موسى الساكت.. رجل القانون وبوصلة العدالة

صورة 
 
 
هزاع البراري - القانون والمختصون فيه من رجالات الوطن ركائز أساسية، للعدل والأمن التنمية في أي بلد في كل زمان، لذا كانت الدولة الأردنية ومنذ خطوات التأسيس الأولى، تتكئ على أسس قانونية تكفل العدالة والمساواة، من خلال المضي قدماً في إنشاء دولة القانون والمؤسسات الراسخة، بفضل رجال رواد في هذه المجالات، حتى تجاوز الأردن سنوات عمره الحديث بكثير قياساً بالإنجاز والتنمية الشاملة، مما سمح للنهضة العلمية والاقتصادية والسياسية بالتقدم سريعاً، حتى أصبحت الأردن وخلال فترة قصيرة، دولة طليعية وأنموذجاً مدهشاً ليس في المنطقة وحسب بل وفي العالم العربي برمته، ليكون بمصاف دول أكثر قدم عمراً في كثير من المجالات، ويتفوق عليها في بعض المجالات، ولم يكن ذلك إلا فضل هؤلاء الرواد، الذين تحدوا الظروف الصعبة، وتمكنوا من ترك بصمتهم الذهبية في سجلات مرحلة التأسيس وبناء الدولة.


لقد عرف المجال القانوني والقضائي رجالاً رواداً كباراً لم تتوقف جهودهم عند خدمة القانون والقضاء في الأردن فقط، بل كان هذا القطاع رافداً للقطاع السياسي بشكل ملحوظ، فعدد ملفت من رجال السياسة ومن تمكنوا من استلام ارفع المناصب الحكومية والتشريعية، هم قانونيون كانت لهم جهود واضحة في البناء السياسي من خلال تأسيس الأحزاب والقيام بالأنشطة الوطنية والقومية، يكفي أن نشير أن شاعر الأردن الكبير مصطفى وهبي التل – عرار – قد درس القانون ومارسه، ومزجه بالشعر والسياسة، ومن قبله عوده القسوس الذي درس القانون على نفسه ونال إجازة الحقوق. وسلك القضاة والمحامين زاخر بالأسماء السياسية التي أصبح علامات في مجالها وفي السياسة والاقتصاد وفي غيرها من مجالات، وقد خلق هؤلاء الرجال بيئة خصبة ومنتجة، لم تكف يوماً عن مد البلاد بالكفاءات جيلاً بعد جيل.
القاضي موسى الساكت أحد أبرزرجال الجيل الذهبي من المؤسسين الأوائل، فقد كان ومنذ خطواته الأولى متميزاً ولافتاً للانتباه، لما تميز به ذكاء وفطنه وخصال نبيلة، جعلت منه محباً للعدل وساعياً لإنصاف المظلم طوال حياته، وهو ما أهله ليكون كما وصفه الباحث هشام عودة: احد أعلام العدالة والقانون، ورئيساً للسلطة القضائية في الأردن لمدة أربعة عشر عاماً. لم تأت هذه المنجزات عفو الخاطر، إنما جاءت تتويجاً لسنوات من الدراسة والعمل والنجاح المتواصل، فنال ثقة الناس وحبهم واستحق بذلك ثقة القيادة وأصحاب القرار، فقد تحول مع الأيام ومن خلال ما عرف عنه من أراء قانونية واجتهادات أثبتت نجاعتها الأيام والممارسة العملية، بمثابة مدرسة في القضاء والفقه القانوني، حتى أصبحت آراؤه حجة يستند إلها كثير من المحامين، مما يؤكد على علو كعبه في هذا المجال.
ولد القاضي موسى الساكت في مدينة السلط العامرة بالحراك الاقتصادي والعلمي والاجتماعي، وكانت ولادته عام 1910 أي قبل تأسيس إمارة شرق الأردن بنحو عقد من الزمن، حيث كانت البلاد حينها تئن تحت ثقل حكم حزب الاتحاد والترقي التركي، الذي عرف بممارساته العنصرية ضد العرب، وتطبيقه سياسيته التتريكية بالقوة، وقد أثقل على العرب بالضرائب والتجنيد الإجباري، ونكل بأحرارهم في الوقت نفسه الذي أهمل فيه البلاد ودفعها إلى أن تتخلف عن العالم المتحضر بخطوات كبيرة، بقصد إحكام سيطرته عليها، مما مهد الطريق لقيام انتفاضات محلية لعل أبرزها ثورة الكرك عام 1910، ولا شك أن هذه الأحوال التي رافقت ولادته كان لها تأثير كبير على طفولته ونشأته في مدينه السلط، التي كانت على الدوام في بؤرة الأحداث في المنطقة، وكانت منفتحة اجتماعياً وتجارياً على الحواضر المحيطة كالقدس ونابلس ودمشق، وأسست فيها أول مدرسة ثانوية في شرق الأردن.
درس الساكت في السلط وكان منذ صفوفه الأولى في مقدمة الطلبة المتفوقين، لذا كان حظه جيداً بأن تمكن من إكمال دراسته الثانوية من مدرسة السلط العريقة، التي خرجت معظم رجالات الوطن لفترات طويلة، وكان على من يرغب بتحصيل دراسة جامعية مغادرة الوطن لدولة مجاورة، نظراً لعدم وجود معاهد علمية أو جامعات أكاديمية، ورغم صعوبة الأحوال المعيشية حينها، إلا أن رغبته في إكمال دراسته الجامعية، دفعته للسفر إلى سوريا حيث التحق بجامعة دمشق – الجامعة السورية – حيث درس في معهد الحقوق في الجامعة، التي كانت إحدى الجامعات الرائدة في المنطقة، وخرجت خيرة من الشباب العربي المثقف، وكان لها تأثير واسع على أكثر من جيل، وخلال دراسته في دمشق توسعت ثقافته، وصار على معرفة واطلاع على ما يجري في المنطقة والعالم، كما تعرف على عدد من الأفكار القومية والسياسية التي بدأت تتشكل داخل الجامعة وخارجها، وكلها أسهمت في بناء شخصيته ووعيه العام.
نال موسى الساكت شهادة البكالوريوس في القانون متخرجاً من الجامعة السورية عام 1932، ليعود إلى وطنه مسلحاً بالعلم والثقافة والوعي المستنير، ليبدأ مسيرة عملية تميزت بالتفوق والريادة، حيث دخل الحياة العملية عندما عمل في مجال المحاماة، وقد مارس المحاماة مدة عامين، فقد عين في عام 1943 في وظيفة حكومية، حيث شغل وظيفة كاتب في وزارة العدلية – العدل – في عهد إبراهيم هاشم، وسرعان ما لمع كموظف متميز، مما فتح المجال أمامه ليعين قاضياً في محكمة صلح مدينة معان عام 1935، وبذل وضع الساكت قدمه على الطريق الصحيح، وأصبح يمارس عمله من خلال دراسته وتخصصه في القانون، وقد استمر في عمله هذا مدة ثلاث سنوات، تعرف خلالها على المجتمع في معان وبنى صلات قويه معهم. لكنه نقل عام 1983 إلى مدينة اربد في شمالي الأردن، ليعين في منصب المدعي العام، وكان في الوقت نفسه عضواً في محكمة استئناف عمان حتى العام 1946.
في عام 1951 عين موسى الساكت رئيساً لمحكمة الاستئناف في عمان، وتعد هذه نقلة نوعية في مسيرته الوظيفية، وقد حقق في كل موقع شغله نجاحاً لافتاً، وقد برز كقاضٍ من طراز رفيع، حتى عد حجة في القضاء، ومرجعاً موثوقاً في الفقه القضائي، فعين عام 1964 عضواً في محكمة التمييز ومن ثم رئيساً ثانياً لمحكمة التمييز، واستمر في عمله هذا حتى عام 1972 عندما أصبح الرئيس الأول لمحكمة التمييز، وليكون أيضاً رئيساً لمحكمة العدل العليا، وبذلك يكون القاضي موسى الساكت قد أمسك بالمجد في القانون والقضاء من هامته، بفضل جهوده الخاصة، ولخبرته القانونية العالية، ودأبه الذي لا يكل في تحري العدل وإحقاق الحق دون مجاملة، ولا يهمه في سبيل ذلك لومة لائم، فقد كان شجاعاً في الحق، مبادراً في العمل والبحث، لا يتعجل إصدار الأحكام قبل أن تأخذ القضية كفايتها من الوقت في الدراسة والتمحيص.
عرف القاضي موسى الساكت باجتهاداته القانونية، وظل محافظاً على نهجه، لا تلين له قناة في سبيل الحق، متفتح القلب والعقل، متجدداً في علمه ومعارفه، ممسكاً بتفوقه في محراب العدالة، إلى أن قرر إحالة نفسه على التقاعد عام 1986 بعد خدمة طويلة، قضى أربعة عشر عاماً منها رئيساً للسلطة القضائية في الأردن، وظل رغم خروجه من الوظيفة الرسمية مرجعاً قانونياً بفضل خبرته الواسعة وذكائه القانوني الملحوظ، وقد تتلمذ على يديه عدد من كبار رجال السلك القضائي، الذين حملوا راية العدالة معه وأكملوا المسيرة من بعده، فهو لم يكن مجرد رجل قانون أو قضاء وحسب، بل مدرسة قانونية وحجة في القضاء لا يشق لها غبار.
ونظراً لمكانته الكبيرة فقد قام جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال بزيارته في بيته، أطمأن فيها عليه ومنحه وسام النهضة تقديراً لجهوده في مجال القانون. وفي الثالث من كانون الثاني عام 1999 توفي القاضي موسى الساكت عن عمر ناهز التسعين عاماً، حيث دفن في مسقط رأسه السلط، وكانت خسارة الوطن بفقده كبيرة. وقد تم إطلاق اسمه على أكثر من شارع ومرفق، وفي مدينة السلط مركز ثقافي باسم موسى الساكت، كما كان أحد أبرز رجالات السلط الذين تم تكريمهم من أبناء المدينة عام 2007، ويبقى الساكت مع مرور الأيام قامة وطنية كبيرة وشخصية قانونية مؤسسة يشهد لها بالإنجاز والتميز.

hbarari54@hotmail.com

تعليقات