المغطس مسكون بصوت الحق هذا المكان_ المغطس: رسالة السماء.. أبجدية الماء!! (2) لمفلح العدوان

صورة
كتابة وتصوير: مفلح العدوان - مليء بمعنى الثمر الطيب، للشجر الطيب، بدءا من أول قطرة ماء استقرت فيه، وليس انتهاء بدعوة يوحنا المعمدان، عند كل تعميد أن :
(أثمروا ثمرا يليق بالتوبة، ولا يخطر لكم أن تقولوا في نفوسكم أن أبانا إبراهيم ، لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم، ها أن الفأس وضعت على أصل الشجرة، فكل شجرة لا تثمرثمرة جيدة تقطع وتلقى في النار..).
ومنذ تلك الثمرة، ما زال الصوت يحضر عند كل خلجة نفس، مكملا تعميد كل من أتاه : (أنا أعمدكم بالماء للتوبة، وأما الذي يأتي بعدي فهو اقوي مني، وأنا لا أستحق أن أحمل حذاءه ، وهو يعمدكم بالروح القدس والنار) .

عبر الأردن
ياه.. سلاما يا سادة النقاء.. سلاما أيها السيد المسيح الذي بشّر بك من هذا المغطس، يوحنا المعمدان، هو يحيى بن زكريا، ساكن هذا الموقع، عبر الأردن، الذي وهب الماء فيه معنى ارتفع بدلالاته درجات عن فيزياء السيولة، وكيمياء التحول.. صار للماء دورة أخرى.. وجه آخر، يتجمل بمعاني القداسة، وبدلالات التعميد، وبتداعيات الطهارة ،وبتجليات النقاء.. كل هذا يأتي ترجمانا علويا، مشفوعا بأبجدية الماء، ومقترنا بحلول المخلص، وببدء عهد نور جديد.

شرق النهر
مرة أخرى، أطأ ثرى المكان..
ها رعشة ترتفع بالجسد نحو الأعالي ، كأن الهواء متخم بتراتيل الكهان.. وها هي هيبة.. رهبة.. مهابة.. صمت لا يوازيه إلا جلال الماء حين يحتضن التراب، وأنا أجوس المكان منصتا، ولكل تفاصيله أصغي، فأسمع همس السر يتفتّق من ثغر القداسة الناضجة هنا، أصغي أكثر، فينسل نحو سويداء القلب، وبؤرة الروح، بوح ناموس البشارة: (أنا سرّة الأرض، وموقع السر فيها، مرجعا، وجلالا، وبؤرة عمّاد لا ينتهي ..).
مرة أخرى، ها أنا في المغطس، على الضفة الشرقية من نهر الأردن، جئت لأتعمد بماء المعرفة الأعمق بالمكان، وتاريخه، ودلالاته، بعد أن خرجت من عمان متجها غربا نحو 50 كيلومترا، لأصل هناك في منطقة الكفرين، في الأغوار الوسطى، إلى المغطس، على النهر المقدس، نهر الأردن، في موقع تفصله عن البحر الميت مسافة 8 كيلومترات.
وصلت هناك، وكانت رؤية المكان هي الأمنية بعد سنوات من الغياب عنه، وهناك التقيت مدير المغطس المهندس ضياء المدني، ومساعده المهندس رستم مكجيان، ورافقني في جولتي في كل مرافق المغطس الأستاذ عبد العزيز قفطان العدوان المسؤول الإداري في المغطس.

بيت عنيا
مهيبا كل شيء هنا..
وها أنا أمشي مع دليلي في دروب المحبة، والسكينة، وصوت شفيف يصلني قائلا أهلا بك بالأرض المقدسة، وصوت آخر يؤكد «هذا جرى في بيت عنيا، في ما وراء نهر الأردن، حيث كان يوحنا يعمد»، وها أنا في تلك الأماكن التي رسمتها أحرف الكتاب المقدس، وتجسدت هنا؛ النهر أمامي، وأرض التعميد حولي، وكأني أعيش تلك اللحظة، وأنا أقرأ في إنجيل متى؛ (حين تعمد المسيح، صعد من الماء في الحال، وإذا السموات قد انفتحت له، ورأى روح الله هابطا ونازلا عليه كأنه حمامة. وإذا صوت من السموات يقول: «هذا ابني الحبيب، الذي به سُررت كل السرور»).

درج.. وعمود.. وصليب
أريد أن أعرف أكثر..
أستعيد وأنا أمشي مع هالة القداسة، ما كنت قرأت حول المكان، وهنا أتذكر بعض الإشارات، للمغطس، فيما كتبه الأقدمون، وأستعيد نتفا من شكل الموقع، كما كان قبل مئات السنين، وأستحضر ذاك الوصف لموقع العماد، كما دونه الرحالة ثيودوسيوس سنة 530 ميلادي قائلا: «على بعد خمسة أميال شمال البحر الميت، وفي موقع عماد المسيح، هناك عمود رخامي عليه صليب من الحديد. وفي نفس الموقع توجد كنيسة يوحنا المعمدان التي بناها الامبراطور انستايوس، هذه الكنيسة مبنية على أعمدة لحمايتها من فيضان النهر».
أما الرحالة أنطونينوس من مدينة بياتشينزا، فقد وصف الموقع، في سنة 570 ميلادي بقوله: «على ضفة النهر، في الموقع الذي تعمد فيه السيد المسيح، درج من الرخام يقودك إلى الأسفل باتجاه المياه..».
كما أنه في عام 580 ميلادي كتب أركولفوس من فرنسا، معلومات قيّمة عن موقع المغطس، ورد فيها بأنه «على حفة النهر كنيسة مربعة الشكل مبنية كما يقال في الموقع الذي ترك فيه رداء المسيح عندما تعمّد. وهذه الكنيسة مرتفعة على أربعة عقود برميلية فوق مياه النهر المتدفقة..».
وقد ورد ذكر موقع عماد المسيح لدى أبو فداء في كتاب «تقويم البلدان»، وفيه يشير بأنه «على بعد أربعة أميال من أريحا مشرقاً نهر الأردن، ويزعم النصارى أن المسيح تعمّد في ذلك الموقع، وعنده مقالع الكبريت، وليس بفلسطين معدن غيره».
وفي كتاب نهر الأردن والبحر الميت للكابتن وليم لينش أثناء رحلته الاستكشافية في المنطقة، سنة 1848م، يشير قائلا: «وبعد مسافة وصلنا إلى (المشرع) وهو الموضع الذي يغطس الحجاج المسيحيون في مائه. وبادرت إلى الاستحمام في الماء، وأنا أشكر الله الذي منحنى هذه المنة الغالية».

الخارطة الفسيفسائية
كثير من تلك التفاصيل، والأحاديث التي وردت عن موقع المغطس، يشير اليها المطران سليم الصائغ في كتابه «الآثار المسيحية في الأردن»، ولعل فيها دمج، وتلخيص، لحكاية تكوين المكان، ويمكن توثيقها على هذا النحو، بأنه «في أواخر القرن الخامس، أراد الامبراطور انسطازيوس الأول (491-518م) أن يخلّد ذكرى عمّاد السيد ا لمسيح في نهر الأردن، فبنى كنيسة على ضفة النهر الشرقية فوق أقواس كي تبقى الكنيسة في مأمن من فيضانات النهر في موسم الشتاء وذوبان ثلوج جبل الشيخ، وكان درج يصل الكنيسة بماء النهر حيث كان ينزل الحجاج ويستحمون أحيانا، ويحملون معهم من ماء النهر إلى بلادهم تيمنا. بنى كذلك عمودا يعلوه صليب في منتصف النهر. واهتم أيضا الامبراطور يوستيانوس (527-565م) بهذه الكنيسة فقام بترميمها. وبالقرب من هذه الكنيسة كانت تنبثق من جهة النهر الشرقية، ساقية تنساب حوالي ثلاثة كيلومترات بين التلال قبل أن تعود وتصب في النهر الذي خرجت منه. بالقرب من هذا الجدول صوّرت خارطة مأدبا الفسيفسائية، شرقي النهر، دائرة يجري الماء منها، وهي تشير إلى دير أُسس هنا، وفي وادي الخرار، سنة 500 ميلادي، إكراما لصعود النبي ايليا وليوحنا المعمدان.. وجدير بالذكر أن خارطة مادبا الفسيفسائية قد اعتبرت أن هذا المكان هو بيت عنيا عبر الأردن. وقد ذكر أحد الرحالة قصة أول راهب سكن ذلك المكان فتوجه اليه الكثيرون، وعاشوا معه حياة الزهد والتقوى، وحولوا المغارة التي سكنها الراهب في بادىء الأمر إلى كنيسة، وذكر أيضا أن اسم المكان سبسفا، وقد تمكن حضرة الأب ميشيل بيتشيريللو، عالم الآثار والفسيفساء الفرنسيسكاني، من العثور على آثار الدير في 11/8/1995م بالقرب من نبع وادي الخرار..».

الثالوث المقدس
وتفيد المعاينة المباشرة للمكان، بأنه يمكن حاليا مشاهدة القاعدتين الشماليتين للكنيسة التي وصفها اركولفوس، كما تم اكتشاف بقايا القاعدتين الجنوبيتين وهناك عمل على ترميمهما. وهنالك يوجد حوض تعميد مصلّب الشكل استخدم من قبل الحجاج، وهو الوحيد في العالم الذي استخدمت فيه مياه نهر الأردن الجارية للتعميد فيه.
وقد تم العثور على بقايا أثرية هامة أخرى في الموقع، وهي عبارة عن كنيستين كبيرتين بنيتا على أنقاض كنيسة يوحنا المعمدان، وهما فريدتان من نوعهما حيث لهما بوابة من الشرق توصل من خلال الدرج الرخامي باتجاه حوض التعميد المصلب الذي استخدمت فيه مياه نهر الأردن للتعميد، والذي يعلوه كنيسة الرداء.
وذكر ابيفانوس بعد حوالي مئة سنة من اركولفوس، كنيسة كبيرة، هي كنيسة الثالوث المقدس، مبنية على بعد ميل واحد إلى الغرب من دير يوحنا المعمدان.
وتشير نشرة هيئة موقع المغطس إلى أنه بعد دمار الكنائس الأربع التي تم الإشارة لها، أقيم مصلى على بقايا القاعدة الشمالية الغربية لكنيسة الرداء، فكتب رئيس دير اسمه دانيال سنة 1106 ميلادي أنه «يقع الموقع الذي تعمد فيه السيد المسيح على بعد رمية حجر من نهر الأردن، هناك مصلى صغير له حنية صغيرة، في هذه البقعة عمد يوحنا المعمدان السيد المسيح».
ويمكن استكمال قصة المغطس بالحديث عن توالي بناء الكنائس على ضفة النهر، والآن تتوالى الجهود لبناء مزيد من الكنائس، بحيث يكون هذا الموقع مركزا لكثير من كنائس العالم، استكمالا لما كان سابقا من حيث أنه في الفترة ما بين القرن الخامس الميلادي وحتى القرن الثاني عشر الميلادي في استخدام الموقع، والبناء الديني فيه، ليكون مركزا للتعايش المسيحي الإسلامي في الأردن، وهذا نهج مستمر حتى وقتنا الحاضر.

المغطس: رسالة السماء.. أبجدية الماء!! (2)






صورة
كتابة وتصوير: مفلح العدوان


أفتح كتاب نبضه..
أقرأ ما سطر من حرف فيه، وأستعيد ما نهب منه، فأملأ دلو لهفتي من بئر مزاره، وأستنير بمشكاة توقي سابرا غور أسراره.. أرى تجاعيد وجه الرمال..
وأرى فوانيس ماء تنثر قداستها بوجه المتطهرين.. أنا بعض هذا المكان ..
أنا هويته التي غابت عنه ذا ت زمان.
أعرف المغطس .. أعرف الماء الوارد له، والدم النازف منه.. وأُفَرّق بمجهر النقاء بين لون الدفلى، ووهم السراب.
هو المغطس.. ذاكرة نديّة، وروح قداسة، ومقام توبة، وهو توق ٌمشرع على فسيفساء الايمان.. المغطس.. باق هنا، كأن الحرف عقد العهد على حفظ كل الأسماء المنسوبة لارث هذا المكان، مرة يسموه بيت عيرة، وحينا ينادونه بيت عينيا، وأخرى ينعتوه بيثاني، وكلها عنوان لذات البرية، المذكورة في الكتاب.. هي واحدة وان تعددت اسماؤها شرق النهر،حيث مركزها المغطس على الضفة هناك.
مبارك هذا المكان.. منه تبدأ مواكب الحج، والحب، والتبشير بالبهجة على الأرض، وبالتسامح بين البشر أجمعين.. اللهم.. آمين..

من هنا مرّت القوافل
يشير المطران سليم الصائغ في كتابه «الآثار المسيحية في الأردن»، إلى المغطس، بعد أن يمر على قداسة نهر الأردن، ومعناه، والأحداث التي ارتبطت بهذا النهر، وهو في هذا السياق يقول: «الأردن –ويعني المنحدر- يجري في أعمق وادي على الأرض. وقد ورد ذكره مرارا في الكتاب المقدس. فيشوع قاد الشعب وعبر الأردن قبالة أريحا (سفر يشوع 3/16)، وفي زمن تمرد ابشالوم، فرَّ داؤد عبر الأردن (سفر صموئيل الثاني 17/22) إلى محنائيم، وعبره ايليا واليشاع النبيان (سفر الملوك الثاني 2/8-9)، وقد طلب اليشاع النبي من نعمان السوري أن يغتسل في نهر الأردن سبع مرات كي يشفى من برصه (سفر الملوك الثاني 5/14). وعندما ظهر يوحنا المعمدان على ضفاف نهر الأردن توافدت اليه الجموع (من اورشليم وجميع اليهودية وناحية الأردن كلها، فيعتمدون عن يده في نهر الأردن معترفين بخطاياهم) (الإنجيل كما رواه متى 3/5-6)، وكان بين هذه الجموع المتعطش إلى كلمة الله، والفضولي، والفريسي، والمتشامخ بكبريائه، والصدوقي صاحب النفوذ الكبير، وجموع كثيرة من الناس الذين كان رؤساؤهم يحتقرونهم، لأنهم كانوا يعتبرونهم خطاة بينما كانوا يعتبرون أنفسهم صديقين».
ويضيق المطران سليم الصائغ بأنه قد «ذكر مرقس الانجيلي أن السيد المسيح جاء من ناصرة الجليل، واعتمد على يد يوحنا في نهر الأردن (الإنجيل كما رواه مرقس 1/9)، وبينما هو خارج من الماء انطلق صوت من السماء يقول (أنت ابني الحبيب الذي عنه رضيت). وأشار متى الانجيلي إلى ذلك حينما قال بأن يوحنا كان يُعمّد في نهر الأردن، وأنه (في ذلك الوقت ظهر يسوع وقد أتى من الجليل إلى الأردن قاصدا يوحنا ليعتمد عن يده). وقد تساءل المسيحيون منذ الأجيال الأولى: في أي مكان من نهر الأردن عُمّد يسوع. ولم يكن بالإمكان معرفة الموضع بالتحديد إلا أن التقليد المتواتر منذ قديم الزمان، ومعطيات الانجيل المقدس، يشيران إلى أمور كثيرة استنتج منها المسيحيون أن يوحنا عمّد السيد المسيح على الضفة الشرقية من نهر الأردن، عند نقطة التقاء الطريق الرومانية بالنهر. من هناك كانت تعبر القوافل الصاعدة إلى أورشليم، أو النازلة شرقا والمتوجهة إلى ليفياس ومنها إلى حسبان حيث كانت تلتقي الطريق الرومانية الرئيسية التي شقها تريانوس في المقاطعة العربية ليربط طرق التجارة من البحر الأحمر إلى البحر الأسود، انطلاقا من أيلة/ العقبة، ومرورا بالبتراء والكرك وحسبان وعمان وجرش وبصرى الشام.. الخ.».

تل الخرار
أستكمل البحث في ذاكرة المكان.. أريد أن أعرف أكثر عنه، ماضيا، وحاضرا. بي توق لأن أكتشف صورته في كل الأزمنة، وها أنا أرتحل تارة بين صفحات الكتب، وتارة أخرى ألتقي المهتمين، والمختصين، بشؤون المغطس.
الآن ألتقي مدير عام هيئة موقع المغطس المهندس ضياء المدني، ومساعده المهندس رستم مكجيان، وها هما يتحدثان لي عن قصة المغطس، وعن جوانب من سيرة المكان، وتفاصيل تاريخه، حيث يكون الحديث في جانب منه آثاري، وجانب آخر معماري، ونعرج حينا على التاريخ، وأخرى على الدين، لتكون محصلة هذا الحديث كأنه قصة تكوين جديدة للموقع، منذ بدايات النبش عنه، والتفكير بإشهاره، حيث يقولان أنه «كان أول مسح أثري للمنطقة في موقع عماد المسيح عام 1997م، وبدأت أول حفرية في الموقع في عام 1998م، وكان هناك فريق أثري يعمل على هذه الحفريات، وكان يقوده الدكتور محمد وهيب، وكانت بداية العمل في تل الخرار، أما موقع المغطس فقد كان معروف سابقا، وكانت هناك زيارات له فيما مضى، لكن الظروف كانت مهيأة في هذه الفترة للعمل، والبدء في الحفريات الأثرية، إذ أنه اكتشف على تل الخرّار بقايا دير قديم، وامتدت الحفريات غربا، ليكون هناك الكشف عن مواقع أخرى، شكلت خلال عدة سنوات ملامح موقع المغطس بالكامل».

درج المرمر
لحظة من التأمل إلآن، والتفاتة للإجابة على أسئلة من الممكن أن تطرح من قبل المهتم بمعرفة المكان، وتفاصيله، وهنا يضيف المهندس ضياء المدني، والمهندس رستم مكجيان، بعض ايضاحات حول سر هذا الموقع، ويصرحان بأن «هناك عدة نقاط تشير إلى أهمية الدير الذي اكتشف على تل الخرار، حيث أن هذا الدير بني في موقع صعود النبي الياس إلى السماء، على مركبة تجرها خيول من نار، كما ترد في الكتاب المقدس. كما أنه في الجهة الغربية من الدير هناك مغارة عاش فيها يوحنا المعمدان (النبي يحيى بن زكريا)، وقد زاره السيد المسيح في تلك المغارة عدة مرات، وقد بني حول هذه المغارة كنيسة. والأهمية الأخرى لتل الخرار وللدير هناك، هي في أنه أول دير وجد على شرق نهر الأردن، على طريق الحج المسيحي القديم من بيت لحم والقدس إلى جبل نيبو، وقد استعمل، وبقية الكنائس، بحسب وثائق الرحالة، على مدار سنوات طويلة في التاريخ، وحتى العصور الإسلامية، وخلالها، وفيها دلالة على مقدار التعايش الديني في هذه المنطقة. كما أنه في موقع عمّاد السيد المسيح، المغطس، كشفت الحفريات الأثرية، والجهود على مدار السنوات الماضية، خمس كنائس فريدة التصميم، يمكن رصدها من أقرب نقطة للنهر، على مسافة حوالي 120 مترا منه، وتلك الكنائس هي كنيسة يوحنا المعمدان التي تعود إلى القرن الخامس ميلادي، وكنيسة الرداء، والباسليكا السفلية (مكونة من ثلاثة أروقة هي الرواق الشمالي، والرواق الجنوبي، والصحن الأوسط)، وكنيسة الثالوث المقدس التي بنيت على بقايا من الكنيسة السفلية، والمصلى الصغير الذي وصفه الرحالة الروسي دانييل. وعند الإشارة إلى هذه الكنائس لا بد من ذكر ذلك الدرج من المرمر الذي يمتد من شرق الباسليكات، متجها إلى الأسفل، حيث في نهاية الدرجات، كان يعلوها كنيسة الرداء، ولعل الأهمية هنا في أنه في الموقع هذا يتشكل حوض التعميد المصلب، وهو الوحيد في العالم اجمع الذي استخدمت فيه مياه نهر الأردن للتعميد».

مجمع ديني عالمي
بعد هذا البوح حول الاكتشافات الأثرية، والأبعاد التاريخية، والدينية، لموقع المغطس، يتوقف المهندس ضياء المدني، والمهندس رستم مطجيان، عند الانشاءات الحديثة التي يتم إعمارها في المغطس، قريبا من موقع العماد، حيث أن هناك كنائس كثيرة من شتى أنحاء العالم، تسعى لأن يكون لها أديرة، وبيوت، وكنائس، في موقع المغطس، ليكون هناك مجمع ديني، يضيء درب الإيمان للعالم أجمع. هنا يقدم المهندسان المدني ومكجيان، إطلالة على الكنائس طور الإنشاء في المغطس، وهي كل من «كنيسة الروم الأرثوذكس (كنيسة يوحنا المعمدان)، وقد افتتحت عام 2003م. ودير للروم الأرثوذكس، حيث يعتبر عبارة عن مجمع ديني شامل، وقد اكتمل جزء منه حتى الآن. وكنيسة الأقباط، وهي تحت الإنشاء الآن. وكنيسة الأرمن الأرثوذكس. وكنيسة اللاتين، وهي طور الإنشاء، وقد دشنها البابا بنديكت السادس عشر في زيارته للأردن في عام 2009م. وبيت الحج الروسي، وهو جاهز ومكتمل. وهناك الكنيسة الانجيلية اللوثرية التي بدء العمل فيها منتصف شهر آذار 2012م. وقريبا سوف يتم المباشرة في كنيسة السريان الأرثوذكس. أما الكنيسة المارونية، فقد تم تخصيص 4 دونمات لإنشائها، عند زيارة بطريرك الموارنة بشارة الراعي للأردن قبل عدة أسابيع في بداية آذار 2012م». 


المغطس: رسالة السماء.. أبجدية الماء!! (3)




صورة
كتابة وتصوير: مفلح العدوان - ما زلت في المغطس.. أتهجى أحرف معانيه المباركات، وأرى تجاعيد وجه الرمال، ورذاذ ماء القداسة إذ يتطهر به المؤمنون.
ما زلت في المغطس، أسير في دروبه، ومعي دليلي الذي أرهقته بأسئلتي: يا عبد العزيز، أخبرني عن هذه الهالة التي تحيط المكان مهابة؟ يا صديقي ما هذه النباتات المنتشرة حول دروب المغطس؟ يا رفيقي، كيف تم الكشف عن كل هذا الإرث الذي كان محتجبا طوال تلك السنين الماضيات؟ ودليلي لا يتذمر من الأسئلة، ويجيب ما استطاع على تساؤلاتي، غير أنه يحيلني الى بعض المراجع، والكتابات، التي تغطي جانبا من التفاصيل التي بحاجة الى تدقيق، ومعلومة كاملة.
أتابع مع دليلي الصديق عبد العزيز قفطان العدوان، مسؤول الإدارة في موقع المغطس، ونتوقف قليلا في بعض المواقع، حيث أشار لي في إحدى تلك الاستراحات الى بعض النباتات التي تنمو في موقع المغطس مثل شجر السَلَم، وشجر الطرفة، وشجر الغرقد، وشجر الينبوت، وشجر الأراك. وفي وقفة أخرى قال من الأفضل أن تسير مشيا باتجاه بعض مواقع المغطس، حيث للدرب المحاط بالأشجار المتشابكة، والأرصفة الحجرية، وأصوات الطبيعة على فطرتها الأولى، تعطي إيحاء مختلفا حول المكان، وهذا ما كان!

«إحساس بالسكينة»
تذكرت هذا المسير على درب القداسة والمهابة، في مواجهتي المباشرة مع أصوات الطبيعة، وموسيقاها، عندما تصفحت كتاب «الأردن حبي» للكاتبة الأذربيجانية الدكتورة إلفيرا أراسلي، التي ابتدأت كتابتها عن المغطس بمقطع من قصيدة للشاعر ليبيدينسكي:
«تسحرنا مياه نهر الأردن
بقدسيتها العلمية
فيها أخذ المعمودية
يسوع على يد يوحنا
فتحت السماء قصورها
وظهر الثالوث المقدس».
وتشير الدكتورة أراسلي بعد ذلك إلى الطقس الروحي للمكان، عند الوصول إلى حافة النهر، إلى مكان التعميد، تقول في هذا السياق: «هنا تم تجهيز كل شىء ليشعر الحاج بالراحة، وفي الوقت نفسه للحفاظ على هذه الأماكن المقدسة بشكلها الأصلي. ينزل المؤمنون عن طريق الدرج إلى الشاطىء. كثيرون يرتدون دشاديش خاصة، يغطسون في المياه حتى رؤوسهم مهما كانت درجة حرارة الجو أو برودته. بعضهم يملأ زجاجات بماء النهر، ويجمع الحصى في المجرى، ليقدموها هدية للأقارب والأصدقاء، لا تلاحظ فوضى، والجميع يتحدث همسا: المكان يفرض نفسه. وبلا شك هناك إحساس عميق بالسكينة وإدراك بأن هذا النهر هو الذي غير العالم».

القديسة مريم المصرية
قبل استكمال ما تيسر مما كتبت الدكتورة أراسلي حول المغطسن وزيارتها لها، أعود إلى حكاية قديمة، لإحدى القديسات المؤمنات، التي ارتبطت حياتها بالمغطس، وتشكلت حولها قصص، وعبر، ومقولات، يلخصها الدكتور محمد عبده حتاملة، في الجزء الرابع من موسوعة الديار الأردنية، وفيها يشير إلى أنه «من أشهر الأساطير المرتبطة بالموقع (المقصود هنا موقع المغطس)، ما يخص حياة القديسة مريم المصرية، التي عاشت حياة سيئة في الإسكندرية، ولكنها تركت ذاك النوع من الحياة المليئة بالخطيئة عند زيارتها للقدس، وأصبحت أنموذجا للتوبة، حين أخبرها صوت القديسة مريم العذراء بأن تعبر نهر الأردن لتلقى الراحة، فاستمعت إلى هذا النداء، وقدمت إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن وعاشت 47 سنة من عمرها متعبدة وصائمة تطلب التوبة والمغفرة، وقبل وفاتها قابلها راهب من الدير المجاور، وأقام الصلاة معها، واستمع اليها، وأعطاها المناولة المقدسة قبل أن يتوفاها الله، فدفنها الراهب بمساعدة أسد حفر قبرها بمخالبه».

«بيت المخاضة»
تصف الدكتورة الفيرا أراسلي، موقع المغطس، بتلقائية، في سياق تعبيرها عن تجربة السنوات التي عاشتها في الأردن، حيث عرفت المكان، ودرست ذاكرته، وهي تصفه هنا عن قرب، وتترجمه كما رحلة في الزمان والمكان، في كتابتها عن المغطس حيث تقول «غير بعيد عن مصب نهر الأردن في البحر الميت، هناك قبالة أريحا، حيث يشكل النهر انحناء حادا يقع أكثر الأماكن تقديسا من قبل المسيحيين والمسلمين-مكان عماد السيد المسيح، كما هو معلوم؛ فقبل عدة سنوات لم يكن هناك يقين تام بالمكان الذي قام فيه يوحنا المعمدان بتعميد المسيح، فقط في نهاية القرن الماضي، بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1994م تمكنت مجموعة من العلماء العالميين برئاسة عالم الآثار الأردني محمد وهيب من بدء الحفريات. هذه الأبحاث أثبتت أن منطقة الشاطئ الشرقي لنهر الأردن والشواطىء الشمالية الشرقية للبحر الميت تتصل مباشرة بالأحداث المذكورة في العهد القديم والعهد الجديد. النتيجة، في منطقة وادي الخرار، في المغطس، تم اكتشاف أطلال معبد بيزنطي ليوحنا المعمدان ذي أرضية رخامية، مرصوفة بالفسيفساء، ومعمدانية مع درج يؤدي كما هو متوقع مباشرة إلى النهر. كان واضحا أن الكنيسة تم ترميمها مرارا؛ بسبب الدمار المتكرر، نتيجة فيضان نهر الأردن أو الزلازل، كذلك اكتشف العلماء قاعدة عمود يوناني. نسبة هذه الاكتشافات الهامة وجدت تأكيدها في مؤلفات الحجاج، الذين زاروا الأماكن المقدسة في عصر الإمبراطورية البيزنطية، حيث أشاروا مرات عديدة إلى العمود الإغريقي الذي يعلو قمته الصليب، والذي تم نصبه في فترة المسيحية المبكرة في مكان عماد المسيح، هذا المكان المشار إليه أيضا في خارطة مادبا الفسيفسائية، حسب القصص المتوارثة، تم إثبات أن هذا مكان العماد بواسطة هيلينا البيزنطية والدة الإمبراطور قسطنطين الأول، المساوية في قداستها للرسل، حيث بنت أول كنيسة ليوحنا المعمدان، فيما بعد، وبسبب الدمار المتكرر تم بناء كنيستين على قواعد تلك الكنيسة، وهي الأطلال التي وجدها المنقبون. في الوقت الحالي، معظم هذه الآثار موجودة ليس على شاطئ نهر الأردن، بل على بعد عدة مئات من الأمتار إلى الشرق منه، لكن هذه الحقيقة لم تثر أية شكوك لدى المتخصصين: في القرن الخامس الميلادي وبسبب التحركات الجيولوجية غيّر نهر الأردن مجراه بعض الشيء عند مصبه في البحر الميت. هناك أيضا اكتشاف آخر اعتبر إثباتا على صحة الأحداث التي تصفها الكتب المقدسة، في مكان قريب وبجانب نهر الأردن وجدت بقايا معبر مائي قديم (مخاضة)، وكلمة فيافار (فيفانيا)-وهي إحدى تسميات المنطقة- تعني (بيت المخاضة)، بالذات من هذه المخاضة عبر المسيح إلى الضفة الشرقية، ليعتمد على يد يوحنا المعمدان: «حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى يوحنا ليعتمد منه» (انجيل متى). وفي التنقيب التالي تم ايجاد قطع من أواني فخارية، وعملات، وأحواض تجميع مياه، وأجران معمودية، ومعبد المسيحيين القدماء، وأطلال مصليات، وبعض الكنائس، أقيمت إحداها على أعمدة قوسية فوق الأرض؛ لكي تتجنب الدمار عند فيضان النهر، من كل هذا يمكن الوصول إلى نتيجة أن هذا المكان، ومن الفترة البيزنطية، كان يستخدم بنشاط من قبل الحجاج، ولطقوس العماد. وهكذا فإن النصوص الانجيلية التي تتحدث عن أن يوحنا المعمدان عاش وكرز وعمد في بيت عانيا وراء الأردن، وكذلك المكتشفات والأبحاث الأثرية، وخارطة مأدبا الفسيفسائية، والعديد من كتابات الحجاج المسيحيين أعطت إمكانية تحديد موقع المغطس بدقة، كما هو معروف فإن مكان عماد المسيح (المغطس) تم تكريسه وتقديسه من قبل البابا يوحنا بولس الثاني، خلال زيارته للأراضي المقدسة عام 2000م، وكذلك تم اعتماد المكان رسميا من كل كنائس العالم».

محمية تراثية دينية
قبل ختام البوح حول المغطس، أشير إلى بعض الجوانب الإدارية، الخاصة بالموقع، والخطط المستقبلية، ومسار تهيئة هذا المكان، ليكون ذو مستوى عالمي، يليق بتاريخه، وأجد بعض التفاصيل في أوراق، ووثائق، زودني بها كل من مدير موقع المغطس المهندس ضياء المدني، ومساعده المهندس رستم مكجيان، والمسؤول الإداري عبد العزيز العدوان، وفيها إشارة إلى أنه قد تم إعلان الموقع محمية تراثية دينية ، ووضع لها أحكام خاصة بمساحة 8.5 كيلومترا مربعا. تم الاهتمام بالموقع من جميع النواحي لتوفير البنية التحتية، والطرق، والخدمات، والمظلات الخشبية المغطاة بعسف النخيل لاستظلال السائح تحتها، أثناء تأمله، وتمرينه الروحي في المكان، وتم إنشاء بركتين للتعميد، وتم تصميم الموقع بطريقة تتناسب مع البيئة المحيطة، للحفاظ على برية الموقع، وتمت زراعة أكثر من 1500 شجرة حرجية تنتمي للمنطقة، لإعادة بناء الغطاء النباتي للموقع. ولخصوصية موقع نهر الأردن وقدسيته، فقد تم إنشاء مطلين خاصين على نهر الأردن، حيث تم إنشاء مظلة خشبية ومدرج تتناسب مع بيئة الموقع، يمكن الزائر من الوصول بسهولة إلى موقع النهر بالإضافة إلى تجهيزات الساحة المطلة على النهر لاستيعاب أكبر عدد من الزائرين للموقع، وتم زراعة الساحة بشجر النخيل. أما بخصوص التوثيق فقد تم العمل على امتداد الأعوام السابقة مع الكنائس في الأردن والأراضي المقدسة، والعالم، نتج عن ذلك الحصول على وثائق خطية من كنائس العالم تؤكد بأن موقع المغطس هو موقع عماد السيد المسيح عليه السلام، يقع في أراضي المملكة الأردنية الهاشمية. كما أنه تم تخصيص بعض قطع الأراضي في موقع المغطس (كوقف ديني) لغايات انشاء الأديرة والكنائس لكل من كنيسة الروم الآرثوذكس، وكنيسة اللاتين، والأقباط، والأحباش، والسريان، والروم الكاثوليك، والكنيسة الأنجليكانية، والكنيسة اللوثرية الانجيلية، والكنيسة المارونية، وكذلك بيت ضيافة للحجاج الروس، وذلك لإعطاء الصبغة الروحانية للموقع والذي يعتبر موقع حج، كما تم إنشاء مركز المغطس للمؤتمرات، لتقام به المؤتمرات ذات الصفة الدينية، وما يتعلق بحوار الأديان بين أتباع الرسالات السماوية.

تعليقات