عادل أرسلان .. تقاسمت حياته الأماكن ومتاعب السياسة

عادل أرسلان .. تقاسمت حياته الأماكن ومتاعب السياسة



* هزاع البراري

شكل آل أرسلان منذ القرن الثامن عشر، حالة فريدة في الحراك السياسي والثقافي والاجتماعي، في منطقة بلاد الشام، فقد كانوا من زعماء المنطقة، الذين تميزوا بالعلم والمعرفة، والزعامة العشائرية والوطنية، وبرز منهم أدباء ومناضلون وفرسان أشداء، مما مكنهم من لعب دور كبير ومؤثر، في المنطقة العربية في شرق المتوسط، ولم يقتصر دورهم على إقليم بعينه.
تحركوا في هذه المنطقة وصولاً إلى مصر والحجاز، وعدد من الدول الغربية، وقد تميزوا بإيمانهم العميق بفكرة القومية العربية، والتي تحولت في نهايات الحكم العثماني، وما تلاه من هجمة استعمارية غربية، إلى هاجس ظهر إلى حيز الوجود من خلال جمعيات وأحزاب وحراك جماهيري، قادته النخبة المثقفة من أبناء الأمة، وقد تواجد آل أرسلان في قلب هذا الحراك، الذي بلغ مداه في خمسينيات القرن الماضي. والذي كان له دور فاعل في حركة التحرر العربية، التي نتج عنها استقلال الدول العربية من قبضة الاستعمار.
عادل أرسلان كان ممثلاً لكل هذا الإرث الكبير، حاملاً تطلعات جيل عريض من الشباب العربي المتعلم، وهو الذي تربى على التراث الأصيل، ووجد في اللغة العربية الحافظ الأول لهوية الأمة، وتكريساً لثقافتها الحديثة المتكئة على عمق تاريخي وحضاري كبيرين. فقد ولد في بيت زعامة كبير، عرف رجاله بالعلم والأدب والمكانة الرفيعة، فوالده الأمير حمود بن حسن أرسلان من أمراء جبل لبنان، وله ثلاثة أخوة هم: الأمير نسيب، والأمير المناضل العربي الكبير شكيب أرسلان، والأمير حسن، وكان لهؤلاء الأمراء حضور بارز في سير الأحداث في المنطقة بأسرها. ولد عادل أرسلان في مدينة بيروت، إبان الحكم العثماني عام 1887، وحظي بتربية تميزت بارتكازها على تراث أبناء زعماء جبل لبنان، وبإفادتها من المداس التربوية الحديثة النادرة في تلك الفترة، وهذا الواقع أسهم في إثراء شخصيته وإغنائها.
التحق عادل أرسلان خلال طفولته بمدرسة الأمريكاني في الشويفات، حيث كانت هذه المدرسة ذات شأن في تلك الفترة، فقد ضمت معلمين كبارا، مشهودا لهم بالمعرفة والثقافة، فقد تتلمذ على يد العلامة الكبير بطرس البستاني، وكان من الطلبة النجباء المحبين للغة العربية، وقد بدت عليه علامات نبوغه في الشعر الأدب منذ شبابه الباكر. بعد دراسته في مدرسة الأمريكاني، أنتقل إلى مدينة بيروت مسقط رأسه، ودرس فيها فترة من الزمن، حيث سافر بعدها إلى عاصمة الدولة العثمانية اسطنبول، وهناك كانت المعاهد والجامعات متوفرة بكثرة، مقارنة بما هو عليه الحال في المدن والمناطق العربية التابعة للدولة العثمانية، وقد أتيحت له الفرصة لإكمال دراسته، حيث التحق بكلية الحقوق والإدارة العامة. وقد فتحت له هذه الدراسة آفاقاً واسعة، وجعلته على إطلاع واسع على مجريات الأحداث في المنطقة والعالم، وهذا أبقاه على تماس مع قضايا أمته، مدركاً لشرعية مطالبها بالحرية والاستقلال.
ونظراً لمكانته الاجتماعية، ولحضوره القوي على ساحة الأحداث، ولثقافته وعلمه فقد اختير عضواً في مجلس المبعوثان العثماني، خلال الفترة من عام 1908 وعام 1912، ممثلاً لمنطقته والمناطق المحيطة، وكان من الأعضاء الذين عرفوا بالجرأة، والمطالبة بالإصلاح، وتحسين الظروف في المنطقة العربية، ومساواتها بالمناطق التركية الأخرى، كما تميز بين أعضاء مجلس المبعوثان باعتباره أصغر الأعضاء سناً، لكنه حظي بإعجاب الجميع، وقد أكسبه عمله في هذا المجلس خبرات عملية وقانونية كبيرة، مما أهله للعمل في وظائف حكومية متعددة، وقد تميز في كل وظيفة أوكلت إليه بالتفاني والإخلاص، والسعي المستمر للتطوير والتحسين، وقد عين سكرتيراً من الدرجة الأولى في ما يوازي وزارة الداخلية في ولاية سوريا، وكذلك مديراً للمهاجرين في نفس الولاية، وقد جلت منه هذه الوظائف أكثر قرباً من الناس على اختلاف مستوياتهم ومشاربهم، مما منحه شعبية كبيرة بين الناس في أكثر من مكان.
في عام 1915 تم تعينه في منطقته في جبل لبنان، حيث أصبح قائم مقام منطقة الشوف، وهكذا غدا بإمكانه خدمة أهله وأبناء منطقته بشكل مباشر، حيث يعد القائم مقام حاكماً محلياً يتمتع بسلطات لا بأس بها، وكان عادل أرسلان على تواصل دائم مع القوميين العرب منذ بدايات الفكر القومي العربي المعاصر، حيث اتصل خلال وجوده في اسطنبول مع عدد من العرب المطالبين بحقوق أمتهم، خاصة جمعية العربية الفتاة، والجمعية القحطانية، وخلال وظائفه وتنقلاته المختلفة كان على اتصال وثيق بأحرار العرب، وقد كان على علاقة مع قادة الثورة العربية الكبرى، حيث آمن بها وروج لها، ومن المناصرين الذين لم يتأخروا عن دعمها، وقد أدرك مع غيره من الأحرار ضرورة قيام العرب بثورة من أجل تحقيق مطالبهم الشرعية، فشهد نجاحات الثورة، والأحداث التي أثمرت عن قيام الحكومة العربية الفيصلية في دمشق.
شارك عادل أرسلان في الحكومة العربية، التي نادت بالأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سوريا الطبيعية، حيث عين سكرتيراً خاصاً للأمير فيصل، وبعد هذا المنصب بفترة، عين مساعداً إدارياً لرئيس الحكومة في ذلك العهد، حتى سقوطها على يد الفرنسيين عام 1920، وقد مارس نشاطاته المعارضة للوجود الفرنسي في سوريا، حيث حرض ضد الاستعمار، وشارك مع الثور في مواجهة القوات الفرنسية، فقامت القوات الأمنية التابعة لهم بملاحقته والتضييق عليه، مما اضطره لمغادرة سوريا باتجاه أوروبا، حيث مكث في سويسرا لفترة من الزمن، فأصدر الفرنسيين عليه حكماً بالإعدام غيابيا، لكنه لم يطل الإقامة في سويسرا، حيث غادرها متجهاً مصر، وبعد إقامته في القاهرة لفترة وجيزة، التحق بسمو الأمير عبد الله الأول بن الحسين في عمّان، الذي قام بتأسيس إمارة شرق الأردن.
لعب عادل أرسلان دوراً مهماً في بداية مرحلة تأسيس الدولة الأردنية، وقد وضع خبراته العلمية والإدارية بخدمة سمو الأمير ومؤسسات الإمارة الناشئة، وخلال فترة قصيرة، أصبح مقرباً من أمير البلاد، ونشأت بينهما صداقة قوية، وقد عهد إليه سمو الأمير برئاسة الديوان الأميري العالي، وكان قد تسلم هذا المنصب بعد استقالة عوني عبد الهادي. (سلطان الشياب. رؤساء الديوان الملكي الهاشمي) وقد نهض بمهام منصبه هذا، وأولى عملية تنظيم العمل في الديوان الأمير جل عنايته، من خلال ضبط السجلات، وتنظيم الأرشيف، وترسيخ قواعد إدارية حديثة، وقد بقي رئيساً للديوان حتى عام 1923، عندما نشأت خلافات بينه وبين رئيس الوزراء في تلك الفترة علي الركابي، ولم تنجح جهود الوساطة، فأقيل من منصبه هذا.
غادر عادل أرسلان البلاد على إثر إقالته متجهاً إلى مكة المكرمة، وقد أقام فيها بضيافة ملك الحجاز الشريف الحسين بن علي، وبعد تطور الأحداث في الحجاز، انتقل إلى القاهرة وبقي مقيماً فيها حتى اندلاع أحداث الثورة السورية الكبرى، الهادفة إلى تحقيق استقلال البلاد من الاستعمار الفرنسي وذلك عام 1924، فالتحق أرسلان بالثوار السوريين، وأصبح القائد الثاني للثورة التي قادها سلطان باشا الأطرش، وقاد معارك شرسة ضد الفرنسيين، في مجدل شمس وجبل الشيخ، وفي كثير من المناطق والبلدات في سهل حوران، وبعد فشل الثورة عام 1926، أضطر لمغادرة سوريا حيث غاب عنها مدة عشر سنوات، ولم يتمكن من العودة إليها إلا عام 1937، لكن الفرنسيين قاموا بترحيله إلى تركيا عام 1939، نظراً لنشاطاته السياسية المناهضة للاستعمار الفرنسي.
بعد حصول سوريا على الاستقلال عام 1946، تمكن عادل أرسلان من العودة إلى دمشق، وقد شارك في الحكومات التي تلت إعلان الاستقلال في سوريا، حيث تولى حقيبة وزارة المعارف، كما تولى حقيبة وزارة الخارجية، ومن خاض الانتخابات النيابية، وأصبح نائباً عن الجولان، ووصل إلى منصب نائب رئيس الحكومة في عهد حسني الزعيم، لكنه استقال من هذا المنصب، وتم تعيينه سفيراً لسوريا في تركيا، بعد عمله هذا قرر اعتزال العمل الرسمي، وانتقل للإقامة في بيروت، وأصبح عضواً في الأكاديمية الدبلوماسية للسياسات الدولية، وبقي محتفظاً بعضويته هذه مدة ثلاث سنوات، حتى أحيل على التقاعد عام 1954، وقد كتب خلال حياته عدداً كبيراً من القصائد، كما طبعت مذكراته في فترة لاحقة في ثلاثة مجلدات، وكان ناشطاً في مجال كتابة المقالة الصحفية، وتوفي في بيروت عام 1954 ودفن في مسقط رأسه، بعد عمر حافل بالنضال والعمل من أجل حرية وتقدم أمته العربية.

تعليقات