حنا القسوس.. طبيب أردني تقاسمته الأمكنة فزرعها بالحياة

حنا القسوس.. طبيب أردني تقاسمته الأمكنة فزرعها بالحياة



هزاع البراري - لم يكن حنا القسوس أول طبيب أردني أكاديمي وحسب، مسجلاً بذلك ريادته الفريدة في هذا المجال النادر حينها، بل كان مناضلاً، وعسكرياً مقاتلاً من طراز خاص، فقد نهبته جبهات القتال البعيدة غير مرة، فأبلى فيها بلاءً حسناً، مثلما كان لافتاً ومتميزاً في تلقيه العلم، ومكابدته في سبيل ذلك مصاعب قد يصعب علينا تخيلها في أيامنا هذه، عندما عانت البلاد العربية في الحقبة العثمانية، من ندرة المدارس وصعوبة الوصول إليها، لكن حنا القسوس تخطى في سبيل تحقيق حلمه شبه المستحيل، كل العوائق والمشاق التي كانت واحدة منها كفيلة بتقويض حلمه، لكنه أثبت من خلال سيرة حياته المدهشة، قدرته غير العادية على تحول العقبات إلى محطات عبور إلى مشارف الحلم والمستقبل، وقد نتج ذلك كله عن إيمانه العميق بقدراته، ويقينه أن العمل الجاد والصبر على الشدائد كفيلان بتحقيق المراد مهما كان مستحيلاً.
أطل حنا سلمان القسوس على الدنيا، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حيث ولد عام 1885م، وكانت الكرك مسقط رأسه، وهي على خط التماس مع ما تشهده المنطقة من تحولات، وسط ظهور الأفكار القومية، في مواجهة السياسة العنصرية في أواخر العهد العثماني، وكان والده دائم التنقل بحكم عمله، مما طبع حياته بعدم الاستقرار، وتأثير محطات الشتات على طفولته وشبابه حتى بديات الاكتهال، لذا كان عليه مغادرة الكرك في طفولته المبكرة، حيث أضطر للسفر مع عائلته إلى القدس، التي لم يكن يفصلها فاصل عن مدن شرق الأردن، ولم يتجاوز عمره حينها السنتين، فكانت نشأته في رحاب هذه المدينة المقدسة، وبعثر جزء من شقاوة طفولته في حاراتها القديمة، وقد أتاحت له فرصة التعلم، حيث كان نصيب القدس من المدرس أكبر من المدن الأخرى، نظراً لمكانتها لدى المسلمين والمسيحيين، فلقد التحق بالمدرسة الابتدائية، وقد برز تفوقه في التحصيل الدراسي منذ خطواته الأولى في المدرسة، حتى تمكن من إنهاء المرحلة الابتدائية التي تشمل أيضاً المرحلة الإعدادية، ليتقدم بعد ذلك لإكمال المرحلة الثانوية، وكان خلال تقدمه في الدراسة يكشف عن ذكاء لافت، وسرعة بديهة جعلته في مقدمة الطلبة المتميزين دائماً.
عرف حنا القسوس بسرعة في التعلم، وقد برز ذلك من خلال إتقانه للغة الفرنسية، عندما تلقى دروساً في الفرنسية في طبريا، عندما ارتحل إليها مع عمه من القدس، وكانت الأماكن المتناثرة تتقاسم أيامه دون أن يخطط لذالك، فلقد وصل بعد ذلك إلى بيروت، تحديداً عام 1901م، حيث بادر عندها بالالتحاق بمدرسة الحكمة لفترة من الزمن، أنتقل بعدها إلى مدرسة عينطورة في العام 1904م، حيث أكمل دراسته الثانوية، وكان خلال هذه المرحلة واسع الاطلاع، يقرأ بأكثر من لغة، وقد تمكن من بناء أحلامه الشخصية، لذا فقد خطى بعد ذلك خطوة واسعة اتجاه حلمه الذي صار أقرب إليه من أي وقت مضى، حيث التحق بالمكتب الطبي الفرنسي في بيروت عام 1906م، ليكون أول طالب طب أردني، في مرحلة التجهيل المقصود من قبل الدولة العثمانية، ولم يتراجع مستواه في التحصيل العلمي، خلال دراسته الطب في هذه المعهد الفرنسي، الذي يعد رائداً في المنطقة العربية تحت الحكم العثماني.
حصل حنا القسوس على شهادته الأكاديمية في الطب، عندما تخرج من المكتب الفرنسي عام 1910م، أي أصبح أول طبيب أردني في العام الذي نهض فيه أهله في الكرك، بثورة دامية ضد ممارسات الدولة التركية اتجاه الرعايا العرب، ولأنه كان يسعى لإتقان مهنته كعادته في كل شيء يتصدى له، فقد سافر إلى فرنسا حيث تمكن من الحصول على تدريب في جامعة السوربون العريقة، بعد هذه الفرصة الذهبية التي قلما يحصل على مثيلتها أحد أبناء المنطقة في تلك الفترة، التحق بالمستشفى الألماني في القدس، لفترة تدريبية أخرى، مكنته من صقل قدراته العلمية والعملية، حتى أصبح طبيباً ذائع الصيت، تميز عمله بالإتقان والتجديد، حيث عمل طبيباً ممارساً وجراحاً ناجحاً في أكثر من مستشفى في باريس، بعد ذلك تم تعيينه طبيباً في الجيش المصري، برتبة ملازم أول، وكان ذلك عام 1912م، وقد ربطته هذه الخطوة بالجيش، في أكثر من منطقة، نظراً للظروف العسكرية المتأججة التي اجتاحت العالم والشرق الأوسط، وانتقل للعمل في مدينة الخرطوم السودانية.(محمد أبو زبيد، الأطباء الكتّاب في الأردن في القرن العشرين)
أثناء حرب الدولة العثمانية في البلقان، تم تجنيد حنا القسوس ضمن الجيش العثماني، خلال فترة التجنيد الإجباري، ودفع به مع عدد من الشباب العرب إلى جبهة القتال المستعرة، حيث واجهوا ظروفاً قاسية يصعب تحملها، وقد خاض غمار هذه التجربة بجلد وصبر كبيرين، عاد بعدها إلى القاهرة عام 1913م، وقام بتأسيس عيادته الخاصة، لكنه سرعان ما شد الرحال صوب مسقط رأسه الكرك، فعمل على افتتاح عيادة خاصة لخدمة أبناء الكرك ومحيطها، لكن الظروف الصعبة وعدم توفر الأدوات والعلاجات دفعه للذاهب إلى دمشق، لكن القدر لم يكن لصالحه هذه المرة، حيث كان له نشاط سياسي قومي، مما أوقعه في قبضة عسكر الأتراك، الذين حاكموه عرفياً، وأودعوه السجن، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى، والضغط العسكري على الدولة العثمانية، دفعها للإفراج عنه، وتجنيده في الخدمة العسكرية، للإفادة من علمه وعمله، وقد تنقل خلال عمله في الجيش العثماني في هذه الفترة بين مناطق كثيرة، منها أريحا والسلط، ومن ثم وصل إلى الحفير في سناء، التي شهدت معارك طاحنة بين الجيشين العثماني والبريطاني، وخدم أيضاً في مناطق أخرى كالقدس ونابلس ورام الله والناصرة.
بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، واجتاحت البلاد العربية سلسلة من الأحداث والتحولات، التي أخذت تغير وجه المنطقة برمتها، عمل الطبيب حنا القسوس في مستشفى الناصرة في فلسطين لفترة من الوقت، وعندما توجت الثورة العربية الكبرى انتصاراتها، بتأسيس الحكومة العربية في سوريا الطبيعية، وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً عليها، توجه الطبيب حنا إلى عاصمة الدولة العربية دمشق، حيث قام بافتتاح عيادة خاصة، مارس فيها المهنة التي جاهد من أجلها طوال حياته، لكن المؤامرة الغربية كانت ضد إرادة العرب، فسقطت الحكومة العربية بعد معركة ميسلون الشهيرة، التي دارت بين الجيش العربي والجيش الفرنسي، الذي انتصر بفضل تفوقه في العدد والعدة، ونتج عن ذلك ضياع الحلم العربي، ودخول المنطقة في مرحلة جديدة من النضال والمقاومة، وقد اضطر حنا القسوس لترك دمشق والعودة إلى الكرك، وقد اتسمت حياته بالترحال والتنقل المستمر، الذي يبدو أنه لن يتوقف عند حد.
وصل إلى عمّان بعيد تأسيس أمارة شرق الأردن، على يد الأمير عبد الله بن الحسين عام 1921م، وقد زار خلال هذا العام القدس التي كانت في متناول البصر، بعد ذلك انتقل مع عائلته إلى منطقة أريحا، حيث يذكر أنه هرب منها نتيجة الانتداب البريطاني، بواسطة قارب عبر به البحر الميت، ومن ثم سار باتجاه الكرك، لكنه عاد للقدس وأقام فيها، حتى دعي إلى عمان بعد تعيينه من قبل الحكومة الأردنية، حيث أنيط به مهمة تأسيس المستشفى الحكومي في عمان عام 1922م، وقد عمل كطبيب وجراح في المستشفى البلدي في عمان، لفترة من الزمن، انتقل بعدها إلى مدينة مادبا، حيث عين في مستشفى المدينة، واستمر ممارساً لعمله كطبيب فيها حتى العام 1928م، فلقد نقل بعدها إلى مستشفى جرش الحكومي، نهض بمهامه فيه حتى نقل إلى عجلون عام 1936م، من أجل الإفادة من خبرته في هذا المجال، وتدريب الكوادر الطبية حديثة النشأة، وكان عدم الاستقرار والتنقل المستمر، السمة التي لازمته طويلاً.
وقد توفيت زوجته عام 1938م، فرغب بالتقاعد فكان من حقه، لكنه دعي للعمل العام عندما تم تعيينه وزيراً للتجارة والزراعة عام 1943م، ونظراً لريادته في مجال الطب، وتقديراً لخدماته الكبيرة في هذا المجال، منحة الأمير عبد الله بن الحسين لقب « باشا « وبعد خروجه من الحكومة أصبح رئيساً للجمعية الخيرية الأرثوذكسية، وقد كان له نشاط في مجال التوعية الصحية من خلال عدد كبير من المقالات التي نشرت في عدد من الصحف، ونشرت في كتاب تحت عنوان « كلمات صحية وفوائد طبية « الذي صدر في دمشق عام 1924م، وقد كتب مذكراته الشخصية، التي أرخت لمفاصل هامة في حياته المثيرة للدهشة، ونال لقاء تميزه وتفانيه في العمل عدد من الأوسمة منها وسام الشجاعة التركي، ووسام الاستقلال من الدرجة الأولى، كما حاز على وسام القبر المقدس، ووسام من الحكومة اليونانية، وفي عام 1953م توفي الطيب الأول حنا القسوس، بعد أن قدم للوطن وللبلاد العربية سنوات عمره، علما وعملاً ونضالاً عسكرياً، فكان رجلاً فريداً يبقى في الذاكرة الحية خالداً لا ينسى أبداً.
hbarari54@hotmail.com

تعليقات