التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الوالة.. أهزوجة المشتاق (1) (2) (3) من بوح القرى لمفلح العدوان

الوالة.. أهزوجة المشتاق (1) 

 

صورة
كتابة وتصوير: مفلح العدوان


أهزوجة هي التي قادتني إلى هناك..
تسربت من البعيد، كأنها طيف سحر، ومصدر دهشة، ونبراس نداء.. يا لجمال الهاتف إذ يناديني عاشقا، متيما، وأنا المنسجم مع الحالة، أسير مغتبطا باكتشافي، أسير إلى نبع النداء هناك، في الوالة، مسرورا بلوحة البهاء التي سألتقيها في المكان الذي عرفته وصفا، وقرأته تفصيلا، غير أن الصوت، هذا الصوت، القادم من أعماق الأزمنة، وتداعيات الجغرافية، وألق التاريخ، كان شفيفا، رهيفا، عزف لحنا شجيا في الوجدان.. يعود الصوت بسيطا، تلقائيا، حقيقيا، قرويا تترجمه أهزوجة يرددها الطيبون في وادي الوالة.. أسمع، فأغيب مع نبرة النداء، يشجيني الغناء:
(يا واريدين الوالة.. اسقوا قعود هلالة/ والأوضح المتعدي.. يرجح بزين الخدّ/ يرجح ولا يترد).

الطريق
ها أنا ذا أستجيب للنداء..
أنا في الطريق إلى الوالة، أسير إليها، وأنا أردد الأهزوجة: «يا واريدين الوالة.. «، وما كنت وحدي، فمعي عاشق آخر لهذا المكان، هو صديقي الصحفي الكاتب أحمد طالب الشوابكة، الذي اصطفيته رفيقا لهذا البوح، وأكرمني بأن كان دليلي إلى الوالة، حيث غبنا معا، في حالة عشق للمكان، وكأن اسم الوالة منحوت من حالة الوله، ونبض المحبة، وترانيم التوق.
حين وصلت مأدبا من الطريق الشرقي، كان ينتظرني أحمد الشوابكة، وكنيسة الرسل على مرمى التفاتة مني، قلت له: الوالة هي المبتغى. فقال: الوالة هي ايقونة الأمكنة. وسرنا إلى هناك، مسافة تقارب من 27 كيلو مترا، وخريطة الطريق معلومة لدينا، مرورا بمدرسة مأدبا الأولى، وسهم يشير إلى درب الجامعة الأمريكية باتجاه اليسار.. ها نحن على طريق مأدبا الجنوبي المؤدي إلى ذيبان، مرورا بعناوين الأمكنة والقرى، بعضها زرتها ذات بوح، والأخرى تنتظر علّ ترحالا اليها يكون قريبا؛ مررت في الطريق إلى الوالة على مريجمة الحامد، والهلالية التي يقطنها الحمايدة، وتقع فيها مدينة الأمير هاشم بن عبد الله الرياضية، وكذلك حاذيت منطقة الحراثين في لب، وتوقفت قليلا عند مفترق الطرق المؤدي إلى مكاور، وسرت شرقا إلى قرية الغدير وبعدها امليح، ثم نزولا بعدئذ باتجاه الوالة، والتي قبل أن أصل الوادي فيها، كانت هناك اشارة ترشد إلى سد الوالة شرقا، وبعد مسافة على الشارع الرئيس النازل إلى الوادي، كانت هناك لافتة أخرى باتجاه الشرق تنبه إلى أنه من هنا الدرب إلى قرية الوالة، وباستمرار المسير يكون التوجه إلى جسر الوالة، والمحطة الزراعية، ومنطقة نزهة الوالة، وامتداد وادي الوالة المؤدي إلى الهيدان بعد ذلك.. كل تلك الطريق مشيتها مع رفيقي، وتتبعنا التفاصيل فيها، حيث كان بوحا بادلنا فيه المكان عشقا بعشق، وكانت الوالة في حالة فيض محبة، وعطاء ذاكرة، وتفاصيل جمال، قل نظيرها، وكنا نرصد كل ملامح سحر الصورة، وأبجدية الماء، وترانيم التاريخ في كل المناطق التي زرناها في قرية الوالة، ونزهتها، وواديها.

الملجأ
بوح الجمال هذا يوازيه حديث الكتب، والمصادر، والمراجع، التي وثقت للوالة، ورصدت كثيرا من تفاصيلها، إن كان على مستوى المكان وجغرافيته، أو في سياق قيمته التاريخية، وما دارت فيه من أحداث مهمة على مر العصور، ولعل البدء من تلمس حالة المكان وتقسيماته، يمكن أن يشكل مدخلا لوعي الأبعاد التاريخية له، وكذلك كتابات الرحالة، وإشارات الآثاريين، التي كلها تصب في بوتقة مكونات الوالة عبر الزمان والمكان.
وإذا كنا استعرضنا في تقديمنا للوالة، بأنها مقسمة بحسب واقع الحال، الآن، إلى قرية الوالة، والتي تقع في الجهة الشرقية، ولها مدخل يوازي الوادي، وفيها تجمع سكاني، ومظاهر اجتماعية وزراعية، فعناك الجانب الآخر من الوادي والوالة توجد منطقة نزهة الوالة، وكأنها مكان ترويح، ومتنزه جمال، ومياه، وخضرة، محاطة بالجبال، كذلك في إطار ثالث هناك خربة اسكندر الأثرية، كما أن لسد الوالة مساحة من التأثير في معمار المكان، وإعماره.
ضمن هذه السياقات يمكن البدء بالحديث حول تسمية الوالة، وأحواض أرضها، من خلال تصفح كتاب»المعاني اللغوية لأسماء المدن والقرى وأحواضها في المملكة الأردنية الهاشمية» للباحث ركاد نصير، حيث يشير إلى الوالة تحت عنوان (مزرعة وادي الوالا)، وفي هذا الإطار يقول عنها: «مزرعة وادي الوالا: ألوأل: الملجأ، والوأله: البعرة، الدمنة والسرجين، أبعار الإبل والغنم تتجمع وتتلبّد».
أما فيما يخص أحواض مزرعة الوالا، فيشير اليها ركاد نصير بأنها كل من: «حوض الجوفة: الجوف من الأرض: المطمئن الواسع. حوض إسكندر: إسم أعجمي. حوض عرقوب دحمزة: العرقوب: ما إنحنى من الوادي والتوى شديداً، دحمزة: الدحمس، الأسود من كل شىء، أو العظيم الشديد السواد. حوض المخفر: مكان وجود الشرطة أو الجنود للمحافظة على الأمن الداخلي أو على حدود البلاد».

مسار الوادي
ربما يأخذ الحديث عن وادي الوالة مساحات من البوح، لأنه عريق الحضور، وفي موقع مهم ومؤثر على أحداث كثيرة مضت، ولكن نبدأ بتحديده، وبعض تفصيل جيولوجي عنه، وستكون هناك عودة له غير مرة مع كتابات الرحالة والجغرافيين والمؤرخين.
يشير الباحث محمد نويران القعايدة في كتابه (تاريخ مأدبا وجوارها 1893-1946م) إلى وادي الوالة بقوله: «وادي الوالة: يقع هذا الوادي شمال قرية ذيبان ويربط بين منطقة مادبا وذيبان، وكان يطلق عليه وادي الثمد، والثمد منطقة توجد في أعلى وادي الوالة، ويمكن استخراج الماء من المنطقة بسهولة لأنها غنية بالمياه الجوفية، ويصب في البحر الميت، وأغلب سكان هذه المنطقة من قبائل بني حميدة الذين يعتمدون عليه اعتمادا كبيرا في الزراعة المروية».

خربة اسكندر
وبالإضافة إلى الوادي، وتداعياته، فهناك في الوالة أثر قديم متمثل في خربة اسكندر التي ذكرها الدكتور محمد عبده حتاملة في الجزء الرابع من (موسوعة الديار الأردنية) بقوله أنه «تقع في وادي الوالة خربة أثرية تسمى (خربة اسكندر)، وقد عثر في هذه الخربة على مكتشفات تعود إلى إلى العصر البرونزي، وهي عبارة عن بقايا مبان متعددة الأغراض كدور العبادة، والمدافن. كما اكتشفت فيها أوان فخارية لحفظ الأطعمة، وقطع صوانية ومعدنية استخدمت لطحن الحبوب، وقطع أخرى هي عبارة عن رؤوس سهام تم استخدامها في الصيد. وتدل المكتشفات الأثرية في خربة اسكندر على أنها كانت مدينة عامرة عبر العصور منذ العصر النحاسي. وقد مارس سكانها الأنشطة الزراعية والتجارية مما يدل على تقدمهم الحضاري».
كما مرّ لانكستر هاردنج في كتابه «آثار الأردن»، على خربة اسكندر في حديثه عن الوالة، بعد زيارته لمكاور، بقوله: «تسير الطريق جنوبا نحو الكرك، وسرعان ما تلتوي منحدرة إلى وادي الوالا، أحد فروع الموجب (أرنون). ويجري في الوالا جدول تظلل مجراه شجيرات الدفلى ذات الزهور الحمراء. ولا تعدم أن تجد سمكة لا بأس بها في بعض بركه. وبعد أن تعبر الجسر القائم فوق الجدول، ترى حجرا منتصبا وحده (منهير) إلى جانب الطريق وحوله عدد من الحجارة المماثلة مطروحة على الأرض. وفي هذا الموضع على الجانب الشمالي للجدول –توجد بقايا قرية قديمة تدعى خربة اسكندر. وهي قرية تعود إلى فترة العصر الخالكوليثي والعصر البرونزي الأول، وربما كانت هناك علاقة بين حجارة المنهير وهذه القرية. ويمكن مشاهدة مجموعة من الصوى (الحجارة التي تكتب عليها مسافات ا لطرق) الرومانية، على مقربة من رأس الوادي. إنها ما تزال مطروحة في مواضعها القديمة إلى جانب الطريق التاريخية غير بعيد عن الطريق الحديثة».


سيرة قرية الواله


تقع قرية الواله على وادي الواله، الممتد إلى الجنوب من مأدبا، حيث يمكن تحديدها فلكيا على خط الطول 35 درجة و 47 دقيقة شرقا، ودائرة العرض 31 درجة و33 دقيقة شمالا. وتتبع الوالة إلى قضاء مليح، في لواء ذيبان من محافظة مأدبا، وهي من ضمن مناطق بلدية لب وامليح.
الديموغرافيا:
تقسم الواله إلى قسمين هما الوالة، ونزهة الوالة، حيث يبلغ يبلغ عدد سكان كل منطقة، بحسب آخر تعداد عام للسكان والمساكن عام 2004م، كما يلي: الوالة: (29نسمة) ( 14 ذكور، و 15 إناث)، يشكلون 6 أسر، تقيم في 21 مسكنا. أما نزهة الوالة فعدد سكانها(341 نسمة) ( 158 ذكور و 183 إناث)، يشكلون 51 أسرة، تقيم في 67 مسكنا.
 التربية والتعليم:
توجد في قرية الوالة مدرستان.
المجتمع المدني:
توجد في القرية جمعية واحدة هي جمعية وادي الوالة الزراعية التعاونية للزراعة المروية.
تعتمد القرية في معظم خدماتها على القرى المجاورة خصوصا امليح، ولب. .


الوالة.. أهزوجة المشتاق (2) 

 

صورة
كتابة وتصوير: مفلح العدوان - هبّ الهوا، فتحركت أغصان الوادي، ومعها أشجان معتقة تسكن المغائر والكهوف، وذكريات ينكأ توقها أي «طارش» يهلّ من بعيد!
هبّ الهوا.. والوادي، كأنه يصحو من غفوة طالت عليه، يتمطى، يتأمل تفاصيله، يفرك عينيه، يعيد ترداد اسمه: وادي الوالة..وادي الوالة.. يتساءل من هذا الذي أيقظني، ودعاني لأن أعيد تأمل حاضري، واسترجاع سيرة ماضيّ، والتأمل في مستقبل هذه الجغرافية التي أواطنها، في القادم من قطار الزمن؟
هبّ الهوا.. واستقبلني وادي الوالة كما توقعت رهافة الاستقبال، شفيفا كما روح، صادقا كطفل، مطمئنا كأنه القديس.. وحملني على محفة التوق، ومضى بي كأنه يريد استعادة كل مخطوط كتابه الذي لم يدوّن حتى الآن، كان هذا ما يعتقده الوادي، غير أني ترفقت به، قلت له: ما أجملك. وقلت: عليك بركة الطيبين، وموسيقى الماء.. تاه من لا يعرفك!!

بيركهارت يتحدث
أنا أعرفك، وأقلّب كُرّاس تاريخك، لأذكرك.
أنا أعرفك، فاهدأ، هداك إله الأعالي، ورعتك ربة الشيح والدحنون.. سأقرأ ورقة من كراسك، ورقة كتبها غريب مرّ هنا قبل مائتي عام، كان اسمه بيركهارت، وكان هذا بالتحديد في 14 تموز عام 1812م، ربما في ذاك الزمن تنبهت له، وكنت أكثر تلقائية، وأقرب إلى الطبيعة من طبيعتك الآن، ومياهك تهدر، وأسماكك متألقة الحضور، آنذاك قال بيركهارت في وصفك، أنت يا وادي الوالة، أنت في تلك اللحظة، وليس الآن: «بعد ثلاث ساعات وثلاثة ارباع الساعة، بعد أن انحططنا من لب وصلنا إلى وادي الوالة. ومياه الجدول أكثر قليلا من مياه زرقاء ماعين، وهو يجري في فرشة صخرية في فجواتها عدد لا يحصى من الأسماك التي كانت تتحرك، وقد قتلت عدد منها بمجرد رمي حجارة في الماء. وضفاف الجدول مغطاة بأشجار الصفصاف والدفلى والطرفاء. وقد شاهدت متحجرات صدفية كبيرة في الوادي... وعلى بعد حوالي ساعة من غربي الموقع الذي اجتزنا عنده وادي الوالة، توجد خرائب قلعة صغيرة تقع على قمة سلسلة الجبال السفلية. والعرب تدعوها قرعوم ابو الحصين... وكانت تخيم في وادي الوالة جماعة كبيرة من عرب الشرارات، وهم بدو من البادية يصلون إلى هنا في الصيف انتجاعا للمرعى ويشكلون عشيرة تزيد عن خيامها على خمسة آلاف خيمة. ولأنهم لم يتمكنوا من التصرف بمنطقة خصبة المرعى وانهم مطوقون بعشيرة عنيزة الشمالية وعنيزة نجد والحويطات وبني صخر، فهم يهيمون على وجوههم هنا وهناك في حالة بؤس. ولديهم عدد قليل جدا من الخيل ولا يتمكنون من رعي أية قطعان من الغنم أو الماعز. وهم يقيمون بصفة رئيسية على طريق الحج قرب معان. وفي الصيف يدلفون نحو البلقاء ويندفعون باتجاه الشمال احيانا إلى حوران. وهم مضطرون أن يقنعوا بنصب خيامهم في مواقع لا يختار بنو صخر وعنيزة –الذين يحاولون دائما أن أن يعيشوا معهم في أمان- رعي مواشيهم فيها. وتتألف ثروة الشرارات الوحيدة من الإبل، وخيامهم مثيرة للشفقة. وكلا الرجال والنساء يتجولون في حالة عري تقريبا. والرجال يسترون ما حول خصورهم فقط، والنساء لا يرتدين شيئا سوى أثواب فضفاضة لا تعدو كونها أسمالا بالية تتدلى حولهن. هؤلاء العرب أكثر نحولا من بني عنيزة، كما أن بشرتهم أشد سمرة. وقد اشتهروا بأنهم مغامرون بارعون وهو لقب يعتقدون أنه يضفي عليهم شرفا عظيما».

الكورة
ويضيف بيركهارت في وصف وادي الوالة:
«بعد أن صعدنا الجبل القائم على جانب وادي الوالة الجنوبي وصلنا بعد أربع ساعات ونصف الساعة إلى تل رائع يقع على قمة الجبل. وجميع البلاد الواقعة جنوبي واد الوالة الو وادي الموجب تقع ضمن ما يسمى ب(الكورة) وهو اصطلاح يستعمل في سوريا. والكورة هو سهل مؤاب والتربة هناك طينية جدا وغير خصبة. ويصادف هنا أيضا مرة أخرى حجر حوران الأسود والبازلت إذا صحت تسميتة بذلك. وينبع نهر الوالة على مسافة ثلاثة ساعات تقريبا عن شرقي الموضع الذي اجتزته منه، ويتجه على مقربة من هذا الموضع للجنوب في نتعرج إلى أن يدنو من وادي الموجب حيث ينحرف لجهة الغرب مرة أخرى. والقسم السفلي من النهر ستبدل باسمه اسم سيل (الهيدان) الذي يصب في وادي الموجب على مسافة ساعتين تقريبا من البحر الميت بالقرب من مكان خرب يدعى دار الياشة. ويبدوا أن وادي الوالة هو نفس الوادي الي أطلق عليه نهاليل في خريطة دانفيل، ولكن هذا الاسم الأخير غير معروف لدى العرب. ومنبعه لا يبعد بهذه المسافة التي تظهر في الخريطة. وبين وادي زرقاء ماعين ووادي الوالة يوجد جدول صغير آخر يدعى وادي الجبل».

مخفر تركي
أسمعت ما قال بيركهارت عنك. هذا مكتوب في واحدة من صفحات كراس تاريخك، ومدوّن في ذاكرتك، والحكمة تقضي بأن يأتي من يجمع كل ما كتب عنك، وينسقه باقة ورد، أوراقها غزل بك، وتفاصيل من تاريخك، وشيء من ذكرياتك، ثم تهدى لك.. هل تريد يا وادي الوالة أكثر لتصحو قليلا من غفوتك هذه، وتنضو الحلم عن عينيك، لترى زخم ما قيل عنك، ولك، فيما تكسر من ماضي الزمان. أقرأ لك الآن ما تيسر مما دوّن عنك في كتاب «وادي الأردن والبتراء 1902م» لوليام ليبي وفرانكلين هوسكنز، والذي ترجمة الدكتور أحمد عويدي العبادي، وقد تمت الكتابة هناك عن الوالة في الفصل المعنون ب»من مأدبا إلى الكرك»، وقيل فيه بأنه «سجلت قياسات الارتفاع في مأدبا مقدار ألفين وثمانمائة قدم عن سطح البحر المتوسط، انخفض بعد مسير ساعة حوالي مائة قدم. لقد سرنا فوق الطريق الروماني التي تظهر على طول أميال أمامنا ومن خلفنا. وبعد ساعتين شارفنا على الوالة حيث نرى أخدودا بعد أخدود، وصدعا بعد صدع، بما يشكل منظرا غاية في الجمال. سرنا فوق طريق عبر وادي الوالة حيث نزلنا خلال ساعة إلى 1700 قدم وجلسنا حول جدول مائي جميل لنتناول غداءنا. وعلي الطرف المقابل من فوقنا شاهدنا مخفرا تركيا مليئا بالعساكر ومن حوله عدد من الخيول. وبعد نصف ساعة من المسير شاهدنا موقعا يرفرف عليه علمان: تركي وأميركي. وفي استراحتنا هذه زارنا مدير مأدبا الذي كانت وظيفته جباية الضرائب من حوالي ألف خيمة من هؤلاء العربان المتفرقين بين طويات وتلال هذا الوادي هنا وهناك... انطلقنا من نبع الوالة المحاط بأشجار الدفلاء، وتسلقنا سفح الجبل المنحدر، حتى وصلنا أطلال ذيبان..».

طاحونة «الهواوشة»
هناك، في الوادي، راع، و»شلية» غنم، وكلب، وحمار، ودرب منحدر، كان هذا الجمع يسير فيه بصعوبة، نزولا من أعلى الجبل المقابل، إلى الدرك الأسفل من الوادي حيث الماء، والعشب، واستراحة تتيح للمتعب لحظة تأمل، وسط كل هذا الثغاء.
أرقب هذه اللقطة، وأتذكر مسيرا مختلفا كان قبل نهاية القرن التاسع عشن وبداية القرن العشرين، وربما استمر فترة بعد ذلك، كان وصفا للبدويات وهن يأتين الوادي، وادي الوالة، يحملن القمح، باتجاه طاحونة الهواوشة، ليطحنه، ويحملنه مرة أخرى إلى بيوتهن، كي ينضجنه خبزا للعائلة المنتظرة رغيف الشراك، على أحرّ من الجمر.. هذا في المتخيل، يعزف وترا في قلب القاص، والكاتب، مني، غير أن المؤرخين لهم عزفهم المختلف لتوثيق هذه اللقطة، ولنا في استاذنا الدكتور محمد عدنان البخيت قدوة في هذا المضمار، نستشهد به من كتابه (دراسات في تاريخ بلاد الشام/الأردن)، وقد وثّق ما كتبه الرحالة حول الطواحين في الأردن، حيث يذكر الوالة في هذا السياق، والطاحونة الموجودة فيها، كأنها ذات الطاحونة التي أتخيلها هناك، حيث يقول: «..ويخبرنا G.A.Smith أنه وجد طاحونة في الوالة، وأنه شاهد نساء بدويات يحملن القمح اليها، وقد كان مالك الطاحونة يتقاضي أجرة نسبتها 1/12 من الكمية المطحونة. وربما تكون هذه الطاحونة هي نفسها التي شاهدها C.Schick وذكر أن الفيضانات قد دمرتها..». كما يورد الدكتور البخيت في جدول طواحين منطقة البلقاء ومعان والكرك خلال الفترة من 1864-1918م، أن هناك في وادي الوالا، توجد طاحونة اسمها طاحونة قاع الهواوشة. وفي سياق الحديث عن هذه الطاحونة، يشير الباحث محمد نويران القعايدة في كتابه (تاريخ مأدبا وجوارها 1893-1946م) إلى أن «الطاحونة الواقعة في وادي الوالة، أوقفها سليمان بن فالح الهواوشة على الجامع الحميدي في مدينة الكرك».

المحطة الزراعية
قرب جسر الوالة، وقفة انتظار، والتفاتة تأمل.. هناك وعلى مرمى التفاتة أقرأ «محطة الوالة الزراعية»، وكان بعض العمل على مدخلها، فأخذني هاجس الاستفهام نحو البوابة، لأستفسر عنها، ولأكتشف أنها تشكل بعضا من تاريخ المكان وذاكرته، حيث أنه تم تأسيسها في الخمسينات، وفيها محطة بحثية انتاجية في الجانب النباتي والحيواني، مساحتها تقارب 200 دونم وتعمل على تحسين السلالات الحيوانية، وتطوير اشتال نباتية ملائمة للمنطقة، من زيتون وفستق حلبي، ورمان، وغيرها.
عدت إلى جسر الوالة، وأكملت تأملي له على امتداد الدرب، أحاول من هذه النقطة تكثيف الصورة للوادي الجبال حوله، والخضرة فيه، والمياه التي تتدفق فيه، كل هذا وأكثر أحاول لظمه في مسبحة تأمل وادي الوالة علّني أستطيع التعبير عن قصته عبر كل مراحل الزمان.

الوالة.. أهزوجة المشتاق (3)


صورة
كتابة وتصوير: مفلح العدوان - أسمع صوتا كأنه سنابك الخيل.. والصهيل يعلو.. وقرقعة عتاد.. ألتفت حولي، وأنا ما زلت في الوالة، قريبا من الجسر، ولست بعيدا عن سرب أشجار بجانبي.
ما سر هذه الأصوات التي تتردد في ذاكرتي، وتحضر كأنها حدث واقع الآن؟ ربما هو بعض مخزون ما قرأت عن هذا الوادي، وما كان له من دور في المواجهات بين جيوش الصليبيين، وصلاح الدين الأيوبي، وما كان من تفاصيل، حين كان حصار الكرك، وما قبل ذلك، وما بعده. كأنه الآن، وتلك الأحداث يرجعها العقل الباطن، فتتشكل في الذهن، وتطفو على السطح على هيئة خيالات، وأصوات، ليصير هبوب الريح، كأنه فيلق مقاتلين، وحركة السيارات على جسر الوالة، تتماهى مع تلك الخيول المتجهة إلى الكرك، وأغصان الأشجار رايات تخفق هنا، وهناك، وأنا ما زلت أتأمل هاتين الصورتين الممزوجتين من أزمنة مختلفة.

البرق الشامي
أتتبع لون الصورة الذي يفضي إلى تاريخ مضى، للوالة، أراقب تفاصيل قصة المكان من خلال ما كتب عن هذه الصورة، فيتحول لون الصورة إلى أحرف وكلمات، أقرأها، وأستحضر معها ما كتبه، حديثا، الباحث المهدي عيد الرواضية في الجزء الثاني من (مدونة النصوص الجغرافية لمدن الأردن وقراه)، وفيه استشهاد بما كتبه العماد الأصفهاني، وابن شداد، فيما تكرر من ذكر لوادي الوالة أثناء تأريخهما للحروب الصليبية، وسيرة السلطان صلاح الدين الأيوبي. وفي هذا السياق يشار إلى أن الوالة ذكرت في كتاب «سنا البرق الشامي»، للعماد الأصفهاني، وفيه تتبع لحروب صلاح الدين مع الصليبيين، حيث يكون المرور هنا على وادي الوالة، واصفا صعوبة مسالكه، ومشيرا إلى تجمع جيوش من الصليبيين، لنجدة من كان يحاصرهم صلاح الدين الأيوبي في الكرك، وفي هذا يقول العماد الأصفهاني: «ولما آب السلطان من الغزو، جعل مآب الجهاد إلى جهة مآب من إقليم الشراة، ونزلنا بأدر، واستأمن إليها أهلها المسلمون فأذقناهم بحلية الدين حلاوة الأمان.. ثم خيّمنا على الربّة، ثم حصرنا الكرك، وحررناها، وكانت المجانيق تراوحها، وتغاديها، وتعاودها، وتباديها.. ثم انقضى شهر رجب 580 ه وعلم (السلطان) باجتماع الفرنج في الموضع المعروف بالوالة.... وصل الخبر ونحن على حصار الكرك، وقد ضايقناها أشد مضايقة، وعالقناها أحد معالقة بأن الفرنج قد أقدموا مجتمعين ولنداء المحصورين مستمعين، وقد جاءوا مدججين، وفي بحر الموت ملججين، فلما سمعنا بجمعهم طمعنا في وقعهم، وقلنا متى رقمنا القوم وعاودنا السوم في مجمعهم وربضنا على مطلعهم وخيّمنا قرب مخيمهم وهم في منزلة الوالة نازلون والهون للكريهة كارهون... وكانت مسالك الدخول اليهم صعبة وعرة وطرق التطرّف نحوهم متعمقة متقعرة فقلنا نحصرهم ونصير عليهم ونصابرهم حتى يخرجوا فيخرجوا إلى مفازة البلقاء فيفوزوا للقاء وأطاف العسكر بهم أياما فلم يطلق أقداما فرحل عنهم لخناقهم منفسا، فبقي الأمير عز الدين جاولي هناك مقيما للإطلاع على أحوالهم مستديما حتى إذا عرف بحركتهم للخروج أعلمنا بحالهم وأقدمنا على قتالهم فأصبح وربعهم خاليا ورسمهم باليا وأنهم لم ينالوا بركوب الخطر في طريق لم يخطر ببال فاتخذوا الليل حملا ورجعوا القهقرى وسلكوا في المضايق سبلا وفروا من الشرك وكروا إلى الكرك فأسفنا على فوت الفرص وإفلات الطاير من القفص، واجتمعت العساكر في عماق بالأثقال وركزنا زرق الأسنة الزرقاء وقرّبنا بلقيا الخير قرى البلقاء وعدنا بالسلامة نذكر سلامة الأعداء».
السلطان
وأما ابن شداد فقد قال في كتاب «النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية»: «وكان الافرنج قد نزلوا بموضع يقال له الوالة وسار (السلطان) حتى نزل على قرية يقال لها حسبان قبالة الإفرنج ورحل منها إلى موضع يقال له ماء عين (ماعين) والإفرنج مقيمون بالوالة.. ثم رحلوا قاصدين الكرك فسار (السلطان) وراءهم فقاتلهم إلى آخر النهار..».

الحصار
أما في كتاب تاريخ شرقي الأردن وقبائلها» فيقول فريدريك ج بيك، حول هجوم صلاح الدين الأيوبي على الكرك، عام 578ه، وتظهر في هذه اللقطة الوالة كجهة جاء منها الصليبيون مددا للمدينة، على هذا النحو: «وفي خريف عام 1183م (578ه) غادر صلاح الدين دمشق وسار في شمالي شرقي الأردن ثم قطع نهر الأردن قرب بيسان فلم يكن الصليبيون على استعداد للقتال ولكنهم كانوا يحشدون جنودهم في صفورية فأوعزوا إلى جيش الكرك أن يلتحق بالجيش الرئيسي في صفورية، بيد أن صلاح الدين ضربهم ضربة شديدة قبلما يتمكن الجيشان من الانضمام بعضهما إلى بعض. فعندها استنفر اللاتين جميع أمرائهم فلبوا الطلب ففاق عددهم جيش صلاح الدين واضطروه إلى الانسحاب إلى دمشق. وبعد مضي تسعة أيام من وصوله خرج ثانية إلى الكرك فانضم اليه مدد من مصر وابتدأ بحصار المدينة. وكان صاحب الكرك رينالد حينذاك في عكا وما أن سمع بهذا الحصار حتى رجع على جناح السرعة ليساعد عماله في الدفاع عن عاصمته التي كانت محمية بقلعة على غاية من المناعة لكن وحدات الجيش المدافعة عن البلدة التي امتلأت بالملتجئين من زراع وتجار الجهات المجاورة لم تكن كافية، ولهذا حشد جنوده في القلعة ذهابا منه إلى أن الدفاع عن بوابتي المدينة الصغيرتين سهل جدا. فابتدأ السلطان بدخول أحد الأبراج وكادت القلعة أن تسقط بيديه أثناء هذا الجهاد، ولكنها خلصت بجهود رجل ألماني يدعى افرنوس الذي ظل رابضا في مكانه على الباب مدافعا إلى أن أغلق. صد هذا الهجوم العنيف وبقيت القلعة في حصار إلى أن ظهر بلدوين في وادي الوالا آتيا مددا لأهل الكرك، وعندها انسحب السلطان إلى دمشق».

رينالد
ويضيف فريدريك بيك هجوما آخر على الكرك، وكذلك تجمع وحشود في وادي الوالة، حيث يشير إلى عام 579ه، بقوله: «وفي أوائل عام 1184م (579ه) تلقى العادل والي حلب وتقي الدين والي مصر أوامر ليجمعا جموعهما ويسيراها نحو الكرك. وبالرغم من الصعوبات التي تكبداها في جمع هذه الجيوش من جزئي المملكة المنفصلين والبعيدين بعضهما عن بعض فقد احتشدت هذه القوى في دمشق وخرجت منها إلى البلقاء مارة بالزرقاء وعمان وزيزياء واللجون والربة. شرعوا في حصار الكرك في اغسطوس ولما لم يقدر رينالد على الدفاع عن المدينة هجرها وتحصن في القلعة، فدخل المسلمون المدينة وأحاطوا بالقلعة وأخذوا في الرمي على أسوارها قصد تهديمها. وفيما كان يحدث ذلك في الكرك زحف ملك القدس على شرقي الأردن وأخذ مواقع لجيشه في وادي الوالا وقرب حسبان وفي عين موسى. عندها اضطر السلطان أن يكف عن الحصار إتقاء لهذا الخطر المداهم ووقف حائلا دون تقدم العدو إلى الكرك أو الاتصال معها. عند ذلك تظاهر الجيش الصليبي بالتقهقر وتأهب صلاح الدين للعودة إلى دمشق. لكن لم يلبث الصليبيون أن عادوا إلى الكرك ظنا منهم أنهم توفقوا في خدع السلطان ولكن نسوا أنهم تركوا فلسطين بدون حامية تدافع عنها فعلم ذلك السلطان وأوفد مفرزة من جنده للاغارة على نابلس والعفولة وجنين. ولما تم له ما أراد قفل راجعا إلى دمشق..».

سد الوالة
لا بد من الوصول إلى سد الوالة، فهو من أهم المعالم في المنطقة هناك، حيث أنه قد تم انشاء سد الوالة على وادي الوالة بسعة تخزينية تصل إلى حوالي أربعة ملايين متر مكعب من المياه لاستعمالها لأغراض تغذية المياه الجوفية، ولأغراض الشرب في محافظة مأدبا.
يمكن تحديد موقعه بالنسبة لمادبا بأنه يقع على مسافة حوالي 20 كيلومترا جنوب مأدبا، على شمال الطريق الملوكي المؤدي إلى ذيبان.

تآلف الزراعة
تشير الذاكرة المجتمعية للوالة إلى أن أهلها هم من عشائر الحمايدة، ولكن الدائرة تتسع لتشمل عائلات وعشائر كثيرة، بسبب الطبيعة الزراعية للمكان، ولذا فإن رصدا عابرا للمجتمع هناك يمكننا من الحديث عن عشائر الحمايدة، وعشائر الجبارات، وفي التفصيل هناك عبيدات، وسنيد، وجماعين، وكواملة، وحيصة، وشخانبة، وغيرهم، اضافة الى كثير من الإشارات والتفرعات، للعشائر التي لها حصة، وأرض، في الوالة، وكذلك للفلاحين القادمين إلى تلك المنطقة، من أماكن كثيرة، كلهم تآلفوا ليزرعوا، ويحييوا المكان بأيديهم الطيبة.
وقد بلغ عدد سكن وادي الوالة حسب احصاء عام 1994م 113 نسمة، بينما بلغ عدد سكان نزهة الوالة 370 نسمة، بينما في عام 2004م كان تعداد سكان الوالة 29 نسمة بينما سكان نزهة الوالة 341 نسمة. وهناك في الوالة بئر ماء ارتوازي تابع لجمعية الوالة الزراعية التعاونية، وهو بئر الشخانبة، وهو البئر الوحيد في منطقة الوالة.

 


 

تعليقات