودتي من هناك، صار في أن أكمل فسيفساء المشاهدة، بعين نبطية هوى، في قرية من قرى الجنوب، تلك الأمكنة التي أحرص دائما على أن أصلها، وأستلهم ذاكرتها، في أي وقت تتاح الفرصة لي لأن أمرّ عليها في أي مشوار نحو الجنوب.
ها قد عقدت النية، في أن أترك الطريق الصحراوي، وبدل أن أتجه شمالا نحو عمان، اتجهت نحو الغرب، بعد قرية الحسا، تابعت من هناك دربي إلى قرية ذات رأس التي تعتبر أثرا نبطيا مكتملا في معظم تفاصيلها، وهي تعبير عن تلك القرى النبطية المستقرة على جانب الطريق التجاري، وفي آثارها ما زالت معالم المعابد، والحصون، والبرك، والنقوش، وكل التفاصيل التي تشعرني بأنني في ركن من الأركان القريبة من بترا، حين كانت مملكة الأنباط في أوج تحققها.

سلام عليهم

أدخل القرية، الطيب أهلها..
سلام على المقيمين فيها، وعلى الذاكرة المعتقة التي تواطنها منذ أقدم العصور.. وقد أول ما لفت نظري على مرتفع منها، تلك الحجارة الظاهرة كأنها المسلات في ذات رأس.
آنذاك قلت أمرّ سريعا في دروب القرية، قبل أن أطرق باب واحد من بيوتها، وأجلس مع واحد من أهل القرية، ليسرد لي ما تيسير من سيرتها الثرية في الماضي، وفي الحاضر.
وسط البلد، كنت أسوق حافلتي قريبا من المسجد.. تأملت واحدا من الرجال الكبار الطيبين الخارجين من الجامع، فتوقفت عنده، وألقيت السلام عليه، وما ان بدأت سؤاله عن ذات رأس حتى غمرني بابتسامته الطيبة، ونثر علي من كلامه الذي يحمل في طياته معاني الدفء والأخلاق النبيلة، وكان تعارفنا، وقال لي بأنه الحاج مصطفى محمد الهواري (أبو سليمان)، وهو رئيس جمعية العينة الزراعية التعاونية، وبعد ذلك بدأنا تجوالنا في ذات رأس قبل أن نشرب القهوة العربية في بيته.

بنت الملك

سرت بسيارتي مع الحاج مصطفى نحو المناطق الأثرية في ذات رأس، وتتبعنا ذاكرة الحجر هناك، وبين موقع وآخر كان «أبو سليمان» يشير إلى جانب من ذاكرة المكان، أو سيرة القرية، أو تفاصيل الأشخاص الذين كان لهم أثر في تلك المساحات.
كانت الكلمات تنساب في أحاديثه، سلسة، تلقائية، فأقرنها تارة بما قرأت عن ذات رأس، وتارة أقارب بينها وبين الموروثات الشعبية التي تتكرر كثيرا في القرى، حاملة ذات الدلالة، وهنا أبدأ معه من معنى، وتفاصيل، اسم قرية ذات رأس، الذي قرنها بالمنطقة المرتفعة، والعالية، وكأنها الرأس بالمقارنة الجغرافية مع المناطق المحيطة بها، وهنا يورد معها قصة متوارثة، عن الاسم، وعن واحد من الأبنية الأثرية في القرية، والذي يسميه أهل ذات رأس «قصر البنت»، حيث يقول الحاج مصطفى الهواري: «ذات راس (وهنا في القرية عند ذكر اسم القرية يسقطون الهمزة في كلمة رأس، ويلفظون الأحرف سلسلة متداخلة بين الكلمتين لتكون: ذاتَراس)، معناها أعلى منطقة، وكان يحكمها بقديم الزمان ملك، وكانت عنده بنت جميلة، وكانت هذه البنت، كحلة عينيها توزن نص اوقية، وفي يوم من الأيام طلعت على سطح هذا القصر، وشافت من الجهة الجنوبية خيول جايه من هناك، وخبرت أبوها بالأعداء، عشان يتنبهلهم، وهذا القصر اتسمى باسم البنت، وصار اسمه قصر البنت).

ثاريس

وعن ذات رأس، وموقعها، ودلالة اسمها، يشير الباحث أحمد عوض إسماعيل المواجدة، في رسالته الماجستير حول «مظاهر الاستيطان النبطي في هضبة مؤاب/ دراسة مقارنة»، بأنه «تقع ذات رأس على بعد 4 كم إلى الشرق من الطريق الواصلة بين الكرك والطفيلة، وحوالي 2كم شمال الحافة الجنوبية لهضبة مؤاب على وادي الحسا، وتعتبر ذات رأس من المواقع النبطية المهمة جنوب المنطقة، وتسيطر على الطريق التجاري القادم من وادي الحسا باتجاه الشمال..».
ثم بعد ذلك يقول الباحث المواجدة «.. ويرتبط اسم ذات رأس بدلالة لغوية دينية، وذلك بأن اسمها مؤنث، مرتبط بآلهة مؤنثة اشتق منها المقطع ( (Dhat، ويشير اسم المنطقة إلى الارتفاع، حيث قدّس الأنباط المرتفعات، والذي يمكن مقابلته باسم ذي الشرى، فالمقطع الأول (ذات) يقابل (ذي)، والمقطع الثاني (الشرى) يقابل كلمة (رأس) كاسم لموقع مرتفع؛ إذاً فكلا الاسمين يشير إلى آلهة جبلية ارتبط الأول بجبال الشراة والثاني بمنطقة ذات رأس، والذي يقودنا للاعتقاد بوجود آلهة محلية أنثوية عبدها الأنباط في المنطقة، قد تكون اللات، وربط الحموي منطقة مؤاب بجبال الشراة، في حديثه عن مدن بلاد الشام، وهو ما يشير إلى ارتباط المنطقة عموما بالإله ذو الشرى.
وربما كان لقدسية المكان ووقوعه على الطريق التجاري، دور هام في كثافة الاستيطان النبطي عليه، وخصوصا خلال القرن الثاني الميلادي، وهي الفترة التي عاش خلالها المجتمع النبطي ازدهارا اقتصاديا ودينيا في ظل السيطرة الرومانية على المنطقة، وقد استمرت الصبغة الدينية للموقع خلال الفترة البيزنطية، مما دعا البعض إلى الاعتقاد بأنها تمثل مدينة ثاريس التي ظهرت على خارطة مأدبا الفسيفسائية».

مخططات بوتنجر

أما اللفتننت كولونيل فريدريك ج بيك في كتابه «تاريخ شرقي الأردن وقبائلها» فيورد اسم ذات راس على أساس أنها ثورما القديمة، في تتبعه لطرق الأنباط القديمة في المنطقة، وهنا نورد الفقرات التالية لتوضيح الدلالة: «لقد أعقب سقوط مملكة الأنباط وقيام الولاية العربية عام 106م. عوضا عنهما افتتاح الطريق بين بصرى والعقبة، ولا يزال كثير من الأماكن والمحلات الوارد ذكرها في مخططات بوتنجر عن هذه الطريق موجودا، وفي الإمكان تمييزها.
وكان هناك طريق بين فيلادلفيا والقدس تتبع عين الطريق الحديثة، أي مخترقة وادي الأردن. وكان هناك أيضا طريق أخرى تمر عن الأماكن التالية: راب اباتورا (الربة بجوار الكرك)، ثورما (ذات رأس)، هقلا (نجل بجوار الشوبك)، بتريس (بطرا)، وزادا كتا (الصدقة)، وحواره التي ليس من المستبعد أن تكون الكويرة الحديثة مع أن البعض يظنها الحميمة، وهذا ليس صوابا لأن الحميمة هي بسيديو. ثم تمر الطريق بأيلة (العقبة)، ومنها تتفرع إلى فرعين الأول يقطع سينا والآخر يتجه شمالا الى رفا (رفح) مارا بالديانام (غاديان)..».
وفي كتاب آثار الأردن الذي عربه المؤرخ سليمان موسى، يمر لانكستر هاردنج مرورا سريعا على قرية ذات رأس، حيث يشير هنا الى أنه « يمر المسافر بقريتين أو ثلاث قبل أن يصل الى كتف وادي الحسا. ولكن لا يوجد في أية قرية من هذه القرى ما يثير الاهتمام. وإلى الشرق من الطريق الجديدة، على بعد كيلو مترين أو ثلاث كيلو مترات توجد قرية (ذات رأس)، وفيها مدفن عائلي غير متهدم، ربما يعود الى القرن الثاني أو الثالث بعد الميلاد. إنه يقوم الى جانب الطريق القديمة، وفي القرية التي تقع خلفه يمكن مشاهدة بعض الأعمدة وبقايا أسوار قديمة».

العينه الزراعية

أتابع مسيري مع الحاج أبو سليمان، فأمر على المباني الأثرية، وأصل الى البركة القديمة، والمعابد، والخربة العتيقة، والحفريات الأثرية، والآبار الرومانية، والفسيفساء المنتشرة في أكثر من مكان في آثار ذات رأس.
توقفت مع «أبو سليمان» على الإطلالة التي ينفتح بعدها الجنوب، حيث في أسفل الوادي مزارع العينة، وبعدها الامتداد على مد البصر نحو الجنوب، وكنا قد تجاوزنا هناك «قبر فلاح بن حميد الجعافرة»، فحدثني الحاج عن الحدود، والتقسيمات الجغرافية، مكملا ما بدأه عن ذات رأس بأنها نبطية بكل تفاصيلها، ومرتفعة، «ونشوف منها راس شيحان، وكل المناطق المرتفعة حوليها، أما حدودها فهي من الغرب الحسينية، ومن الشرق محي، ومن الشمال أم حماط، ومن الجنوب سيل الحسا مع قرية العينه الزراعية التابعه الى ذات رأس.. ومن مناطق ذات راس اللي يمكن تقسيمها الها كل من شقيره الشرقية، وشقيره الوسطى، وشقيره الغربية، والتلعة السمرة، وأرض العبادلة، وغيرها..».

سيرة قرية ذات رأس

تقع ذات رأس إلى الجنوب الشرقي من المزار في الكرك، على مسافة 10 كم، وهي تتبع إلى لواء المزار الجنوبي، في محافظة الكرك، وتقع ضمن حدود بلدية مؤاب الكبرى.

الديموغرافيا

يبلغ عدد سكان ذات حوالي 2882 نسمة (1484 ذكور و 1398 إناث)، يشكلون 513 أسرة تقيم في 625 مسكنا، ويعملون في الزراعة، والوظائف الحكومية.

التربية والتعليم

توجد في قرية ذات رأس المدارس التالية: مدرسة ذات رأس الثانوية للذكور، ومدرسة ذات رأس الثانوية للإناث، ومدرسة ذات رأس الإعدادية للذكور، ومدرسة ذات رأس الإعدادية للإناث، ومدرسة شقيرة الغربية الأساسية المختلطة، ومدرسة شقيرة الشرقية الأساسية المختلطة.

الصحة

يوجد في القرية مركز صحي أولي.

المجتمع المدني: يوجد في القرية المؤسسات التطوعية التالية: جمعية العينه التعاونية الزراعية، وجمعية ذات رأس الخيرية، وجمعية شقيرة الشرقية الخيرية، وجمعية شقيرة الغربية الخيرية، وجمعية الامتياز الخيرية، وجمعية شقيرة الغربية التعاونية، وجمعية شقيرة الوسطى التعاونية، وجمعية شقيرة الشرقية التعاونية، وجمعية دار القرآن الكريم، ونادي ذات رأس الرياضي.


ذات رأس.. ذاكـــرة الأنبـــــاط (2-3)



بوح القرى .. كتابة وتصوير .. مفلح العدوان - أوشك أن أتأمل كل حجر في ذات رأس..
حيث هناك للمعالم معانيها المختلفة، وكأنها وضعت على عاتقها مهمة أن تكون حاملة للتاريخ، وحاضنة للذاكرة، والراوية للحكايات المنقوشة عن الناس وأرضهم في مخطوط القرية التي تشي واجهاتها المعمارية التراثية بثراء جوهرها، وجمال مظهرها.

ثلاثة معابد

وإذا كان استمرار البوح بالوقوف إعجابا بتلك الواجهات المعمارية، فلا بد هنا من الإشارة إلى ما وثقه الباحث نايف النوايسه في كتابه “السجل المصور للواجهات المعمارية التراثية في الأردن/الكرك”، حيث وثق بالصورة والتحليل لبعض المواقع الأثرية في ذات رأس، مثل الأثر النبطي الموجود في الجهة الشرقية من القرية الذي يعتقد بأنه قد يكون معبدا أو مقرا لحامية نبطية، والذي يلاحظ وجود أبراج المراقبة على زواياه، وكذلك مدخل الموقع النبطي في الجهة الغربية من ذات رأس، وهو يقدم من خلال الصورة تلك الآثار من أكثر من زاوية، مشيرا إلى الإطار المعماري المتبقي من هذه المعالم، وهو أيضا يقدم في مروره على القرية جانبا مما كتب عن تلك الآثار الموجودة فيها، حيث يشير الباحث النوايسة حول ذات رأس بأنه “زارها الرحالة ديوتي وذكر أنه رأى فيها بنائين ظن أن أحدهما معبد أو قصر مكون من حنيتين على جانبي المدخل لوضع التماثيل، وفي حقيقة الأمر أن ما رآه هو درج يقود إلى الشرفة العليا فضلا عن بركتي ماء. ويذكر جلوك أن في ذات رأس آثاراً ثلاثة معابد، كما وجد في جنوب البلدة مدافن رومانية تشبه مدافن النويجيس، والقويسمة.. واستخدم المواطنون حجارة هذه المعابد في بناء بيوتهم. وقد عثر على نقش يوناني يتضمن قسما من اسم الآلهة النبطية Atraqatis ، ووجد قبر ما بين ذات راس والشقيرا، عثر فيه على نقش حجري أبعاده( 42*55*14 ) سم، وكتب عليه Aureus of tibere ويؤرخ هذا القبر إلى نهاية حكم إريتاس (حارثة) الرابع، سنة 40م، وله شبيه في البتراء”.

كيرياكوبوليس

وبالعودة إلى زخم تاريخ ذات رأس يمكن القول بأنه لقد مرت على هذه القرية العديد من الحضارات الرومانية والبيزنطية والإسلامية، حيث أنه يلاحظ فيها وجود بناء روماني الطراز وصف قديماً بأنه معبد، ولكن دائرة الآثار العامة أجرت تنقيبات تحت البناء، وكشفت عن العديد من المدافن المنحوتة في الصخر، وجد بداخل إحداها أساور ذهبية مما يدل على أن البناء كان مدفنا لإحدى العائلات الثرية في المنطقة، ولقد أشرف على هذه الحفريات الباحث سامي الربضي مفتش آثار الكرك . كما أن هنالك في القرية بقايا هياكل رومانية الطراز استعملت حجارتها لبناء المساكن، أما الضريح الروماني الذي يقع في الجهة الجنوبيه الشرقيه فلا يزال بحاله جيده، ويعود تاريخه إلى القرن الثاني أو الثالث الميلادي.
وقد شهدت ذات رأس حكم الفترة البيزنطية، حيث سميت باسم كيرياكوبوليس، كما وجد فيها بقايا كنيستين عثر على أحدهما والباقي لم يعثر عليها.
وعندما استعملت في الفترة الحديثة حجارة المواقع القريبة من الآثار، في بناء البيوت الحديثة عثر على تاجيات الأعمدة البيزنطية في أحد البيوت، حيث أنتزعت من الكنيسة البيزنطية .
كما أنه قد لمع هذا المكان الأثري كمحطة مياه، وحظي بأهمية دينية لوجود آثار لثلاثة معابد في نفس المنطقة أما المعبدان الأكبر حجماً واللذان لم يعودا واضحي المعالم فهما يقعان على تل في المنطقة السهلية، بينما المعبد الأصغر فموقعه في الجنوب الشرقي، وهو ما يزال يحتفظ بمخططه العام .

رحالة وآثاريون

وفي سياق الدراسات الأثرية حول ذات رأس يمكن ادراج أهم الرحالة الذين قاموا بزيارة الموقع ،على النحو التالي: الرحالة Seetzen الذي زار القرية عام 1805م، ووصلها عن طريق وادي الموجب، حيث تجول فيها، وكتب عنها. كما زارها الرحالة Berkhart عام 1812م، وعمل على دراسة الملتقطات السطحية وطبيعة الارض فيها. وكذلك Irbyandnangles حيث استطاعوا عبور الكرك عام 1818م، وسلكوا الطريق الرومانيه، وكتبوا عن موقع ذات راس متحدثين عن بقايا العمائر المتهدمة، وعن بقايا لثلاث عمائر مبنية على طراز العماره الرومانية. وأيضا زارها Albert ducde ضمن زيارته للكرك ولمواقع في البحر الميت عام 1858م. وكذلك مر بالقرية كل من Mauss and Sauvaive اللذين زارا الكرك عام 1866م، واتجها باتجاه الشوبك، وقد كتب هذان الرحالان عن ذات راس حيث تحدثا عن الطريق الروماني وأنه محاط بجدارين. كما أن بعثة للحكومة العثمانية قامت بزيارة لذات راس عام 1893م، وحاولت أن تضع يدها على الموقع . ومن أهم الرحالة الواصلين للموقع بعد عام 1893 C.W Wilson - vincet - w. lebby - gautter. ومن الضروري هنا الإشارة الى أن الرحالة Alois musil زار موقع ذات راس في 1896-1902م، واستطاع إعداد خرائط للبقايا الاثريه ما بين الموجب والحسا، كما تحدث موزل عن إعادة الإستيطان في ذات راس من خلال استعمال البقايا القديمه للمباني. وكذلك يشار إلى Glueck بأنه قام بمسح أثري للعديد من المواقع في شرق الأردن وزار ذات راس، وتحدث عنها وقدم صوراً لها، وقام بدراسة المعبد الصغير وأشار في دراسته إلى تاريخ بنائه وموقعه.
ويضاف الى ما سبق تلك الجهود التي قامت بها دائرة الآثار العامة، من خلال العديد من التنقيبات في موقع ذات راس، وفي عام 2002 تم إجراء حفرية علمية من قبل مجموعة من طلبة قسم الآثار والسياحة بجامعة مؤتة بإشراف الدكتور تيسير عطيات، وبعد ذلك في عام 2003 قامت مجموعة من طلاب قسم الآثار بإجراء أعمال التنقيب الأثري لموقع ذات راس.

موقع ديني

وبعد.. فلا بد من إطلالة أكثر شمولية حول جانب من تلك الآثار في ذات رأس، خاصة المعبد الذي تتضح معالمه فيها، ما يسمى بمعبد ذات رأس، الذي يفرد له الباحث أحمد عوض إسماعيل المواجدة مساحة لتوضيح تفاصيله في رسالته الماجستير التي عنوانها “مظاهر الاستيطان النبطي في هضبة مؤاب/دراسة مقارنة”، حيث يقول تحت عنوان معبد ذات رأس: “أنشأ الأنباط بها (ويقصد قرية ذات رأس) ثلاثة معابد، أهمها ما يسمى بالمعبد الصغير، والذي يؤرخ له في الربع الثاني من القرن الثاني الميلادي، ويواكب المرحلة الثالثة لبناء معبد التنور. بني معبد ذات رأس الصغير بشكل مستطيل من الحجارة المشذبة، ويتجه نحو الجنوب، ويرتفع فوق منصة مبنية من الحجارة الكبيرة، ويحتوي على باحة داخلية يتم الدخول إليها عبر مدخل على جانبيه مشكاتان في الواجهة الخارجية للجدار الأمامي، وللمعبد صالة مركزية نافذة إلى قدس الأقداس. تعتبر منطقة ذات رأس من المواقع النبطية الدينية الهامة في هضبة مؤاب، حيث مثلت مركزا استيطانيا كبيرا خلال القرنين الأول والثاني الميلاديين، أكد ذلك تعدد المعابد النبطية فيها، ووجود المدافن والنقوش التي تشير إلى مجتمع مستقر مارس حياته الدينية والاقتصادية؛ إذ إنها تقع على الخط التجاري النبطي المار عبر وادي الحسا باتجاه الشمال، ولأن الأنباط قد أقرنوا مصائرهم وشؤون حياتهم المختلفة بالتجارة، فقد حرصوا على بناء معابدهم بالقرب من الطرق التجارية، وربما كان ذلك من أجل أن تبارك الآلهة تجارتهم، أو من أجل أن يقوم التجار العابرون من هذه الطرق، بتأدية شعائرهم الدينية فيها، وهو كذلك ما يقوم به أفراد المجتمع القاطنين بالقرب منها”.
وفي موقع آخر تشير الباحث المواجدة إلى الاستيطان الديني في ذات رأس ويقارنها بمواقع نبطية أخرى حيث يقول: “ويمكن مقارنة الاستيطان الديني النبطي في ذات رأس، بالاستيطان النبطي في خربة الذريح على وادي اللعبان في وادي الحسا، وذلك لأن كلا المعبدين في الموقعين السابقين يرتبطان بكثافة سكانية قريبة منهما، حيث دعت الحاجة لبنائهما من أجل إرضاء الآلهة وإقامة الشعائر الدينية فيهما، والحفاظ على تجارتهم المارة بالقرب منهما. وهذا يتناقض مع معبد خربة التنور الذي بني بسبب قدسية المكان الذي لا تتوفر به الظروف المناسبة للسكان والتي كان من أهمها توفر مصادر المياه، مما دعا القائمين على خدمة المعبد لجلبها له من أسفل وادي الحسا”.

دفاتر الطابو

وحول ورود ذات رأس في الوثائق العثمانية، يمكن إيراد ما وثقه الباحث المهدي عيد الرواضية، في “مدونة النصوص الجغرافية لمدن الأردن وقراه” حيث يشير الى ذات رأس بأنها “كانت مزرعة إلى جانب القرية المعروفة باسم (راس)- ثم أصبح اسم المزرعة يطلق على القرية.وردت في دفتر الطابو رقم 970 : مزرعة ذات راس تابع ناحية الكرك، خالية من المحصول. وفي دفتر الطابو رقم 185: مزرعة ذو راس تابع ناحية الكرك، من خواص أمير لواء الكرك والشوبك، حاصلها مائة وخمسون آقجة).

سيرة قرية ذات رأس

تقع ذات رأس إلى الجنوب الشرقي من المزار في الكرك، على مسافة 10 كم، وهي تتبع إلى لواء المزار الجنوبي، في محافظة الكرك، وتقع ضمن حدود بلدية مؤاب الكبرى.

الديموغرافيا

يبلغ عدد سكان ذات حوالي 2882 نسمة (1484 ذكور و 1398 إناث)، يشكلون 513 أسرة تقيم في 625 مسكنا، ويعملون في الزراعة، والوظائف الحكومية.

التربية والتعليم

توجد في قرية ذات رأس المدارس التالية: مدرسة ذات رأس الثانوية للذكور، ومدرسة ذات رأس الثانوية للإناث، ومدرسة ذات رأس الإعدادية للذكور، ومدرسة ذات رأس الإعدادية للإناث، ومدرسة شقيرة الغربية الأساسية المختلطة، ومدرسة شقيرة الشرقية الأساسية المختلطة.

الصحة

يوجد في القرية مركز صحي أولي.

المجتمع المدني: يوجد في القرية المؤسسات التطوعية التالية: جمعية العينه التعاونية الزراعية، وجمعية ذات رأس الخيرية، وجمعية شقيرة الشرقية الخيرية، وجمعية شقيرة الغربية الخيرية، وجمعية الامتياز الخيرية، وجمعية شقيرة الغربية التعاونية، وجمعية شقيرة الوسطى التعاونية، وجمعية شقيرة الشرقية التعاونية، وجمعية دار القرآن الكريم، ونادي ذات رأس الرياضي.


ذات رأس.. ذاكـــرة الأنبـــــاط (3-3)



مفلح العدوان - لهم التحية..
هؤلاء المقيمون هناك، في «ذات رأس»، الذين تأبى عيونهم إلا أن تكون أهدابها حرزا للمكان الذي يقطنونه، وتبقى قلوبهم تنبض انتماءً للتراب الذي هم على ثراه يتقنون الحياة نبض محبة، ومواثيق طيبة.
لهم التحية..
ها أنا ضيفا عليهم، أطرق أبواب ذاكرة القرية، فيجيبني صوت قصيد يردد قصصا وحكايات قديمة، فأنصت أكثر، وأردد وراء الشاعر هامسا، كأنني أريد التمعن في مشكاة روح الأهل هناك:
«يا عيال ما بيكم نعيمات
يجلو صدى القلب وهمومه
وين الولد راعي الشومات
نصّار يالّلي تعرفونه
وين اخو بسمه ربيع الظيف
طبّاخ سمنه ربيع وصيف».
وما ان أكملت همس القصيد، حتى هشّت القرية ترحيبا بي، وكأني نطقت بالعنوان الذي يجمع أهل ذات رأس؛ طيبة، وأصالة، ومحبة، وحسن مقام.

حمدان

قلت، وقد كان هذا الترحاب الدافئ القريب من القلب، أبدأ بالسؤال عن حمدان الهواري، كان قد توفي وهو في ريعان الشباب، وكان سياسيا، صاحب رأي، وكان يحمل في دمائه نبض الأرض، وعنفوان السماء، ولذا فعندما دخلت القرية، ورأيت في باحة المسجد فيها قبرا، خمّنت أنه قبر حمدان الهواري، لكن من رافقني قال لي بأن هذا قبر سليمان موسى رشيد الهواري، رجل الاقتصاد المعروف، الذي يجلّه كل أهل القرية، ويتذكرونه بالخير.
بقي في خاطري معرفة قبر حمدان الهواري الذي عرفت عنه، ولم ألتقه، لكن سيرته الوطنية عرفت كثيرا من تفاصيلها، ولذا فحين أخذتنا دروب الحكايات وأنا أتتبعها مع كبار أهل القرية، أشاروا في أحاديثهم إلى أن قبر ارشود الهواري ، وهو من أوائل المحامين والقانونيين في عمان، وابنه حمدان السياسي والمناضل، موجودان تحت نخلة واحدة، في دار ارشود في القرية.
هنا توقفت قليلا، هي لحظة صمت، وحزن، فيها تذكرت ما كتبه الشاعر حبيب الزيودي عن حمدان، الذي كان في السجن، ثم خرج منه، وبعد ذلك أصيب بمرض وتوفي.. آنذاك كانت رياح التسعينات تهب، وتلوّح بآفاق الديمقراطية، حينها قال حبيب الزيودي قصيدة حمدان، وداعية لحمدان الهواري الذي لوّح لرفاقه مودعا، وميمما وجهه شطر البعيد من بوابة ذات رأس، ليلقي عصا ترحاله، ومسير حياته، بين أشجار الطيبة، وتراب الكرامة فيها.

الخريطة الاجتماعية

أفتح المخطوط الاجتماعي لقرية ذات رأس..
أرصد بعض ما كتب عن أهل القرية، وخريطتها الاجتماعية، حيث يشير الباحث نايف النوايسة في كتابه السجل المصور للواجهات المعمارية التراثية في الأردن/الكرك، في حديثه عن الجانب الاجتماعي في قرية ذات رأس بأنه «يقوم التركيب العشائري في ذات رأس على القبيلة الأم (النعيمات) التي يعرّف بها سكان ذات رأس والعينا وشقيرا الشرقية والغربية، وأصل هذه القبيلة من منطقة الشراه، ولا أستبعد أنها وثيقة الصلة بنعيمات الشراة. وتنقسم هذه ا لقبيلة إلى العشائر التالية: الجعافرة، الهواورة، الرواشدة، والعواسا، والعبادلة، والبريكات، الشلوح، الحريزات».
كما يذكر بيتر جوبسر في كتابه السياسة والتغير في الكرك، حول استقرار النعيمات في هذه المنطقة، موضحا ذلك في ملحق أسماء القبائل وقرى اقامتها، مبينا أن النعيمات يقيمون في ذات رأس، والعينا، وشقيرا.
وفي الفصل الثاني من الكتاب، يلقي بيتر جوبسر الضوء على بنية المجتمع السياسي التقليدي، حيث يصنف النعيمات، وبعض القبائل الأخرى تحت مسمى «شبه البدو»، ويقول في مطلع هذا العنوان الفرعي: «تعيش خمس قبائل في أقصى شمال المنطقة وجنوبها، وهم: بنو حميدة، والعمرو في الشمال، والنعيمات، والخرشة، والبطوش في الجنوب. وهذه اليوم شبه مستقرة، ولكن قبل الفترة المعاصرة كانوا شبه بدو». وهؤلاء ومعهم بعض القبائل الأخرى، يعدها جوبسر بحوالي 15 قبيلة، يضعهم خلال تصنفياته في مخطط أحلاف الكرك القبلية، تحت عنوان «المحايدون»، بعيدا عن حلف الشراقا، وحلف الغرابا في الكرك.

منطقة العينا

ويستمر البوح في سياق الأبعاد الاجتماعية للقرية حيث يتحدث كل من الحاج مصطفى محمد الهواري (أبو سليمان)، والحاج محمد موسى الهواري (أبو خالد)، حول التوزيعات في مناطق ذات رأس بأنه في «شقيره الشرقية يوجد البريكات، وفي شقيرة الوسطى هناك الجعافرة، والتلعة السمره أرض العبادلة، وفي شقيرة الغربية في جعافرة وعبادلة، وكل العائلات موجودة بالمناطق في ذات راس وموجودين كلهم عيلة واحدة في القرية... أما بالنسبة للنعيمات، فيقال انه اجو من الخليل في فلسطين للشوبك، وهناك، في الشوبك والجنوب، صارت حرب، وكان في غزو بهذاك الزمان، فخرج بعض النعيمات، هذول اللي جو لهالمنطقة، هذول نعيماتنا اجو وفاتوا على منطقة العينا، وكان في هذه المنطقة اللي فارض قوته العمرو، فجاء العمري، وسألهم عن حالهم، فاخبروه عن اللي صار معهم، وقام وأعطاهم منطقة الماء، وأعطاهم لحدود النجاصه، مغاريب مؤته..».

عيون الماء

وعندما يتم المرور على منطقة العينا، تنفتح هناك سيرة الزراعة، والماء، والينابيع، وتكون وجهة أيد الأهل كلها هناك تشير إلى منطقة العينا، حيث المزارع هناك، وحيث عيون الماء، والبساتين، والينابيع التي تجاور سيل الحسا، وهنا يشار إلى عين اليهودية التي تسمى الآن الهاشمية، وعين الافلات، وعين المغيسل، وعين أبو عايشة.

الأراضي الأميرية

هناك توسع، وتزايد في نمو أعداد السكان في ذات رأس، وهنا نوجه البوح باتجاه الإحصائيات، والأرقام لمعرفة مدى التوسع، والتقدم في القرية خلال عشر سنوات من عمرها، إذ تشير الإحصاءات السكانية إلى أنه كان عدد سكان القرية في عام 1994م 4432 نسمة، ارتفع إلى 5904 نسمة في عام 2004م، هذا بحسب ما ورد في دراسة الأبعاد السكانية في لواء المزار الجنوبي، والتي أعدتها الباحثة سناء ضيف الله الجعافرة، كرسالة ماجستير في قسم الجغرافية في جامعة مؤتة، وهي في دراستها هذه تشير إلى أن معدل النمو السكاني في ذات رأس بلغ 2.9% خلال العشر سنوات بين 1994م و 2004م، وتتوقع الدراسة بحسب هذا النمو أن يكون عدد السكان في عام 2014م حوالي 890نسمة.
وتضيف الباحثة سناء الجعافرة بأن الكثافة السكانية في ذات رأس هي من أدنى مستويات الكثافة العامة في لواء المزار الجنوبي، ويعزى السبب في ذلك لاتساع المساحة التي تعود إلى أن معظم الأراضي في مناطق القرية ترجع ملكيتها إلى الدولة (الأراضي الأميرية)، وهي ما خفضت من الكثافة السكانية في القرية، وهذا الحال يلاحظه المتنقل في أرجاء ذات رأس أيضا من كثرة المناطق الأثرية فيها، في مساحات داخل القرية المأهولة، وحولها، وفي أطرافها.
أما بخصوص الكثافة الزراعية لقرية ذات رأس فقد قامت الباحثة بحسابها من قسمة مجموع السكان في عام 2004م على مساحة الأراضي الزراعية في القرية (تقدر بحوالي 103ر74 وهي من أعلى المساحات الزراعية في لواء المزار الجنوبي)، وكانت الكثافة الزراعية هنا 80 نسمة لكل كيلو متر مربع.

التعليم

وبخصوص التعليم، فيشير كبار القرية إلى واحدة من الشخصيات في ذات رأس كان لها الأثر الأكبر في بناء أول مدرسة فيها، وهو حمدان الهواري الأول (أبو رشود)، ويحددوه بحوالي الأعوام 1953م والعام 1954م، قائلين بأنه «سوّى مدرسه على حسابه، من ثلاث غرف، وراح لوزارة التربية، وجابوا للمدرسة معلم مقيم، يدرس للابتدائي، وبعدين توسعت المدرسة، واجوها معلمين، وزاد عدد الطلاب».
وفق هذه البدايات للتعليم في القرية، يمكن طرح واقع التعليم خلال السنوات الأخيرة في ذات رأس حيث تبين ذلك الباحثة سناء الجعافرة في دراسة إحصائية حول عدد المدارس، والهيئة التدريسية، والطلاب، في عام 1994م، وعام 2004م، ومعدل النمو الذي تحصل خلال عشر سنوات، حيث كان عدد المدارس في عام 1994م سبع مدارس، بينما كان في عام 2004 ثمان مدارس، ويتوقع أن تصبح في عام 2014 تسع مدارس وفق معدل نمو المدارس في ذات رأس هو 1.3%، بينما كان عدد الهيئات التعليمية في عام 1994م في ذات رأس 80 وزاد في عام 2004م الى 103، بمعدل نمو 2.5%، حيث يتوقع وفق هذا المعدل أن يرتفع أعضاء الهيئات التعليمية الى 132 في عام 2014م. وبخصوص عدد الطلبة، فقد كان تعدادهم في ذات رأس في عام 1994م 1250 طالبا وطالبة، ارتفع في عام 2004م الى 1462 بمعدل نمو مقداره 1.2%، ليكون العدد المتوقع في عام 2014م 1588 طالبا وطالبة في مدارس القرية.


تعليقات

‏قال غير معرف…
يا سلام ... جمال الوصف يكفي