حسين خريس.. الرومانسي الأخير

حسين خريس.. الرومانسي الأخير



د.جمال مقابلة - أخيراً ترجّل الفارس النبيل الشاعر د.حسين رشيد خريس (1931-2011)، ابن إربد البار، وابن الأردن المغترب عنه زمناً، وابن العروبة الوفيّ، حسين خريس الإنسان، الرومانسي الأخير الذي نذر نفسه بلبلاً غرّيداً للحب والجمال، كما نذر نفسه شاعراً صادقاً في التعبير عن قضايا وطنه وأمته العربيّة.
تبدأ مسيرة هذا الأديب الشاعر من إربد، حيث المولد في نهاية الثلث الأوّل من القرن العشرين، يتعلّم في الكتّاب حتّى يختم القرآن الكريم، ثم يلتحق بالمدارس الحكوميّة، فيدرس في مدرسة السلط الثانويّة، ولمّا كان آخر صف فيها آنذاك هو الرابع الثانوي يكون عليه أن يتوجّه إلى مصر، وإلى أعرق مدرسة فيها، وهي المدرسة الخديويّة؛ لينال الخامس الثانويّ (التوجيهيّ) هناك، ثمّ يلتحق بكليّة الآداب في جامعة القاهرة، فيحصل على الليسانس في الأدب العربيّ، ويدرّس اللغة العربيّة في مدارس مصر لسنة واحدة. بعد حصوله على تلك الدرجة، يدخل مسابقة للتوظيف في الجامعة العربيّة؛ فيفوز بتلك الوظيفة التي لا يغادرها إلاّ متقاعداً منها، برتبة مستشار أوّل، بعد أكثر من ثلاثين سنة، ليعود للاستقرار في بلده الأردن.
وجد خريس بغيته في ذلك المكان "بيت العرب"، فمكث في مصر، حيث مقرّ الجامعة العربيّة، ردحاً من الزمن، ما جعله يغنّي لمصر أرضاً وشعباً ومعالم وأعلاماً وشواهد أجمل أشعاره، ودرر قصائده، وما يزال يغريه حبّها، ويحدوه وفاؤه لها، حتّى جمع فيها مجموعته "لمصر أغنّي" التي غنّى فيها أجمل القصائد في طه حسين والعقّاد وزكي مبارك وأمّ كلثوم وفريد الأطرش الذي قال في حفل تأبينه سنة 1975:
"يا جَريحَ الفؤادِ مَا لِفُؤَادِي
فيكَ حُكْمٌ مِنْ بَعْدِ حُكْمِ العَوادِي
قَدَرٌ غَالَ حُبَّنَا فَتَأَمَّلْ
كَيْفَ أَمْسَى الوِدَادُ غيرَ وِدَادِ
كُلُّ شَيْءٍ إِذا اسْتَوى فِي كَمَالٍ
وَتَرَاءَى فِي وَفْرَةٍ وازْدِيَادِ
وَأَلِفْنَا بَقَاءَهُ وَرَجَونَا
مِنْهُ عَوناً مَا صَاحَ فِينَا مُنَادِي
ضَاعَ مِنَّا كَأَنّهُ كَانَ طَيْفاً
أَوْ خَيَالاً يَرُوغُ مِنْ غَيْرِ هَادِي"
كما خلّد الأشعار في بورسعيد وقنا والسويس والنيل والقنال، وفي بطولات الشعب المصريّ، فدلًل فيه على وفائه لهذا الوطن من أوطان العروبة، كما دلًل على مشاعره القوميّة السامية. كذلك غنّى لفلسطين والعراق وليبيا وسوريا ولبنان علاوة على بلده الأردن الذي أكثر من حنينه إليه، فقال:
"جادَكَ الأُرْدُنُّ حُبّاً وَغَرَامَا
أَيُّهَا القَلْبُ الذي يَرْعَى الذمَامَا
لم تزل أشواقه في خاطري
لَهْفَةً حَرَّى وَوَجْداً وُهُيَامَا
هَا هُنَا دَارُ هَوَانَا فَانْتَسِبْ
إنَّهُ الأُرْدُنُّ يُهْدِيكَ السَلامَا
وَطَنٌ مَا شِئْتَ مِنْ آلائِه
عُرْوَةٌ وُثْقَى وَبِالعَهْدِ اعْتِصَامَا".
كما غنّى لتونس -حين انتقل للعمل فيها مع الجامعة العربيّة-، وبقي متشبّثاً بوحدة العرب في جامعتهم رغم جميع الأزمات والصعاب والانكسارات.
لُحّنت غير قليل من قصائد خريس وأنشدت، وكان لبعض مطربات تونس أنّ وفين له فغنّين من قصائده أجمل الأغنيات، وذلك لأنّ القارئ يحسّ لدى قراءة شعره أن الشعر إنّما وجد أصلاً ليغنّى، وقد صدّق قرّاؤه هذا الإحساس حين غنّوا قصائده تلك وأنشدوها في تونس ومصر وفلسطين، ولعلّ موسيقى شعر هذا الشاعر تستحقّ دراسة تفرد لها؛ لبراعته الفائقة في التلوين الإيقاعيّ الثريّ فيها. يقول في قصيدة "نعمة الحب":
"لا تَقُولِي اسْتَعْبَدَ القَلْبُ هَوَانَا
نَحْنُ لَوْلا الحُبُّ لَمْ نُخْلَقْ كِلَانَا
لا ولا كُنَّا دُعَاءً فِي صَلاةٍ
رَدَّدَتْهَا فِي خُشُوعٍ شَفَتَانَا
إِنَّهُ الحُبُّ الذي صَيَّرَنَا
مُهْجَةً حَرَّى وَوَجداً وَحَنَانَا
إِنَّهُ الحُبُّ الذي صَيَّرَنَا
أَوْلِيَاءَ العِشْقِ وَاللهُ هَدَانَا".
ويقول في قصيدة "وجدانيات":
"وُجْدَانُ...
يَا وُجْدَانُ
يَا بَسْمَةَ الرَبِيعِ فِي شِتَائِي
وَدَفْقَةَ الحَيَاةِ فِي دِمَائِي
يَا ضَجَّةَ الأَفْرَاحِ فِي شَبَابِي
وَأَرْوَعَ السُطُورِ فِي كِتَابِي
يَا صَحْوَةَ الأَحْلَامِ فِي جَنَانِي
وَأَجْمَلَ الوَجُودِ فِي وُجْدَانِي".
ويقول في "قَسَم الثوار":
"نَحْنُ أَقْسَمْنَا وَجَدَّدْنَا اليَمِينَا
فَاحْفَظُوا العَهْدَ رِجَالاً وَبَنِينَا
وَاشْهَدُوا عَنَّا وَكُونُوا مُؤْمِنِينَا
قَدْ تَخِذْنَا مِنْ فِلِسْطِينَ العَرِينَا
وَمَلَكْنَاهَا فَكُنَّا مَالِكِينَا
تِلْكَ بُشْرَى غَدِنَا صَارَتْ يَقِينَا".
بقي خريس متعلقاً بوطنه الأردن، وعاشقاً لمدينته إربد، فكتب فيها مطوّلته الشعريّة "إربد مدينتي الجميلة: غنائيّة شعريّة في حبّ الوطن"، على امتداد مجموعة تنوف على المائة صفحة، عبّر فيها عن حنينه إلى إربد، ووفائه لها، وكان رغم غربته الجسديّة، حاضراً فيها، وشاهداً على مآسيها ومآسي قراها، فخلّد ذكرى مصاب بلدة "كفر أسد"، إحدى قراها الآمنة التي هاجمتها طائرات العدو الصهيونيّ العام 1968 موقعة بمواطنيها أفدح الخسائر من الشهداء الأبرياء، فكتب قصيدته الطويلة "كفر أسد؛ من ملحمة صمود الشعب الأردني في وجه العدوان".
وبالأسلوب نفسه رثى الشهداء الليبيّين حين كتب "الضحايا فوق سيناء" عشيّة سقوط الطائرة الليبيّة بنيران العدوّ الصهيونيّ المجرم العام 1973، ومطلعها:
"ضَحَايَا.. لا أَقُولُ هُمُ الضحَايَا
وَلَكِنَّ الكَرَامَةَ وَالسَجَايَا
هُمَا الذِّبْحُ الكَبِيرُ غَدَاةَ نَادَى
بِفِلْذَاتٍ لَنَا دَاعِي المَنَايَا
ضَحَايَا نَحْنُ.. مَا عِشْنَا نُوَارِي
دُمُوعَ الوَهْنِ.. تَقْتُلُنَا الرَزَايَا
ضَحَايَا نَحْنُ.. مَا دُمْنَا رَضِينَا
بِأَنْ نَبْقَى عَلَى رَغْمٍ ضَحَايَا".
هذه المطوّلات الشعريّة وغيرها -مع ثلاثيّته عن العراق وبغداد: "رسالة إلى ليلى المريضة في العراق" التي أهداها إلى صديقه زكي مبارك في ذكراه المئويّة الأولى مستعيراً لهذه المجموعة عنوان أحد كتب مبارك الشهيرة، و"رسالة إلى ليلى الأسيرة في بغداد" وأبياتها 464 بيتاً، وأخيراً مطوّلته التي لم يتممها وعنوانها "رسالة إلى ليلى الغريبة في بغداد" التي كتب بعض أبياتها الأخيرة يوم الاثنين 15/8/2011، أي قبل وفاته بيومين اثنين- شكّلت محاولة جاهدة من الشاعر لتأسيس شعر ملحميّ بحسب الكاتب عبد الفتاح الباروديّ الذي كان كتب سلسلة مقالات نقديّة عن شعر خريس في صحيفة "الأخبار" المصريّة سنة 1974 عنون إحداها بـ"نحو شعر ملحميّ"، ولعلّ الشاعر الناقد حسين خريس كان يحسّ بضرورة استنبات مثل هذا الفنّ الشعريّ في ثقافتنا العربيّة، بما امتلك من رهافة حسّ الشاعر أوّلاً، وثقافة الناقد ووعيه أخيراً.
مزج شاعرنا عشقه للمرأة بعشقه للمدائن بعشقه لأمته العربية من دون أي فصل في حرارة ذلك العشق، فبقي هذا الشيخ المسن فتى نابض القلب بالحبّ والعطاء متأبّياً على الشيخوخة أن تنال من عشقه للمرأة، أو من عشقه لأمّته وهي تعيش أسوأ حالاتها في تاريخها الحديث. ولعلّه قد عرف سرّ ذلك الشباب حين أبقى نفسه طريّة للهوى، وروحه نديّة أمام مشاعر الحب الرومانسيّ الجارف، فهو شاعر وجدانيّ بكلّ معاني الكلمة، وهو محافظ على تراث الرومانسيّة، بوصفه واحداً من جماعة "أبولّو" الشعريّة القلائل الذين ظلّوا مخلصين لخطّها الوجدانيّ الشفيف.
كانت تجربته الأولى "حكاية وجدان" نموذجاً لشعره الصافي، ولقصائده التي تحكي لوعة حبّه لوجدان المرأة والقيمة ووجده بها؛ فقال في مطلع "الوجدان الجديد":
"وَحَقِّ عَيْنَيْكِ عِنْدِي الشعْرُ وَالخَبَرُ
وَعِنْدِي الحُبُّ وَالآلامُ وَالعِبَرُ
وَعِنْدِي القَلْبُ مَا زَالتْ خَوَاطِرُهُ
إذَا تَثُورُ تَغَنَّى الخَمْرُ وَالزهَرُ
مَا زَالَ خَلْفَ غُيُومِ البُؤْسِ بِي قَبَسٌ
وَتَحْتَ ذَاكَ الرمَادِ النارُ تَسْثَعِرُ
فَلا يَرُعْكِ شُحُوبِي فَالهَوَى رَهَقٌ
وَالوَجْدُ إِنْ فَاضَ قَدْ يَعْيَا بِهِ البَشَرُ".
وقال في مطلع قصيدة "بلدي الحبيب":
"بَلَدِي وَحَقِّ تُرَابِكَ القُدْسِي
وَهَوَاكَ فِي يَومِي وَفِي أَمْسِي
مَا كَانَ لِي حُبٌّ سِوَاكَ وَلَمْ يَكُنْ
إِلاَّكَ فِي وَجْدِي وَفِيِ حِسِّي
أَهْوَاكَ فِي النَغَمِ الحَنُونِ يَسِيلُ فِي
قَلْبِي وَفِي رُوحِي كَمَا الهَمْسِ
أَهْوَاكَ فِي الصُبْحِ الضَحُوكِ تَبَسُّماً
وَعَلَى هَوَاكَ مَشَاعِرِي تُمْسِي
يَا أَعْذَبَ الأَلْحَانِ مَا نَاحَتْ وَمَا
غَنَّتْ بِهِ شَفَةٌ مِنَ الإِنْسِ
أَنَا وَالنُجُومُ رِفَاقُ حُبٍّ وَاحِدٍ
وَهَوَاكَ يَجْمَعُنَا مَعَ الشّمسِ".
وقد عرض الناقد كامل السوافيري هذه المجموعة وحلّلها في مجلّة "الثقافة المصريّة" 1974، وبيّن أنّ قصائد خريس توزّعت بين الشعر الذاتي والشعر القومي وبين الشعر التقليدي والشعر الحديث، فقال: "توزّعت قصائد المجموعة بين الشعر الذاتي الذي عبّر فيه الشاعر عن أحلام قلبه، وأشواق روحه، وهيامه بالحسن والحسان وتقديسه للجمال، ونزوعه للهوى والغرام، وبين الشعر القوميّ الذي عبّر فيه عن آلام أمّته وآمالها في العزّة والسؤدد ووصل الحاضر بالماضي، واستيحاء المجد الغابر". وانتقد السوافيري النهج الحديث للشاعر في بعض قصائد المجموعة، ما اضطرّ "خريس" للردّ عليه في المجلّة نفسها في ما بعد.
في العام التالي، 1975، نشر الشاعر مجموعته "سفر الخروج" بأربع مطوّلات شعريّة وصفها جميعاً بأنّها "محاولة لتطهير الذات من أوهامها وترابيّتها"، وقدّم لها بمقدّمة نقديّة لا تخلو من الطول، وقد صنع ذلك في أكثر من مجموعة، منها مجموعته "على وتر الأشواق"، وقد دلّت هذه المقدّمات على الشخصيّة الثقافيّة المركّبة لحسين خريس، الشاعر والناقد الأدبيّ والمثقّف العضويّ الذي يتمثّل فيه.
في مجال النقد الأدبيّ، كتب خريس رسالته لنيل درجة الماجستير تحت عنوان "فنّ المديح في الشعر الجاهليّ" (1969)، والأخرى للدكتوراه بعنوان "حركة الشعر العباسيّ في مجالي التقليد والتجديد بين أبي نواس ومعاصريه" نشرت في مجلّدين في عمّان سنة 1994، كما قدّم دراسة مطوّلة مع تحقيق وعرض لكتاب زكي مبارك "جناية أحمد أمين على الأدب العربي" 1973، وكتب مقدّمة ضافية لكتاب "في بيتي" لعبّاس محمود العقّاد 1972، وأخرى لقصيدة "أوراس" الطويلة للشاعر التونسيّ مصطفى الحبيب بحري 1957، وكانت له حواريّات نقديّة حول: "هل نحن قوم بلا أدب؟"، مع الأديب اللبنانيّ أديب مروّة على صفحات مجلة "الأديب" اللبنانيّة في العامين 1956-1957.
وكتب عدداً كبيراً من المقالات والأبحاث الأدبيّة والفكريّة والثقافيّة العامّة في المجلاّت والصحف، وشارك في الندوات والمؤتمرات العربيّة والدوليّة، من ذلك مثلاً:
- بين العروبة والإسلام، مجلّة "شؤون عربيّة"، 1981.
- نحو فلكلور عربيّ رياضيّ، مجلة "شؤون عربيّة"، 1982.
- التيار العروبيّ في كتابات زكي مبارك، مجلّة "الهلال" المصريّة، 1992.
- مع شياطين الشعر ومعاينات الشعراء، مجلّة "الدوحة" القطريّة، 1977.
- حول لغة الشعر الحديث، مجلّة "الأديب" اللبنانيّة، 1956.
- حول ترجمة الأدب الفصيح إلى اللهجة الدارجة، مجلّة "المصور" المصريّة، 1968.
- حول مفهوم الثقافة وهمومها، استفتاء نشر في مجلّة "الفكر" التونسيّة، 1956.
- زكي مبارك بين معاناة الفنان وشقاء الإنسان، كتاب "المؤتمر العلميّ الأوّل"، جامعة أسيوط/ فرع سوهاج، 1988.
- عشق الكتاب بين العقّاد وغيره من الأدباء والكتّاب، كتاب "العقّاد في ذكراه المئويّة" أسوان، 1989.
- الإسلام والفلسفة والعلوم، بحث قدّم للندوة الدوليّة المنعقدة في باريس، 1981.
- الحضارة العربيّة بين الأصالة والتجديد، بحث قدّم للندوة المنعقدة في بيروت، 1975.
ونشر خريس مقالات عديدة في صحف "الرأي" الأردنيّة و"الصباح" التونسيّة و"الشرق الأوسط" السعوديّة، وغيرها كثير.
على صعيد آخر، حظيت أعمال خريس -على الأخص أشعاره منها- بعناية فائقة لدى عدد من النقاد والكتّاب الذين عرضوا لها في مواطن عديدة، فقد قدّم د.مصطفى الشكعة لمجموعة "لمصر أغنّي"، ووصفه يعقوب شيحا بـ"شاعر الحب والوطن"، ورأى فيه وفي أشعاره "إطراقة فيلسوف يطيل التأمّل في النفس البشريّة.. حتّى استطاع أن يجد صوته وصوت فكره ونبض قلبه وصوت إحساسه.. مجتمعة هذه الأصوات في بوح عشق يستشرف الأرض والأنثى والوعي"، وهو إلى جانب ذلك -كما يراه- "عاشق عربيّ أصيل المحتد يتفاعل مع آلام أمّته".
وحين كتب وديع فلسطين -عضو مجمعي اللغة العربية في عمّان ودمشق- عن مجموعة "ذكريات العهود الجميلة" قال فيه: "ألفيته حقيقاً بأن يقال له شعر كلامه حلو، ومعانيه قريبة المجال، وموسيقاه لا تعرف النشاز، وحكاياته تستأثر بالإعجاب، ومحوره هو الحب الذي ألهم الشعراء منذ ما كان شعر، يقبل القارئ على قراءته في جو تتراءى فيه الرومانسيّة الحالمة، وتتراقص فيه الرائحات والغاديات بين قلب متيّم وقلوب صرعها الهوى... أدهشنا منه أيضاً أنّه لم يكرّر معانيه أو يحصر ذاته في مفردات محدودة تتردّد في طول القصائد وعرضها، فمعجمه بحمد الله زاخر، ولديه استعداد وموهبة لأن يقف على الحبّ موسوعة تُزري بموسوعة مجنون ليلى". وحقّاً فقد قال خريس:
"فَكَمْ عَلَى وَتَرِ الأَشْوَاقِ قَدْ رَحَلَتْ
مِنِّي شُجُونٌ وَجَاءَتْ مِنْكِ أَشْجَانُ
لَوْ أَنَّ مَجْنُونَ لَيْلَى كَانَ شَاهِدَنَا
مَادَتْ بِأَحْلاَمِهِ بِيدٌ وَرُكْبَانُ
لَوْ أَنَّ نَجْمَ سُهَيْلٍ كَانَ يَرْمُقُنَا
ذَابَتْ حُشَاشَتُهُ وَالقَلْبُ نَشْوَانُ".
وكان عصام الشنطي -المستشار السابق في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم- عني بشعر شاعرنا وقدم دراستين عن مجموعتيه "ذكريات العهود الجميلة" و"إربد مدينتي الجميلة"، فقال عن الأولى "هذه هي المجموعة بشعرها الناصع، ذي الروح الشفافة، والرؤية الإنسانيّة الصادقة، والموسيقيّة الواضحة التي تذكر بموسيقيّة البحتري وابن زيدون... وقد خلت المجموعة من الغموض والرؤية الضبابيّة، وظلّت بعيداً عن الرمزيّة المغرقة في التعقيد والإبهام". أمّا دراسته عن المجموعة الثانية فقد جاءت موفية بالغرض، ومفصحة عن طبيعة هذه المجموعة/القصيدة من حيث العناصر والصور والخصائص الفنّيّة والبنائيّة العامّة، وقد نشرت في مجلة "اليرموك" الصادرة عن جامعة اليرموك في العام 1997.
وعني بالكتابة عن شعر حسين خريس آخرون منهم: المنجي الكعبيّ ومحمد أحمد القابسيّ من تونس، ومحمّد عبد المنعم خفاجي ومختار الوكيل وحسني سيد لبيب وحسن عبد الرسول من مصر، وعثمان محمد مليباري من السعوديّة، وعيسى الناعوري ومحمد مصالحة ومحمود مهيدات وعبد الرؤوف التلّ وإبراهيم نصر الله من الأردن.
جدير أن نذكر أنّه كُتب عن هذا الشاعر أكثر من ثلاث رسائل جامعيّة في مصر والأردنّ، كانت إحداها في جامعة الأزهر، وثانية في جامعة عين شمس في القاهرة، وأنجزت الباحثة آلاء الزيوت في الجامعة الهاشميّة رسالتها للماجستير في شعره دراسة فنّيّة وموضوعيّة سنة 2009، وهناك رسائل جامعيّة أخرى في طريقها للإعداد عن شعره ونقده في أكثر من جامعة عربيّة. ونذكر كذلك أنّه ترجمت غير قصيدة من قصائده إلى لغات أجنبيّة، فقد ترجم المستشرق الألماني ولفرد مادلنج قصيدة "إليها" من مجموعة "حكاية وجدان" إلى اللغة الألمانيّة سنة 1962 ونشرها في هامبورج، كما ترجم د.أسعد دوراكوفيتش قصيدة "بعد عام" من المجموعة نفسها إلى اللغة الروسيّة، ضمن كتابه "الشعر الأردنيّ المعاصر، مختارات" سنة 1972.
لقد آليت على نفسي أن أعرّف بالشاعر د.حسين خريس في هذا المقام، وأنا أردد مع (المرحوم) حسن التل أنّ قامة مثل قامة شاعرنا الكبير لم تلق عناية من الحركة الأدبيّة ومن المؤسّسات الإعلاميّة -في بلدها الأردنّ- ما تستحقّ من الاهتمام، فبقيت غائبة أو مغيّبة لسنوات وسنوات، وعليه فهل نعاتب تلك المؤسّسات، أم نتّهمها بالتقصير؟ أم ترانا نلوم الشاعر -رحمه الله- الذي لم يُجِد يوماً لعبة الدخول في المجاملات أو الشلل الأدبيّة والثقافيّة لتسويق أدبه الصادق الجادّ؟
لكن، إحقاقاً للحق فقد جاءت ساعة من ساعات إنصاف شاعرنا الكبير في حياته قبل أربع سنوات حين صدرت أعماله الشعرية الكاملة، بمباركة اللجنة العليا للاحتفال بإربد مدينة الثقافة للعام 2007، فقد كرّمت عروس الشمال شاعرها في الزمان الذي كُرِّمت هي فيه.


تعليقات