ثروت التلهوني: عصامي أتقن السياسة والتميز

صورة
هزاع البراري - معان أرض ولّادة للرجال، وكانت عبر تاريخها الطويل بوابة للأحداث الكبيرة، ومدخلاً لمتغيرات أسهمت في تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة برمتها، فديار معان الممتدة من أطراف الحجاز وحتى أعالي البلقاء في فترات تاريخية سابقة، حفظت لنفسها مكانتها من خلال إرثها الغزير، وفعل رجالاتها الذي لم يتوقف في مرحلة من المراحل، وقد كانت معان بؤرة الدولة الأردنية الحديثة، عندما توجهت إليها أنظار أحرار العرب، بعد أن وصلها الأمير عبد الله بن الحسين عام 1920، لتبدأ عندها مسيرة تأسيس إمارة شرق الأردن، متخذة من عمان عاصمة للدولة الفتية عام 1921، لذا بقيت معان منارة حية في الذاكرة الوطنية، ونبع لا ينضب يمد الوطن بالرجال جيلاً بعد جيل.




ثروت التلهوني قامة وطنية حملت مع زمرة من الأوفياء الخلّص أعباء المرحلة الصعبة، فتركت بصماتها الذهبية في سجلات سنوات البناء المضنية، فكان وطنياً عميق الانتماء وقومياً صاحب بعد نظر دقيق، فلم يتكئ إلا على نفسه في الدراسة والعمل، حتى تبوأ أعلى المناصب ونال أرفع الأوسمة، ليكون من خلال سيرته الحياتية والوظيفية نموذجاً يستحق التقدير وقصة نجاح تزداد قيمتها مع مرور الأيام وتعاقب السنوات، فمال زال ذكره الطيب حاضراً كالشجرة الطيبة. ولد ثروت التلهوني عام 1922 بُعيد تأسيس الإمارة، وكانت معان جوهرة الصحراء والحضن الدافئ الذي تلقفه منذ ولادته، فنشأ فيها خلال سنواته الأولى، متشرباً من فضاءاتها الرحبة ومداها المتسع، لكن وعيه بدأ بالتفتح في العاصمة عمان، حيث التحق بمدارسها ليدرس المرحلة الابتدائية التي تشمل المرحلة الإعدادية أيضاً في تلك الفترة، وكانت مدينة السلط أيامها تضم أول مدرسة ثانوية في شرق الأردن، فانتقل إليها من أجل إكمال دراسته الثانوية، وقد تعلم خلال هذه الفترة الاعتماد على النفس، وقوى صلاته بالطلبة القادمين من مختلف مدن الأردن، كما تميز بعلاقته المتينة بمعلميه، فكان يجلهم ويحترمهم ويجد من أجل أن ينهل من علمهم، وقد قدروا فيه جلده واجتهاده وإصراره على التحصيل العلمي.
بعد أن أنهى ثروت التلهوني دراسته في السلط حاصلاً الثانوية العامة عام 1941، لم يستطع مواصلة تعليمه الجامعي مباشرة رغم تفوقه، فالظروف لم تكن متاحة، فكانت الدراسة الجامعية تتطلب السفر خارج البلاد لعدم وجود جامعات في الأردن، وذلك يعني تحمله وأسرته أعباءً مالية إضافية، فاضطر للبحث عن عمل يعتمد فيه على نفسه، فأصبح موظفاً بسيطاً لعدة سنوات، حتى حانت الفرصة لتحقيق حلمه في الدراسة الجامعية، فسافر إلى دمشق ليدرس في الجامعة السورية التي أصبحت فيما بعد جامعة دمشق، والتحق بكلية الصيدلة رغم أنه كان يرغب بدراسة الطب، لكن هذا ما أتيح له، وكانت الجامعة السورية في تلك الفترة معقل مهم للقوميين العرب شأنها في ذلك شأن الجامعة الأمريكية في بيروت، وقد تأثر التلهوني بهذا المناخ، وهو المفطور على الانتماء العربي الأصيل، وكان لهذه المرحلة صداها الكبير في حياته ونهجه السياسي والوظيفي، وقد تمكن من توثيق علاقاته مع عدد من القوميين العرب ورجالات السياسة من مختلف المشارب الفكرية.
بعد أن أنهى ثروت التلهوني دراسته في سوريا حاصلاً على بكالوريوس الصيدلة عام 1946، عاد إلى الأردن لبدأ مسيرته العملية من جديد، لكن بواقع مختلف، فكان من أصحاب الريادة، حيث قام بافتتاح أول صيدلية في مدينة اربد، عرفت بصيدلية التلهوني، وقد قام في عام 1953 بنقل الصيدلية إلى مدينة عمان لتكون الصيدلية الثانية حينها في العاصمة، وقد حقق نجاحاً ملحوظاً في عمله هذا، لكن ولعه بالهم السياسي حمله بعيداً عن العمل الصيدلاني، حيث غادر هذه المهنة منذ عام 1958 ليدخل فضاءً مختلفاً تاقت له نفسه كثيراً، وكان قد بدأ بدخول هذا المجال عندما قرر خوض تجربة الانتخابات النيابية لأول مرة عام 1956 عن مدينة معان، وقد حقق الفوز في هذه الانتخابات ليكون اسماً برلمانياً مرموقاً، فقد استمر محتفظاً بمقعده النيابي خلال الفترة من 1956 إلى عام 1962، وكانت هذه فترة مفصلية في التاريخ السياسي الحديث للأردن، خاصة مع بدء إجراءات الإتحاد الهاشمي بين الأردن والعراق، فتم اختياره من ضمن النواب الثلاثة عشر ليمثلوا الأردن في مجلس الاتحاد في بغداد، غير أن هذا المشروع الوحدوي أجهض في أعقاب الانقلاب العسكري في العراق لتبدأ مرحلة من الانقلابات العسكرية الدامية في العراق.
خاض ثروت التلهوني انتخابات المجلس النيابي السادس عام 1961 ليواصل حضوره البرلماني اللامع، معززاً مكانته السياسية التي برزت وتميزت بسرعة وثقة ملاحظتين، غير أن هذا المجلس لم يعمر طويلاً بسبب عدم منحه الثقة للحكومة المكلفة حينها، فحل مجلس النواب عام 1962، وبذلك غادر العمل البرلماني لينتقل لحمل مسؤوليات جديدة في آفاق مختلفة، حيث أسند إليه منصب مدير عام ونائب رئيس مجلس إدارة الشركة الأردنية الصناعية التجارية الزراعية – شركة الإنتاج – وبعد نشاطه الملحوظ في الإدارة، عين في العام التالي مديراً عاماً لشركة الإنماء الصناعي، وكانت هذه المجالات بعيدة عن تخصصه الأكاديمي، ولم تكن قريبة من حبه للسياسة، لكنه عرف بحسه الإداري الرائع، واهتمامه بتحسين نوعية ومستوى الخدمات المقدمة، حتى أنه كان في بعض الأحيان يتخفى على هيئة مراجع ليتأكد من حسن معاملة المراجعين وجودة الخدمة المقدمة لهم.
عاد ثروت التلهوني لتسلم أعباء منصب متسق مع تخصصه العلمي بعد غياب سنوات، فقد عين مديراً عاماً لدائرة الصيدلة واللوازم في وزارة الصحة، حيث أسندت إليه هذه المهمة الجديدة خلال الفترة الممتدة من عام 1963 وحتى عام 1965، وكانت له جهود واضحة في تطوير عمل هذه الدائرة المهمة، وقد أكسبته الخدمة في مواقع مختلفة وذات مسؤوليات متعددة خبرة واسعة في العمل العام، مما جعله يضيف لمهاراته الإدارية فضاءات رحبة كفلت له النجاح والتميز في كل منصب عين فيه، ففي عام 1965 أصبح مديراً عاماً لدائرة الإحصاءات العامة حتى 1967، حيث عين مديراً عاماً لدائرة الجوازات والأحوال المدنية حتى 1969، وقد تسلم هذا المنصب في ظل ظروف صعبة ومعقدة نتجت عن حرب حزيران، وكان هذا الموقع هو المحطة الأخيرة للتلهوني في منصب المدير عام، حيث عين بعد ذلك محافظاً في مركز وزارة الداخلية، ثم أصبح محافظاً لإربد وقد تزامنت فترته مع أحداث أيلول 1970، بعد ذلك نقل إلى عمان ليصبح محافظاً للعاصمة عام 1971 وحتى عام 1973.
اختير ثروت التلهوني عضواً في مجلس الاتحاد الوطني لتعويض غياب المجلس النيابي، نظراً للظروف الإقليمية والمحلية، وكان لهذا المجلس دور في تمتين اللحمة الوطنية لتكون كسابق عهدها، وقد أهلته كل هذه الخبرات المتراكمة والنجاحات المتواصلة، ليكون رجل دولة بامتياز، فعندما كلف دولة زيد الرفاعي بتشكيل حكومته الثانية عام 1974، أسند حقيبة وزارة الداخلية إلى ثروت التلهوني، فأثبت كفأته كوزير داخلية فذ، في ظروف وأحوال لم تكن سهلة، ونظراً لإنجازاته في وزارة الداخلية، فقد عاد دولة زيد الرفاعي وكلفه بحقيبة وزارة الداخلية للمرة الثانية على التوالي في حكومته الثالثة، حيث استمر وزيراً للداخلية حتى عام 1976، وقد قامت الحكومة في عهده بإلغاء قانون العشائر، وكانت هذه خطوة جريئة في سياق بناء الأردن العصري ضمن مؤسسات الدولة الحديثة.
بعد خروجه من الحكومة عين سفيراً للأردن في المملكة العربية السعودية عام 1978 حتى عام 1981، وقد منحته هذه السنوات الثلاث خبرة جديدة في العمل الدبلوماسي أضافها لخبراته العديدة في الإدارة والسياسة، وبعد عودته إلى عمان بفترة صدرت الإرادة الملكية بتعيينه عضواً في مجلس الأعيان الثالث عشر، ليعود إلى العمل البرلماني من جديد من خلال هذا المجلس الذي ضم كبار رجال الدولة حينها. ورغم مناصبه المتعددة وإشغالاته المتزايدة، اهتم بحياته الأسرية بشكل خاص حيث أنجب من الأبناء: خلدون الذي أصبح سفير الأردن في لاهاي، وزيدون طبيب الأسنان، ومأمون الذي أصبح مديراً عاماً للمكتبة والوطنية لفترة طويلة، ويشغل حالياً منصب أمين عام وزارة الثقافة، وله من البنات: صباح وخلود.
لقد عرف ثروت التلهوني بجرأته وقوة شخصيته ونظافة يده، وحظي بمكانة كبيرة محلياً وعربياً، وتقديراً لما قدمه ولتميزه نال عدداً من الأوسمة الرفيعة عربياً وأردنياً، وبقي محافظاً على نهجه الوطني الصلب حتى وفاته عام 1985 وقد ناهز الثالثة والستين، غير أن ذكره الطيب باقٍ لا يموت.

hbarari54@hotmail.com

تعليقات