عبد الرحيم عمر: شاعر الترحال والصبر

عبد الرحيم عمر: شاعر الترحال والصبر



هزاع البراري - كان دائم التوق لخوض غمار المجهول، الضرب بعيدا كسندباد عصري فرض عليه الرحيل حتى وهو قابع في المكان الواحد، تأخذ الذاكرة للأرض المستلبة، ويأخذه شراع الشعر إلى فضاءات عذراء من الإبداع الشعري، الذي وضعه في مكانة أدبية لا ينازعه عليها سوى فحول الشعر وكبار الأدباء على اختلاف أزمانهم وأماكنهم، فالشاعر عبد الرحيم عمر أبن الترحال المتواصل، أنغرس في أعماقه حنين الأمكنة، وقسوة الابتعاد القسري الذي أخذه إلى بعده العربي الجريح فشكلته هذه التجارب المختلفة، وجعلت من شعره حالة متفردة محملة بأصالة الماضي العريق، غير منفصلة عن حداثة واعية في حساباتها، متميزة في نتاجها الخالد.
لم تكن فلسطين مسقط رأسه، ومربى طفولته وشبابه فقط، بل كانت رمز الحرية المغتصبة، ومستقبل المشروع العربي الوحدوي، الذي لن يتحقق والأرض المقدسة بعيدة عن متناول جباه الساجدين لله، في بيت المقدس وبيت لحم، فهذه الأرض تقف في أعماقه كشموخ جبل الكرمل وهو يتنسم عبق البحر الأبيض، وتتعمد ذاكرته بهدير النهر المقدس، فلقد ولد عبد الرحيم عمر في 14/8/ عام 1929م، أي في زمن النضال والثورات ضد المستعمر الذي أخذ أعد الأرض ليمنحها لمن لا حق له فيها، لعل مولده كشاعر جاء بمثابة بندقية جديدة تضاف لأسلحة الثوار العرب، لقد احتضنت أرض قرية جيوس مولده فهي موطن الأهل والأجداد، والتي تقع جنوب طول كرم، ورغم صعوبة الأوضاع، وتلبد السماء بسحب المؤامرات الدولية، وفقر الناس في تلك الفترة، إلا أنه تمكن من الالتحاق بمدرسة القرية معلناً بذلك انحيازه المبكر للعلم ومشاقه التي تلازم المرء حتى أقاصي العمر.
لقد انتظمت خطواته صوب المدرسة حاملاً حقيبة أحلامه العظام صوب الحياة القادمة، ودون أن يعلم أين ستأخذه خطواته اللاحقة، فكان يتقدم صوب المجهول منتصب القامة كربان متمرس. أنهى دراسته الابتدائية في مدرسة قرية جيوس، لتبدأ بعدها أولى محطات الرحيل، فلقد أنتقل إلى مدينة قلقيلية نحو عام 1940م من أجل الالتحاق بمدرستها، وهذا ما حدث لكنه أنتقل بعد ذلك إلى مدرسة طول كرم الثانوية بغية الحصول على شهادة الثانوية العامة (الاجتياز إلى التعليم العالي) وقد تمكن من تحقيق هذا الحلم فعلاً في العام 1948م، أي في عام النكبة وكأنه منذور للمراحل الصعبة والمحن الكبيرة، فعاد إلى القرية حاملاً معه سلاحه الجديد - العلم -، وكعادته في الوفاء للأهل والوطن بادر عبد الرحيم عمر بالعمل مدرساً في مدرسة القرية ربى فيها، ورعى أحلام ذويه وأحلامه كما يرعى الطائر صغاره، لكن هذا الوفي الحالم، ناداه طريق السفر إلى البلاد البكر في ذلك الحين، فحمل حقيبة الرحيل لطويل.
أحط الرحال في أرض الكويت في مفتتح العام 1952م، معلماً في مدارسها، وكان العمل في التدريس الأحب إلى نفسه، فهو الميدان الذي يسهم فيه ببناء وجدان الأجيال، ويشارك في تأصيل فلسفة الأمة في فترة بالغة الحساسية والخطورة، لقد أسهم في النهضة الشاملة التي شهدتها إمارة الكويت في مرحلة ما بعد اكتشاف النفط، حيث استمر في العمل في هذا البلد قرابة السبع سنوات، فلقد حزم حقائبه من جديد جاء إلى الأردن مغيراً مسار حياته، فعمل في الإعلام بدل التدريس، وهذا العمل الجديد جاء متسقاً مع الروح المبدعة، التي تفتقت منذ الطفولة وأيام الشباب الباكر، وهنا اختلف إيقاع الحياة فغدت الأردن الوطن الحاضر، والمستقر الذي سيمنحه الأمان والمكانة اللائقة، حيث غدت فلسطين على مرمى البصر، فلقد كانت الضفة الغربية متحدة مع الأردن في تلاحم لم يقطعه احتلال إسرائيل لما تبقى من أرض فلسطين عام 1967م، وقد أصبحت الإذاعة الأردنية منذ عاد من الكويت بيته الأول، حيث أنظم إليها عاملاً فيها في الإعداد والتقديم، وكانت له بصمته الخاصة في هذا المجال، حتى أنه أصبح من رجال الإعلام المؤثرين عندما كانت الإذاعات تأخذ مكانتها دون منافسة.
ونظراً لما حققه الشاعر الشاب حينها عبد الرحيم عمر من موقع مرموق في الإذاعة الأردنية، أصبح رئيساً للقسم الثقافي فيها، وذلك عام 1964م، وقد أسهمت هذه الفترة بوضعه بقوة على الساحة الثقافية المحلية كشاعر وإعلامي كبير، لذا غادر الإذاعة ليصبح رئيساً لتحرير مجلة أفكار المعروفة والتي مازالت تصدر بانتظام حتى اللحظة، وكان ذلك كان الشاعر عبد الرحيم عمر متميزاً في عمله لا يقبل بأقل من الإخلاص والفرادة منذ كان طالباً ومعلماً ومن ثم إعلامياً متمرساً، حيث أهلته خبراته ومنجزاته الوظيفية والإبداعية، ليصبح مديراً لإذاعة المملكة الأردنية الهاشمية عام 1970م، وهذا أكد على الثقة الكبيرة التي كان يتمتع بها الشاعر الكبير، فكان تقدمه الوظيفي سريعا نسبياً، متماشياً مع تقدمة الثقافي كشاعر، فلقد تم استدعاؤه ليتولى منصب مدير عام دائرة الثقافة والفنون عام 1971م، وهي أعلى مؤسسة ثقافية في الأردن والتي كانت تقوم بعمل وزارة الثقافة قبل أنشائها، وكان وجوده على رأس هذه المؤسسة مكسبا كبيرا للساحة الثقافية المحلية، وهي المرحلة التي أسست لكل ما وصلنا إليه من مكانة متقدمة في مجال الإدارة الثقافية والإعلامية، التي أنجبت كتابا وإعلاميين نهضوا بالحركتين الثقافية والإعلامية في الأردن والبلاد العربية المستفيدة من الكوادر الأردنية المدربة والمبدعة.
عام 1966م، حيث كانت تصدر عن دائرة الثقافة والفنون حينها وتصدرها اليوم وزارة الثقافة، لقد عمل على رئاسة تحرير المجلة حتى العام 1967م، وكانت هذه فرصة لكي يقدم خبرة في الأدب والإعلام للمجلة الناشئة، ولكي يوسع من جهة أخرى علاقاته بالوسط الثقافي المحلي والعربي، ويقدم نفسه كشاعر لا يشق له غبار، وبعد أنهى عمل في مجلة أفكار، عاد إلى بيته الذي أحب وأعطى، عاد إلى الإذاعة من جديد، ليصبح هذه المرة مساعدا لمدير الإذاعة الأردنية.
لقد كان هاجسه الأول الارتقاء بحال الثقافة وبأحوال المثقفين والكتاب بخاصة، فنشط في مجال الحراك النقابي، حيث أثمرت هذه الجهود المشتركة مع عدد من الكتاب والأدباء في تأسيس رابطة الكتاب الأردنيين عام 1974م، وهي الخطوة التي أسهمت في إيجاد كيان نقابي يجمع الكتاب ويحمي مصالحهم ويصون حقوقهم، حتى غدت الرابطة اليوم رائدة المؤسسات الثقافية الفاعلة حتى اليوم وقد ازدادت مكانتها مع الأيام، صارت ما هي عليه اليوم، ولم تقف جهود هذا الأديب الأصيل عند هذا الحد، فلقد تسلم رئاسة رابطة الكتاب لأكثر من دورة، كانت من أهم مراحل ازدهار الرابطة.
لم تقف جهود عبد الرحيم عمر عند حد وهو المتجدد دوماً، والناشط بفعالية أنما وجد، فلقد كان من بين مجموعة من رجالات الوطن ومثقفي الذين أسهموا في تأسيس جريدة الرأي التي أصبحت من أهم الصحف اليومية الأردنية، وكان أحد كتابها باستمرار، وقد خصص له عامود تحت عنوان (أقول كلمة)، وقد أكد حضوره الشعري والثقافي بمشاركته بفعالية كبيرة في العديد من الأنشطة والبرامج القافية المحلية والعربية، وكان يتمتع بحضور قوي في مهرجانات الشعر والمؤتمرات العربية، وعلى الصعيد المحلي كان رئيساً للجنة الشعر في مهرجان جرش المعروف، وأسهم في إضفاء الصبغة الثقافية على هذا المهرجان.
أما على الجانب الآخر فقد أنشغل في القضية الأهم والتي تشغل بال كل مثقف بل كل إنسان، وهي قضية الحريات والمرتبطة حكماً بالحياة الديمقراطية، وكان له في هذا المجال نشاط واضح تكلل من خلال مشاركته في اللجنة التأسيسية لمركز الحريات والديمقراطية، مرسخاً يقين المبدعين بأن الرقي الثقافي والحضاري مرتهن بمدى تمتع الشعوب بالحرية والعلم، لذا حاول المشاركة والإسهام في غير مجال ذات صلة بالتعليم والثقافة والإعلام، الحقوق النقابية، ومراكز الحريات المرتبطة بالحياة المدنية المتطورة.
ترك لنا الشاعر المثقف عبد الرحيم عمر عدداً كبيراً من المؤلفات التي لم تقتصر على الشعر، فلقد صدر له الدواوين الشعرية التالية: (أغنيات للصمت) 1963م، (من قبل من بعد) 1970م، (قصائد مؤرقة) 1979م، (أغاني الرحيل السابع) 1985م، (تيه ونار) 1993م، (بعد كل ذلك) 1997، وقد كتب الشاعر عبد الرحيم عمر عدداً من المسرحيات الشعرية، صدر بعضها في كتب وبضها لم يصدر بعد منها : (حوريات القصر)،(تل العرايس)،(طريق الآلام)،(خالدة)،(كلمات لن تموت)،(آباء وأبناء)،(اليسار والصهيونية)،(عرار)،(الثائرة)،(وجه بملايين العيون)، وقد ترك لنا عددا من المخطوطات المتنوعة التي لا شك ستأخذ مكانها في المكتبة العربية حال نشرها في الوقت المناسب، وهذه دعوة لقراءة هذا الشاعر من جديد وإعادة نشر نتاجه كاملاً، بما يليق بمبدع كبير، كما هو عبد الرحيم عمر.
لقد عاش حياة حافلة بالعطاء والتميز نال خلالها الاحترام والتقدير، حيث حاز على وسام الاستقلال من الدرجة الأولى، كما حاز على جائزة الدولة التقديرية للآداب، وجائزة عرار للشعر، لكنه غادرنا بشموخ الأرض والتاريخ والذكرى، مؤكداً على رحيله غير المنتهي حتى بعد وفاته في 12/9/1993م، في غربة جديدة فرضها المرض حيث فارقته الروح في مدينة الضباب والغربة لندن، وكأنما الترحال والغربة هما القدر الذي لاحقه ولاحقنا حتى وفي لحظات الاستقرار فالشاعر لا يستقر أبداً، ولا يغادر الذاكرة مهما تراكمت الأحداث والسنوات العجاف.

تعليقات