نجيب القسوس: بذر الأرض بسنابل الشعر والعمل المخلص


نجيب القسوس: بذر الأرض بسنابل الشعر والعمل المخلص



هزاع البراري - ينتمي الشاعر نجيب سليمان القسوس، إلى جيل الكبار الذين كان لهم أثر كبير في بناء الوجدان الأمة ورسم معالم الهوية الثقافية للأردن الحديث، فبالرغم مجاورة إمارة شرق الأردن، لحواضر ثقافية كبيرة رائدة كبغداد ودمشق وبيروت والقاهرة، إلا إنها وبفضل الرواد من أمثال القسوس، استطاعت أن تنتزع مكانتها الثقافية المتميزة، وأن تتمكن من إجتراح خصوصيتها، المستمدة من انتمائها للأمة العربية، وعمق حضارتها الإنسانية، ولعل ندرة المدارس والمعاهد العلمية إبان الحقبة العثمانية في هذه المنطقة، قياساً لحواضر الأخرى، قد ترك آثاره السلبية على البلاد، لكن أصالة مبدعيها وحساسية مثقفيها، جعلتهم في مواجهة ناجحة مع الظروف القاسية، وتحويلها إلى عامل مستنفر للهمم والمواهب، لذا فأن نتاج الجيل المؤسس كان فاعلاً في تحريك الساحة المحلية، بنتاج كانت له القوة التغيرية على نطاق أوسع مما هو عليه حال النتاج الإبداعي الثقافي هذه الأيام، وسط تراجع القراءة، واستشراء الثقافة الاستهلاكية.
كان للمكان صداه القوي في حياة الشاعر نجيب القسوس، فلقد عاشت الكرك في داخله وعششت في إبداعه، فهي مسقط الرأس مربى الطفولة والشباب، والملاذ الأخير، وهي منطلق الأحداث الجسام، منذ فجر التاريخ، لم تكن يوماً بلداً هامشياً بل فاعلاً ومتفاعلا،ً مع كل ما يجري من حراك سياسي وعسكري مؤثر، فنجد أن الكرك المدينة والناس والتاريخ العميق، قد شكلت حضورها القوي في شعره ونثره، وكلما ابتعد عنها جاهد من أجل العودة إليها، فلق ولد القسوس على قمة شاهق الكرك في عام 1926م، أي بعيد تأسيس إمارة شرق الأردن، وعلى مقربة من سير الأحداث، التي بدأت بثورة الكرك ضد ممارسات عسكر الأتراك عام 1910م، ومن ثم خط تقدم جيش الثورة العربية منذ عام 1916م، وما تبع ذلك من تحولات غيرت المنطقة بشكل شامل، لذا فأن طفولة نجيب القسوس تتكئ على إرث حكائي غني بموروث البطولة والفداء، وقصص العشق وأساطير المكان المتنوعة.
لم تختلف طفولة نجيب القسوس عن أقرانه من أطفال الكرك، حيث كان الفقر وضيق ذات اليد، السمة الغالبة، فكان الناس سواسية، ويعد الفضاء المفتوح على عناصر الطبيعة والبساطة، مكان اللهو الوحيد، حيث يخترع الأطفال ألعابهم التي هي من صنع أناملهم الصغيرة المدبرة، من هنا نمى خيال نجيب القسوس، وتقدم نحو التأمل المنتج، وقد ترافقت هذه المرحلة مع دخوله إلى مدرسة الكرك، في فترة عانت البلاد فيها من ندرة المدارس، وقلة الطلبة الملتزمين بالمدرسة لبعدها عن متناول خطواتهم، واشتغالهم في الأعمال المختلفة من أجل مساعدة أهاليهم على مواجهة مصاعب العيش في الزمن الصعب، لكن نجيب وقف في وجه هذه التحديات، وواظب على متابعة سنواته الدراسية سنة بعد أخرى، حتى وصل إلى الثاني الثانوي القديم، أي قبل الثانوية العامة بصف واحد، حيث حالت الظروف بينه وبين إكمال دراسته، ولاشك أن هذا الواقع قد آلمه، وهو من كان من الطلبة المتميزين في التحصيل العلمي، لكنه لم يستسلم للحالة التي آلت إلها أحلامه، وإنما تمكن من تحويلها إلى عوامل دافعة نحو حياة عملية وإبداعية حافلة بالإنجاز.
شد نجيب القسوس الرحال إلى بلدة الفحيص، حيث عمل مدرساً للغة العربية في مدرسة الروم الأرثوذكس، وكان أعاد هذا العمل النبيل الثقة لنفسه، خاصة أن البلاد عانت من قلة المعلمين، مما منحه فرصة ذهبية لامتهان مهنة تحظى باحترام وتقدير المجتمع، ومكنته من التركيز أكثر على موهبته الشعرية بشكل أكثر جدية، وتعد فترة عمله وإقامته في الفحيص، فترة ذهبية في بناء شخصيته، من خلال تأكيد استقلاليته وقدرته الاعتماد على نفسه، ومن جانب آخر تمكن خلال هذه المرحلة من تكوين صداقات متينة مع عدد من الشعراء والمثقفين البارزين في تلك المرحلة، حيث جمعته بالشاعر الكبير مصطفى وهبي التل «عرار» صداق قوية، وكثيراً ما تبادلا القراءات الشعرية، ونشاء بينهما حوارات ثقافية وسياسية أسهمت في بناء الوعي الخاص بهما في هذا المجال، وكان من أصدقائه المقربين الشيخ والأديب إبراهيم القطان، والأستاذ جريس القسوس، وقد كان لهذه الصداقات أثرها الكبير في تطوير موهبة القسوس الشعرية، حيث شكلوا مع غيرهم من مجاييليهم، الجيل المثقف والمبدع الذي أعطى الباكورة الأولى من النتاج الثقافي، بعد تأسيس الأردن الحديث الذي أثرى المكتبة العربية بالكثير المتميز.
لقد أمضى الشاعر نجيب القسوس في الفحيص أربع سنوات، يقيم ويعمل، لكنه غادرها عندما شهدت حياته انعطافة غير من خلالها نمط حياته العملية، فلقد أنتسب للقوات المسلحة الأردنية، حيث دخل الجيش برتبة جندي، مفضلاً أن يخدم وطنه بأبهى الصور وأشرفها، وبعد التدريب العسكري الشاق، خدم نجيب القسوس في الخدمات الطبية العسكرية، وخلال هذه الفترة تنقل في السكن بين أكثر من منطقة بين عمان والزرقاء، بحسب موقع عمله في القوات المسلحة، وتعتبر منطقة «المحطة» في عمان الشرقية من أهم الأحياء التي أقام فيها وأثرت فيه، لأن نجيب القسوس يتعلق بالمكان كثيراً ويؤثر فيه ويتأثر به، وقد اتسمت خدمته العسكرية بالجدية والإخلاص ونظافة سجله العسكري، وتميزه في تنفيذ المهام التي أوكلت إليه، فلقد تقاعد من الجيش بعد خدمة امتدت خمسة عشر عاماً، وكان عندها برتبة وكيل.
لم ينقطع نجيب القسوس عن كتابة الشعر، بل أخلص له إخلاصه لوطنه، وعندما غادر الجيش بادر بالعودة إلى مدينته الكرك التي أحبها كما لم يحب مثلها مدينة أخرى، وفضل الإقامة فيها كما نشأ في طفولته وشبابه الباكر، وكان محباً للعمل بشكل كبير، لذا عمل سكرتير المحكمة الكنسية في الكرك، وقد كان ودوداً ومحباً لتقديم المساعدة لكل من يحتاج إليها، وقد اكتسب مودة الناس ومحبتهم بشكل ملحوظ، وقد استمر في عمله هذا فترة طويلة، حصل خلالها على خبرات عملية جديدة، ساعدته على بناء توجهات عمله الخاص فيما بعد، لقد كرس وقته للعمل والكتابة والقراءة، فعرف كشاعر وأديب وباحث في التراث، وعندما أنهى عمله في المحكمة الكنسية، افتتح مكتب خاص بالقرب من المحكمة المدنية في الكرك، قدم من خلاله الخدمات التي يحتاجها مراجعي المحكمة، من خلال كتابة الاستدعاءات القانونية، وتعبئة النماذج التي يطلبها المراجعين، وقد قربه هذا العمل من الناس، وتعرف من قرب على مشاكلهم وقضاياهم، فصار قريباً من نبض البسطاء، مما أنعكس على ما تركه لنا من آثار أدبية خالدة.
لقد بدأ نجيب القسوس كتابة الشعر منذ سن الثالثة عشرة، وأخذ بنشر قصائده مبكراً في الصحف والمجلات المتوفرة في تلك الفترة، لذا عرف كشاعر بشكل مبكر، واستمر يطور تجربته الشعرية، ويجود قصائده حتى وصل إلى مستوى فني رفيع، وضعه في مصاف الشعراء الكبار، حيث تميز شعره بالرصانة والسبك الجيد، وعرف بعذوبة الأسلوب، ورشاقة المفردة، وأصالة الشكل الفني لقصائده، لكنه لم يقتصر في كتابته على الشعر فقط، بل كتب في مجال الدراسات الأدبية، عن عدد من الشعراء كالشاعر رشيد زيد الكيلاني، بالإضافة لدراسات في فلسفة الديانة المسيحية، والنقد الأدبي والفلكلور الشعبي، وكان له نشاط في مجال إعداد عدد من البرامج التلفزيونية والإذاعية، وقد صدر له ديوان بعنوان «أغنية الفجر» الذي صدر عن وزارة الثقافة عام 1990م، كما صدر كتابه «ملامح من التراث الشعبي في محافظة الكرك» الذي أصدرته وزارة الثقافة عام 1995م، وقد كان نجيب القسوس مثالاً للمبدع المتميز والإنسان البسيط، الذي لم يغادر العمل في مرحلة من مراحل عمره، هكذا كان حتى تعبت عضلة قلبه، وأصيبت بالقصور، فتوفي هذا الشاعر الرقيق في الثاني من شهر تشرين الثاني عام 1994م، ومازال حاضراً في الذاكرة والوجدان كحضور قلعة الكرك البهية.

تعليقات